خاص بآفاق البيئة والتنمية
تجافي طائرة "البوينغ" أرض مطار عمان وعينها على الجارة القاهرة، العاصمة الأكثر إزدحامًا في الوطن العربي كله. تُعيد قبل ربط حزامك استرداد ما جمعته عن المدينة خلال أربع زيارات سابقة. المبهر في قاهرة المعز أنك تكتشف في كل رحلة خبايا جديدة لأرض تفيض بالبشر، تقول تقديرات رسمية عام 2015 إن سكانها وصلوا إلى 9,5 مليون، وقرابة 11 في المئة من سكان البلاد.
سبر غور القاهرة ليس سهلًا، ففي مدينة مزدحمة يحتاج قطع الشارع إلى مغامرة أغلب الأحيان، وعليك في كل مرة إجراء مفاوضات مع كل الذين تتعامل معهم: السائق، وبائع الهدايا التذكارية، وصاحب المطعم، ومالك الحانوت، وحتى النادل، والمرشد السياحي، وكل من تقابله صدفة.
تختلف المفاوضات عادة، لكنها تتوحد في معظمها بطلب "إكرامية" أو رفع الثمن، وتتعرض الأسعار لتفاوت مذهل، فيما يتضح للعيان أن المدينة تعاني كثيراً، تماماً كما هي جميلة وملونة ومتنوعة في كل تكويناتها، وعفوية ردات فعل أهلها، وغالباً ما تسكنها روح الدعابة.
أزمات وطبقات
وجوه الأزمة التي لا تفارق القاهرة عديدة، فبعيدًا عن السياسة والأمن وتبعات "ربيع العرب" الذي لم يزهر الرخاء والعدل والتغيير حتى الآن، ترى فجوة اجتماعية واقتصادية مذهلة، وتلمس التفاوت في كل شيء كما في أمكنة أخرى، ولكن بشكل أشد وضوحًا وتطرفاً.
وسط شارع طلعت حرب، الاقتصادي والمفكر الذي أطلق بنك مصر واستثمارات عديدة قبل رحيله عام 1941، يقول الموظف فهمي أحمد: "الطبقة الوسطى تختفي، فإما وزير أو فقير". ومن كلام الشاب أسمر البشرة والمسلح بالمرح كمعظم المصريين، فإن بوسع الزائر لمدينته أن يتعرف على هذا الفرق الفلكي، إن خرج من فندق النجوم الخمس الذي يقيم فيه، وسار على قدميه ربع ساعة، أو تنقل بضعة دقائق في "العربية" أو"الأوتوبيس" أو "التك تك".
ازدحام اسمنتي وسكاني رهيب في القاهرة
جمال ونيل
القاهرة القديمة مدينة هرمة وجميلة، ويكشف الانتقال من تحليل سريع لطبقاتها المجتمعية أن تتعرف إلى أحوال البيئة في المدينة. وحين تتحدث عن قرابة عشرة ملايين يسكنون المدينة، عدا عن الزوار والسياح والعاملين من غير المصريين، فإن العدد سيتضاعف كما يقول المصريون في النهار؛ بفعل قدوم أهالي المحافظات الأخرى للعمل أو لشؤون أخرى.
بلغة الأرقام، وكجزء من إنصاف العاصمة المصرية، فإن المركبات والحافلات والمصانع وقبلهم الملايين تحتاج في اليوم الواحد من المياه والقمح والطاقة ما نعجز في الضفة الغربية وغزة عن مجرد استيعابه.
تستلقي القاهرة على الضفة الشرقية لنهر النيل وعن شمالها محافظة القليوبية، ويجاورها من الشرق والجنوبي الظهير الصحراوي، أما من الغرب فيتلوى نهر النيل وتستقر محافظة الجيزة.
والعاصمة محافظة ومدينة أيضًا، فهي محافظة تشغل كامل مساحتها مدينة واحدة، ومدينة كبيرة تشكل محافظة. أما إقليم القاهرة الكبرى فيضم بالإضافة إلى القاهرة، الجيزة وبعضاً من ضواحيها ومدينة شبرا الخيمة من محافظة القليوبية.
القاهرة- نهر النيل
38 حيًا ضخمًا
وبرسم خارطة طريق لعاصمة "المحروسة"، يمكن فهم المدينة وتكويناتها، فهي تتوحد من أربع مناطق بإجمالي 38 حيًا: 8 في الشمال، و9 في الشرق، ومثلهن في الغرب، و12 في الجنوب، فيما تضم 3 مدن جديدة: القاهرة الجديدة، والشروق، ومدينة بدر. وتمتد المحافظة على 3084.676 كيلو متر مربع. وتصل المساحة المأهولة إلى 188.982 كيلو مترًا.
تقول للسائق إبراهيم متولي: كم نحتاج من الوقت لقطع القاهرة من جهاتها الأربع، فيرد: أعطيني 24 ساعة، واستغن عن مئة دولار وسأريك القاهرة كلها، أما إذا فكرت أن تذهب إلى أسوان فعليك أن تقطع نحو 1200 كيلو متر، وبالنسبة للإسكندرية فهي "فركة كعب" وتحتاج 225 كيلو متر فقط لوصولها.
