خاص بآفاق البيئة والتنمية
المشهد الغالب في شوارع وأزقة مدينة البيرة، منذ السابع من آب الماضي وحتى اللحظة، أصبح أكوام النفايات التي تفيض من حاويات القمامة وتتبعثر على الأرض باعثة روائح كريهة لدرجة التقيؤ، وفي بعض تلك الحاويات تشتعل ليلا حرائق تنشر الشرر في جميع الاتجاهات. الدخان الكثيف السام ينبعث من تلال النفايات الملقاة في جوانب بعض الطرق والأحياء السكنية...إنها حرب النفايات التي أشعلها الاحتلال ضد مدينة البيرة وأهاليها، حينما أغلق الأخير (في السابع من آب) مكب نفايات المدينة. ومنذئذ، تحاول شاحنات البلدية مواصلة جمع النفايات من نحو 800 حاوية منتشرة في مختلف أنحاء المدينة؛ إلا أنها تلقي بها في الأراضي المفتوحة والأودية وأطرف المساحات المبنية.
بعض النباشين الأطفال أخذوا يشعلون النيران في بعض أكوام النفايات التي ألقتها شاحنات البلدية في أطراف المدينة بمحاذاة مستعمرة "بساغوت"، بحثا عن المعادن والحديد والنحاس؛ ما دفع بعض الأهالي هناك إلى الرد على الكابوس المزدوج (تراكم النفايات وحرقها)، فأغلقوا الشوارع بالإطارات والحجارة، لعرقلة حركة الشاحنات.
ونظرا لقرب "المكبات" العشوائية المستجدة من مستعمرة "بساغوت" وحاجز "بيت إيل"، تحرك جنود الاحتلال وجرافاتهم إلى داخل أراضي البيرة (في ما يسمى منطقة أ حسب اتفاق أوسلو)، بهدف مصادرة الشاحنات وصب التراب على اكوام النفايات التي وصل دخانها إلى منازل المستعمرين. وفي أواخر شهر آب، توقفت البلدية عن جمع النفايات لبضعة أيام، وذلك إثر مصادرة الجنود للشاحنة الخامسة التابعة للبلدية، فلم يبق لدى الأخيرة سوى شاحنتين تحتاجان إلى إصلاح. وفيما بعد، أعيدت الشاحنات إلى البلدية.
في حرب النفايات التي تديرها، تتوقع بلدية البيرة من السلطة الفلسطينية والأهالي على حد سواء، بأن يدركوا أن إغلاق المكب لم يكن نتيجة "فشل" في العمل البلدي، بل هو جزء من القضية السياسية الأشمل، وتحديدا علاقة المُسْتَعْمِر بالمُسْتَعْمَر.
ما يسمى "الإدارة المدنية" التابعة للاحتلال، قررت إغلاق مكب البيرة ومنع دفن النفايات الفلسطينية فيه بالقوة، بذريعة أنه "خطر بيئيا ويفتقر إلى البنية التحتية ويلوث الهواء والمياه الجوفية"، وذلك قبل أن يتوفر البديل الجديد والصحي الذي يجري الحديث عنه منذ عام 1999 (مكب رمون)، ولكنه لا يزال حبرا على ورق. قرار الإغلاق استند إلى ما يسمى قرار "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية. الجيش والشرطة الإسرائيليين يجولون في محيط المكب بهدف تغريم أو مصادرة الشاحنات الفلسطينية التي تلقي نفاياتها فيه.
مكب البيرة الواقع في أطراف مدينة البيرة، بمحاذاة مستعمرة "بساغوت"، يعمل منذ عشرات السنين وكانت تدفن فيه نفايات المدينة وبعض قرى المنطقة والمستعمرات. رئيس "الإدارة المدنية" ("موطي ألموز") قرر في حزيران عام 2011 إغلاق المكب. وفي المقابل، وافقت "الإدارة المدنية" على أن تنشئ السلطة الفلسطينية مكب صحي على أراضي قرية رمون قرب رام الله، وذلك بتمويل ألماني. وردا على قرار الاحتلال، رفعت البلدية شكوى ضد القرار إلى ما يسمى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية. مداولات المحكمة و"المفاوضات" التي جرت بين الجانبين (الفلسطيني والإسرائيلي) أدت إلى تأجيل تنفيذ قرار الإغلاق لأكثر من سنة ونصف، وتحديدا من 1 كانون ثاني 2012 وحتى آب الأخير. بمعنى أن إغلاق المكب لم يكن مفاجئا للبلدية، بل متوقعا تماما. وحسب تحريات مجلة آفاق البيئة والتنمية، بينت سجلات المحكمة الإسرائيلية بأنه في 7 شباط 2013 كتب قضاة "المحكمة العليا" الإسرائيلية بأـن المكب سيستمر في العمل، "بموافقة جميع الأطراف"، حتى 7 آب الماضي. وكان هدف المحكمة و"الإدارة المدنية" من منح هذه الفترة هو أن تُمْلِي الأخيرة على البلدية أحد الخيارات التالية: نقل نفايات بلدية البيرة إلى مكب زهرة الفنجان في جنين، أو نقلها إلى مكب أبو ديس (المتهالك والخطر بيئيا!). البلدية رفضت منذ البداية خيارات الاحتلال باعتبارها غير صديقة للبيئة؛ كما أن البلدية لا تستطيع تحمل تكلفة نقل النفايات ودفنها يوميا في أحد المكبين المذكورين، ولأن تلك التكلفة، وفقا لحساب أولي، ستقضم سنويا نحو عُشْر موازنتها السنوية البالغة نحو 60-70 مليون شيقل. بمعنى أن بلدية البيرة لا تستطيع تخصيص تمويل استثنائي لتنفيذ بدائل الاحتلال، في ظل معاناة السلطة الفلسطينية من أزمة مالية، إضافة إلى أن ممولي الأخيرة يواجهون أزمات اقتصادية أيضا.
