خاص بآفاق البيئة والتنمية
ليس من السهل أن تعيش في مدينة من أكثر المدن كثافة سكانية في العالم ويزداد تعداد اهلها 60 ألفاً في السنة ثم تصل نسبة البطالة فيها إلى 44% وفوق هذا هي مُحاصرة منذ 10 أعوام، وقد تجد نفسك يوماً تعمل في "صناعة إعادة التدوير" لا من أجل البيئة بل من أجل ان تعيش اولاً، وهي صناعة باتت بارزة جداً لمن يُتابع احوال غزّة وتبدأ من النبش عن نفايات بلاستيكية يُعاد استخدامها لتصنع منها سلعاً جديدة ومروراً بالبحث عن الحديد والنحاس بين الركام والبيوت وانتهاء بتكسير ركام المنازل وما خلفته الحرب لصناعة شيء من "الخرسانة" او استخراج شيء من الحديد.
في التقرير التالي نستعرض شيئاً من حكايات هذه الصناعة وما فيها من منافع ومفاسد!
إعادة تدوير الركام
الحُروب الإسرائيلية الأخيرة التي شهدتها غزّة خلّفت 2.5 مليون طن من الركُام فقط، وهي كميّة ضخمة جداً وإن لم تتم معالجتها بالشكل المطلوب، يُمكن أن تُشكّل عبئاً حقيقياً على المنظومة البيئية المنهكة اصلاً في غزّة، فهل من حُلول؟
أكيد، حتى على الصعيد الرسمي هُناك حديث لاستغلالها في توسيع ميناء غزة أو إنشاء ألسنة بحرية تمنع نحر الشواطئ وتُشكل كاسرات موج يُمكن استخدامها لأغراض سياحية، كما يُمكن استغلالها في اعمال البناء وأعمال صيانة الطرق والبنية التحتية حيث يُمكن صنع مادة البسكورس من هذه النفايات (الركام) وذلك بعد طحنها في كسّارات خاصة. هذا غير وجود دراسات تؤكد إمكانية صناعة الخرسانة (الباطون) مثل دراسة د.يوسف الغزير الذي أكّد ان مزج الرُكام الخشن الناتج عن طحن الأجزاء الخرسانية فقط مع الركام الناعم والرمل الطبيعي يُمكن ان يُعطي مزيجاً ممتازاً.
الكثير من هذه الأفكار بقيت للأسف حبراً على ورق، وذلك بسبب الحصار وعدم توفّر الإمكانيات الفنية والمالية، وفي الواقع، فإن صبر المواطنين نفذ من وقت طويل وبات كثيرون منهم يعملون في الكسارات التي تصنع "الحصمة" من رُكام ومخلفات الحرب رغم كُل المخاطر، إلا انهم لا يُبالون بذلك لأن هكذا صناعة أفضل بكثير من الجلوس في البيت بلا عمل، عدا عن أن الرُكام يستخدم في صناعة حجارة "البلوك" وهو امر مطلوب جداً في غزة.
قبل أيام قليلة فقط، احتفلت غزّة ببناء منارة مميزة من ركام الحرب وتحديدا من قاعدة أبراج النّدى الّتي تهدّمت أثناء الحرب الأخيرة على قطاع غزّة، وهي المنارة الأولى من نوعها في غزة ورُبما في العالم!
منارة من ركام الحرب في غزة
إعادة تدوير الحديد
ولأن كُل بيت من البيوت المُدمرة تحتوي على كميّة لا بأس بها من الحديد فقد أصبحت هذه مصدر رزق للكثير من العائلات وأصبح استخراج الحديد منها عملاً يومياً بالنسبة لكثيرين ممن يتوجهون كُل يوم إلى اعمالهم حيث يقومون بتحطيم الكُتل الاسمنتية الضخمة للوصول إلى قُضبان الحديد التي بداخلها.
ولعل لا شيء يُمكن ان يفسّر مدى نجاح هذه الصناعة إلا غلاء اسعار الحديد بسبب الحصار وارتفاع الطلب العالمي عليه، وقد وصلت أسعاره إلى 2150 شيقل للطن الواحد بعد أن كان يُباع بـ 1850 شيقل كما تُشير تقارير من شهر آذار 2016.