تسترد خلال حوارك مع السائق الذي يقترب من سن الثلاثين ولا زال يعجز عن الزواج لضيق يده، ما رأيته من الطائرة على ارتفاع نحو 8700 متر، حين قلّت درجة الحرارة عن 39 مئوية دون الصفر: أحياء واسعة، وممرات ممتدة وكثافة يخترقها نهر النيل كشريان ينشر اللون الأخضر على ضفتيه.
القاهرة
عصور وشواهد
تعج المدينة بآثار فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية وإسلامية تتبع التاريخ أيضًا، هنا القاهرة الفرعونية أو مدينة أون (عين شمس اليوم)، وهي واحدة من أقدم عواصم العالم، وفيها القاهرة اليونانية والرومانية بحصن بابليون، وتشاهد القاهرة القبطية بالكنيسة المعلقة وشجرة السيدة مريم التي إستظلت بها في رحلتها من فلسطين لمصر، أما القاهرة الإسلامية وما فيها من معمار لافت، فخرجت إلى الحياة مع العصر الإسلامي بيد عمرو بن العاص عام 641م.
تستذكر في قلب المدينة، ما التصق بذاكرتنا المدرسية وما تقرأه اليوم، فعلى أرض القاهرة شُيدت الفسطاط والعسكر والقطائع في العصر العباسي، وفي العهد الفاطمي أقام المعز لدين الله جامع الأزهر، وفي الفاطمي وحتى الأيوبي والمملوكي شهدت العاصمة بناء القلاع والحصون والأسوار والمدارس كقلعة صلاح الدين، ومدرستي السلطان برقوق والأشرف قايتباي، وخان الخليلى، ومسجد الرفاعي والحسين وغيرها.
تحولت القاهرة من "المنصورية" إلى القاهرة قبل نحو ألف عام، ويعني اسمها التبرك بالكوكب القاهر (المريخ) وسميت بمدينة الألف مئذنة.
حي شعبي في القاهرة
فوارق و"شبورة"
على زائر القاهرة أن يحذر في لغته، وعليه إخفاء اهتمامه بالبيئة، فكلمة (بيئة) تستخدم هنا في غير مقاصدها، وتشير إلى وصف شخص بالغ السوء يماثل بلهجة المصريين (الزبالة) في سلوكه.
الحال البيئي في الأحياء الشعبية والعشوائيات والأماكن المكتظة ليس جيدًا، فالنفايات العشوائية تنتشر، فيما تنقل القمامة بطرق ليست متطورة وبمركبات عادية. ويعجز عمال النظافة عن السيطرة على أحياء المدينة الشائعة بأدوات يدوية.
أما (الشبورة) فاصطلاح مصري رائج، ويشير إلى الضباب الصباحي، وعادة ما يخصص الراصد الجوي جزءًا من توقعاته له، والضباب الصباحي هذا يميز الطقس في القسم الشمالي من مصر، ويتكون في ساعات الليل المُتأخرة والصباح في الوجه البحري الشمالي والقاهرة وقناة السويس، و يزداد في الصيف؛ ولأن شمال مصر يمتاز بتضاريسه السهلية المُنسطة وقُربه من البحر الأبيض المُتوسط، فتعبر الكُتل الهوائية الرطبة بيسر من البحر نحو اليابسة دون عوائق، ومع احترار مياه البحر تدريجياً بداية الصيف، تتبخر المياه من على سطحه الدافئ لتتحول إلى رطوبة في طبقات الجو، وتتحرك الكُتل الرطبة عادةً بفعل الأنظمة الجوية نحو اليابسة المصرية.
ووفق الأرصاد الجوية المصرية، "فتُعتبر هذه الظاهرة ذات فوائد عدّة على الطبيعة والبشر، ويساعد تشكُل الضباب على تغذية التُربة الزراعية برطوبة إضافية تُنعش أغلب المحاصيل الزراعية والنباتات. ويُساعد وجود الشبورة في تلطيف الاجواء في الفترة الصباحية عندما تكون أشعة الشمس خافتة، ما يساعد في الإبطاء من سُرعة التسخين الشمسي نهاراً، فيما يحدث انخفاض كبير على مدى الرؤية الأفقية بشكلٍ قد يُعيق حركة النقل براّ وجوّاً و بحراً، وهو مُسبب ثانوي لارتفاع نسبة حوادث السير.
سوق شعبي في القاهرة
أبيض وأسود
بعيدًا عن الشبورة تبدو بنايات القاهرة مصابة بتداعيات التلوث، فغالبيتها متأثرة باللون الأسود، وتكاد حجارتها البيضاء تفقد هوية لونها. يقول عبد الله الشيخ، مالك متجر قريب من ميدان التحرير: "أقيم في هذا المكان منذ ثلاثين سنة، وسنة عن أخرى يزداد تغير لون المكان. نحن نختنق، فهناك دخان المصانع ووسائل النقل الكثيرة جدًا، وفي الصيف الطويل تتضاعف المشكلة."