في ظل هذا الواقع، ربما راهن البعض في بلدية البيرة على حدوث تراجع إسرائيلي ما عن قرار الإغلاق. يضاف إلى ذلك، أن بلدية البيرة مرت خلال الفترة الماضية بظروف إدارية صعبة وطارئة؛ إذ أن قرار إغلاق المكب (عام 2011) جاء أثناء تولي قائمة حركة حماس لرئاسة البلدية (جمال الطويل) وغالبية عضوية المجلس البلدي. وفي شباط 2012 حلت السلطة الفلسطينية المجلس البلدي المنتخب، وعينت رئيسا مؤقتا للبلدية، حتى إجراء الانتخابات البلدية في تشرين ثاني من ذات العام، والتي فازت فيها قائمة فتح. المجلس البلدي الجديد بدأ للتو يدرك ما يدور من تحرك احتلالي يستهدف مكب البيرة.
الاحتلال "السيد" الفعلي
الجدير بالذكر أن مكب البيرة أقيم عام 1978 في وادٍ على أراض خاصة مساحتها نحو سبعين دونماً يملكها أهالي البيرة. في عام 1981 أقيمت مستعمرة "بساغوت" على تلة استراتيجية تشرف على جميع أنحاء مدينة البيرة وتبعد أمتار قليلة عن أحيائها الشرقية. المكب يقع على مسافة نحو كيلومتر واحد شمال شرق المستعمرة. ومنذ اتفاقيات أوسلو الموقعة عام 1993 اعتبرت أرض مكب البيرة منطقة "C" أي أنها تخضع للسلطة الإسرائيلية المدنية والأمنية المطلقة. ومنذ اندلاع الانتفاضة الثانية أغلق الجيش الإسرائيلي أمام الفلسطينيين الطريق المؤدية إلى المكب، من خلال إقامة بوابة عسكرية. ومنذئذ، حدد الجيش و"الإدارة المدنية" بضع ساعات يوميا يسمح فيها للشاحنات الفلسطينية بالوصول إلى المكب.
إغلاق المكب يؤكد مرة أخرى بأن السلطة الفلسطينية لا تملك أي شكل من أشكال السيادة على أي شيء في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فإذا كانت تلك السلطة لا تملك سيادة على النفايات الفلسطينية والتصرف بها، فما بالك بالقضايا الجوهرية والاستراتيجية مثل المياه والأراضي والموارد الطبيعية والحدود. مشكلة المكب تبين حقيقة "الصلاحيات" التي منحها الاحتلال للسلطة، من خلال اتفاقيات أوسلو "المرحلية" بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تحولت عمليا إلى اتفاقيات دائمة. وبحسب الاتفاقيات، ظل جيش الاحتلال "السيد" الفعلي على الأرض والمرجعية "السيادية" العليا في الضفة والقطاع؛ وما فعله هو مجرد إحالة بعض "صلاحياته" الخاصة بالخدمات المقدمة للمواطنين الفلسطينيين وتفويضها أو إناطتها بالسلطة الفلسطينية (بموافقتها) لتتحمل بالنيابة عنه أعباء تلك الخدمات. وبالطبع، لا تستطيع السلطة ممارسة تلك الصلاحيات "الممنوحة" لها من المحتل سوى في نطاق ضيق جدا داخل جيوب معزولة تشغل أقل من 40% من مساحة الضفة الغربية تحديدا، وهي محاصرة بالمستعمرات والقواعد العسكرية الإسرائيلية والجدران الكولونيالية العنصرية. وقد خولت الاتفاقيات إياها الاحتلال بأن يمارس على أكثر من 60% من مساحة الضفة صلاحيات "مدنية" (وبالطبع أمنية وعسكرية) مطلقة؛ بما في ذلك عمليات البناء (دون تحديد سواء مستعمرات أو غير ذلك!) والهدم والإغلاق والفتح وإقامة منشآت جديدة أو منع إقامتها، وغير ذلك. وبناء على ذلك، تستطيع سلطات الاحتلال إصدار أوامر بإغلاق مكب نفايات فلسطيني، أو تأخير وعرقلة إنشاء مكب جديد، دون أن تتحمل أي مسؤولية أخلاقية أو مالية بسبب ذلك. وبالرغم من معرفة الناس لهذه الحقائق، إلا أن البلدية بالنسبة للكثيرين تشكل عنواناً لتفريغ غضبهم.