ويشير تقرير لصحيفة الحدث الاقتصادية أن بعض العاملين في هذا المجال يعملون 11 ساعة يومياً مُقابل 50 شيكل في اليوم، وأن طن الحديد المُعدل يُباع بحوالي 500 شيكل، ويُمكن أن يصل السعر إلى 1000 شيكل وفقاً لحالة توافر الإسمنت في القطاع، اما الحديد غير المُعدل فيستغرق استخراج طن واحد منه أسبوعا من العمل الشاق ليُباع في النهاية بحوالي 300 شيقل فقط، علماً بأن هُناك مُقاولين يشترونه منهم فيطرحونه في الأسواق بأسعار عالية جداً تصل إلى ثلثي سعر طن الحديد الجديد.
ونظراً لأن إعادة تهيئة الحديد المستخرج من الرُكام تكون من خلال أفرانٍ خاصّة تتطلب كميّات هائلة من الطاقة لا تتوفر في غزّة غالباً بسبب انقطاع الكهرباء لفترات طويلة، فإن الكثير من التُجّار يلجأون إلى تصدير هذا الحديد إلى "اسرائيل" ليتم إعادة تصنيعه ويُباع لغزّة من جديد.
من الجدير بالذكر ان الحديد المُعاد تدويره لا يُمكن ان يكون بديلاً عن الحديد الجديد، حيث ينقّص الحديد المعاد تدويره الجودة العالية ولذلك لا يُسمح بناء أكثر من طابقين به ولا يسمح استخدامه إلا بالأسطح والإنشاءات البسيطة فقط.
إعادة تدوير البلاستيك
هُناك حوالي 100 مليون طن من القمامة البلاستيكية تنتج كل عام، وينتهي 10% منها في البحار والمحيطات كما تُشير تقارير عالمية، وبحسب تقرير سابق لمجلة
آفاق البيئة فإن قطاع غزة ينتج حوالي (1600) طن من النفايات يوميا منها (700) طن في مدينة غزة وحدها، وأن(55%) من النفايات مواد عضوية، (16% ) كرتون وورق، ( 14% ) بلاستيك.
هذه النفايات البلاستيكية يتم جمعها من قِبل ما يُسمى بالـ"نبّاشين" الذين يتجوّلون في الشوارع واماكن تجميع النفايات بحثاً عن هذه النفايات، وللأسف فإن مُعظم هؤلاء من الأطفال الذين يعملون لساعات طويلة ولا يحصلون في النهاية إلا على 20 او 30 شاقلاً في احسن الأحوال، هذا غير ان هكذا عمل محفوف بمخاطر صحيّة كبيرة نظراً لأن النفايات قد تحتوي على مواد ملوثة وأمراض قد تُعرض حياة "النبّاشين" للخطر.
والحقيقة، ان أحداً من الاطفال لا يرغب بمزاولة هذه المهنة ولكن الفقر ونسبة البطالة التي وصلت إلى 45% هي التي تضطرهم، كما أن شح بعض المواد البلاستيكية الضرورية التي يحتاجها السوق المحلي هو الذي يدفع أصحاب مصانع البلاستيك إلى إعادة تدوير البلاستيك واستخدامه في مُنتجات عديدة مثل السلاسل والطاولات والكراسي أو خراطيم المياه، أو حتى في صناعات كهربائية مثل صناعة قوابس الكهرباء.
هذه الصناعات يُمكن ان تكون مُفيدة جداً، ولكنها يُمكن ان تتحول إلى كارثة إذا ما تم استخدامها في مجال الصناعات الغذائية او في مجالات متعلقة بالتغذية مثل تغليف الأطعمة، وبالتالي فإن الجهات المُختصة تُحذر من استخدام البلاستيك المعاد تدويره دُون الالتزام بمعايير السلامة اللازمة.
ختاماً، فقد اثبتت دراسات أن من الممكن الاستفادة من نحو 70% من النفايات الصلبة التي ينتجها قطاع غزة ويبدو جلياً أن الحصار ونقص المواد وارتفاع نسبة البطالة كما انتشار الفقر خلق حالة «إعادة التدوير»، لا من باب الترف البيئي، بل خُطوة أخرى .. نحو الصراع والمقاومة من أجل الحياة في غزة!