في داخل فندق فاخر على ضفة غربية للنيل يهرب شبان خليجيون من حر بلادهم ببركة استحمام، فيقول علي القادم من الكويت: "توقعنا أن نجد مصر باردة، لكنها صارت مثل بلادنا حارة لا تطاق، علينا أن نفكر مرة ثانية قبل زيارتها أو أن نهرب إلى أوروبا، وخاصة مع هذا المناخ الغريب."
وفي غضون ثلاثة أيام بين التاسع عشر من أيار والحادي والعشرين منه تباينت درجة حرارة القاهرة بحدود عشر درجات بين ارتفاع وانخفاض، وتشابهت بصورة كبيرة مع حرارة فلسطين، التي تشهد هذا العام تذبذباً يغلب عليه الارتفاع الحاد بأكثر من عشر درجات فوق المعدل السنوي، ثم هبوطها في أيام قليلة بأكثر من 12أو 14 درجة مئوية!
صورة جوية للقاهرة
غلاء وتفاوت
يسكن الشاب محمد حّماد بشقة صغيرة وسط القاهرة، ويروي: أقيم في الشقة التي استأجرها والدي قبل أربعين سنة، وأدفع 120 جنيهاً كل عام، ولو أنها بإيجار جديد فعلي أن أدفع 1000 جنيه وأكثر ( الدولار الواحد يساوي بالسعر الرسمي 8 جنيهات ونصف و12 تقريباً بالسوق السوداء). ونحتاج 5-6 آلاف جنيه للحياة الكريمة، فالأسعار مرتفعة.
يُقدم حمّاد قائمة للأسعار في بلاده، فيقول: أنبوبة (أسطوانة) الغاز بـ 60 جنيهًا، والمتر المكعب الواحد من الماء بـ 4 جنيهات، وتحتاج الشقة المتوسطة نحو 100 جنيه شهرياً للكهرباء، أما أسعار الخضروات والفواكه فهي للكيلو غرام الواحد: الليمون ( 6 جنيهات)، والبطاطا (3)، البطيخة الواحدة (15)، الخبز (أو العيش كما يطلق عليه المصريون) فمتفاوت حسب الحجم لكن الجنيه يوفر بين 4-20 رغيفاً، واللحم الأحمر ( 45)، والدجاج (الفراخ) والأرانب بـ(21)، والتفاح (15)، والكيوي (الحبة الواحدة بجنيه)، والملوخية ( 7)، والحمام ( 40 جنيهاً للزوج).
واللافت أن الحكومات المتعاقبة لم تفتح باب التعيينات على مصراعيه منذ عام 1980 وحتى اليوم، فيما يعمل غالبية الموظفين العموميين في وظائف أخرى بحسب حمّاد؛ لسد العجز.
سوق وسجائر
في المحطة الأخيرة بمطار القاهرة الدولي، تنشط إعلانات تجارية في الترويج لبضائع "السوق الحرة"، تتوقف عند زاويتي السجائر والمعسل، الأكثر جذباً للمتسوقين المدخنين. تحاور شيماء البائعة في جناج التبغ، وتسألها عن قناعتها بضرر السجائر، ورأيها بالتحذير الذي يشير إلى أن التدخين يسبب الموت أو المتاعب لصاحبه. تبتسم وتقول: أنا لست مدخنة، والمشتري عاقل، وعليه أن يعي ما يفعله.
ليس ببعيد من "السوق الحرة" التي تحتلها ماركات أجنبية في الغالب لعطور وهدايا وأطعمة ومشروبات، يقبع مدخنون خلف الزجاج في منطقة تبيح التبغ.
يدخل رفيق سفرك عطا الله شاهين إلى الغرفة محكمة الإغلاق، وسرعان ما يخرج ويقول: "الجو قاتل ولا يطاق". تبتسم وتعلّق:" إخلع السن ووجعه، وتحرر من علتك.."
يقول البائع في حانوت للتحف الشرقية: الأسعار هنا مرتفعة، وهي للسياح، ولا يمكن لزائر عادي أن يشتري زجاجة عطر بـ 250 دولارًا. وإن أردتم شراء شيء من هنا، فعليكم فقط بالسجائر والمعسل، لأن أسعارها أقل مقارنة بالسوق العادي.
تغادر عاصمة أم الدنيا، وفي أوراقك الكثير مما يصلح للنشر عن أحوالها وبيئتها وتنوعها وصخبها وهدوئها، فيما يتسلح المصري بالأمل ويتفوق على صعوبات الحياة بروح المرح، حتى في أحلك الظروف، ولا يبالي كثيرًا بالتغير المناخي، فلديه الكثير كما تفيد شيماء إسماعيل موظفة البنك من الحسابات الخاصة.
تضيف بابتسامة عفوية: ثبات حال الكشري (الطبق الشعبي ذائع الصيت) أهم من التغير المناخي وحرارة الطقس بالنسبة لنا، والشبورة جزء من حياتنا..