مزاعم مثيرة للسخرية
المفارقة أن الاحتلال الذي تذرع بمسوغات بيئية لتبرير إغلاقه مكب البيرة، هو ذاته الذي يمارس أبشع أشكال الجرائم البيئية في الضفة والقطاع؛ وعلى مدى السنين الأخيرة تم توثيق العديد من هذه الجرائم في مجلتنا "آفاق البيئة والتنمية" وفي بعض المنابر الإعلامية الأخرى. والمثير للسخرية أن سلطات الاحتلال ادعت في ما يسمى "محكمة العدل العليا" (وكأن العدل والاحتلال يستويان)، ادعت بأن "المكب الذي أقامته بلدية البيرة يعمل بشكل غير قانوني ودون تخطيط"؛ لكنها تجاهلت تماما بأن المكب أقيم في الفترة التي لم يتحرك فيها حجر واحد دون معرفة وموافقة القيادة العسكرية الإسرائيلية، وفي الفترة التي كان فيها الجيش الإسرائيلي ومن ثم "الإدارة المدنية" مسؤولين نظريا عن "الخدمات" المقدمة للفلسطينيين وعن التخطيط والرقابة والبيئة. كما أن تلك السلطات هي ذاتها التي سمحت لمستعمرة "بساغوت"، منذ عام 1982، بأن تدفن نفاياتها في المكب الذي تزعم الآن بأنه "غير مطابق للمواصفات". وبعد عشر سنوات، سمحت أيضا للمستعمرات التابعة لما يسمى "المجلس الإقليمي ماطي بنيامين" بدفن نفاياتها في ذات المكب؛ حيث ظلت تلك المستعمرات تدفن نفاياتها في المكب حتى إغلاقه مؤخرا. وحاليا، تدفن تلك المستعمرات نفاياتها في مكب أبو ديس. بل، وفي الفترة بين 2003-2010، سمحت ما يسمى "الإدارة المدنية" لمستعمرتي "موديعين عيليت" و"جفعات زئيف" بدفن نفاياتهما في ذات المكب.
وفي مقابل 13,380 طن نفايات دفنتها بلدية البيرة في المكب عام 2010، دفنت المستعمرات 29,478 طن. بل، ومنذ عام 2003 دفعت جميع المستعمرات رسوم الدفن إلى الإدارة الفعلية القائمة على المكب والمتمثلة بما يسمى "رابطة المدن من أجل البيئة-شومرون" التي مولت المقاول المشغل للمكب. وبالطبع، لم يتلق المالكون الفلسطينيون الشرعيون للأرض المقام عليها المكب أي مبلغ من المال مقابل استخدام أرضهم. ويتضح مدى كذب ما يسمى "الإدارة المدنية" من حقيقة أنها هي ذاتها التي طرحت في شباط 2011 توسعة المكب؛ فأوكلت لطاقم "رابطة المدن من أجل البيئة-شومرون" (التي أدارت المكب في السنوات الأخيرة) بإعداد خطة التوسعة التي تسمح بمواصلة العمل بالمكب حتى إنشاء مكب آخر جديد وبيئي. وذلك رغم زعم "الإدارة المدنية"، منذئذ، بأن المكب يتسبب في أضرار للبيئة؛ تلك الأضرار التي تسببت فيها تلك "الإدارة" ذاتها. وفي المقابل، تقول بلدية البيرة بأن التهديدات بإغلاق المكب بدأت منذ اللحظة التي تحفظت فيها من مخطط التوسعة؛ نظرا لقرب المساحات التي خُطِّطَ توسيع المكب عليها من منازل أهالي البيرة.
وحتى اللحظة، في غياب البديل البيئي-الصحي والسياسي العاجل، ستتواصل أكوام النفايات في الانتشار بأحياء البيرة، وسيتواصل انبعاث الروائح الكريهة واشتعال الحرائق وانبعاث الغازات السامة حتى إشعار آخر.