يُسجّل للبنك الدولي أنه كان أول من أطلق مفهوم "دراسة الأثر البيئي" للمشاريع التي يموّلها بقروضه. اعتبر هذا الإجراء في حينه "ثورة بيئية" فرضها البنك على عالم الاستثمارات والأعمال وأجبرها على الأخذ بالاعتبار الجوانب البيئية والاجتماعية. إلا أننا منذ ذلك الحين، لم نقتنع كثيراً بهذه النظرية. خصوصاً ان البنك نفسه كان قد موّل مشاريع سدود، هجرت الكثير من الناس من أراضيها وتسببت بكوارث بيئية واجتماعية كثيرة (على سبيل المثال سد نارمادا في الهند الذي أدى إلى تهجير 300,000 شخص). التجربة البيئية الأشهر في لبنان مع البنك الدولي كانت مع القرض الذي قدّمه العام 1995 لإنشاء ما يقارب 15 مطمراً للنفايات... لم تكن مشجعة. وقد حاربنا هذا الخيار منذ ذلك الحين، بالرغم من الحديث عن إجراء دراسات للأثر البيئي لتلك المطامر. مع العلم ان الأماكن التي تم اختيارها آنذاك، هي كناية عن مكبات عشوائية قديمة. وهي أماكن، كما يفهم من تسميتها أصلاً، قد اختيرت في الأصل بشكل عشوائي، لأسباب تجارية او محلية او غير ذلك، ولكن ليس "بيئية" على الإطلاق. ويستطيع من عارض سياسات البنك آنذاك، ومن افشل تلك الخطة، ان يفتخر اليوم ويتنفس الصعداء، بعد ان بانت مخاطر المطامر من تجربة مطمر الناعمة السيئة الذكر.
يتحدث البنك الدولي اليوم عن "سياسات حمائية" او "وقائية"، وهو يجري مشاورات عالمية حول هذا الموضوع تمتد لثلاث سنوات. وتهدف تلك السياسات إلى منع وتخفيف الضرر على الناس والبيئة خلال عملية التنمية. وتقدم هذه السياسات مبادئ توجيهية لموظفي البنك والدول المقترضة بشأن تحديد وإعداد وتنفيذ البرامج والمشروعات. وتشمل الأمثلة على ذلك القيام بعمل تقييم أثر بيئي واجتماعي، والتشاور مع المجتمعات المتضررة، واستعادة سبل الرزق للسكان المهجرين... الخ . وتتحدث التقارير عن التقدم الذي حصل منذ العام 1993، على سبيل المثال، حين أصبحت المجتمعات قادرة على رفع شكواها مباشرة إلى هيئة التفتيش التابعة للبنك الدولي، مما يخلق سبلاً إضافية لتسوية المنازعات، وبصفة خاصة حين لا تكون الحكومات مستجيبة لمشاكل المجتمعات.
لقد برزت في الأعوام الأخيرة أزمات عالمية مثل تغير المناخ، ونقص الغذاء والوقود، وعدم الاستقرار المالي، والتي أثرت على المشروعات التنموية كافة. وقد قام البنك بإعداد ما أسماها "سياسات وقائية" قبل أن تصبح هذه القضايا بهذا القدر من الأهمية. وهو يقوم الآن بتقييم وتجديد وتطوير هذه السياسات، ليس من اجل البيئة والمجتمعات فقط، بل لوجود منافسين عالميين جدد، مع تغير ميزان القوى ومع التأثير السريع الانتشار للاقتصاديات الناشئة مثل الصين، والبرازيل، والهند، وذلك من حيث تأثيرها على المؤسسات الدولية. فإن البنك الدولي يواجه منافسة جديدة من بنوك (دولية) في الاقتصاديات الناشئة. ففي العامي 2009 و2010، قام بنك الصادرات والواردات الصيني، وبنك التنمية الصيني، بتقديم قروض بنسبة أكبر إلى الدول النامية، مقارنة بما قدمه البنك الدولي! كما أن المؤسسات المالية في الاقتصاديات الناشئة تقدم للحكومات بدائل منخفضة التكاليف مقارنة بالبنك الدولي، مما أدى إلى نوع من المنافسة مع البنك الدولي كرائد في تمويل مجال التنمية. ولقد جاء ردفعل البنك من خلال محاولته جعل سياساته الوقائية "أكثر مرونة"، كأسلوب جديد لجذب دول مقترضة كبيرة. يمكن تفسير الإجراءات الأكثر مرونة، بأنها اقل تشدداً، لا بل تراخياً من ناحية دراسة الأثر البيئي والاجتماعي للمشاريع! وقد جعلت هذه التغيرات الأمر أكثر صعوبة على منظمات المجتمع المدني في ما يتعلق بمراقبة ومساءلة البنك ارتباطاً باستخدامه للأموال العامة.
أسند للبنك الدولي مهمة جديدة وكبيرة أثناء المباحثات الأممية حول تغير المناخ العام 2010، عندما قامت الحكومات بتوقيع "اتفاقية كانكون" وأنشأت "صندوق المناخ الأخضر" لتمويل الإجراءات الدولية للتعامل مع تغير المناخ، واختارت البنك الدولي لإدارة هذا الصندوق. صحيح ان هذا الصندوق ظل فارغاً حتى الآن، إلا انه لن يبق كذلك في الأعوام المقبلة، وسوف يلعب البنك دوراً كبيراً وخطيراً في توجيه التمويل إلى جهود خاصة بعنصر تغير المناخ، مع انه لم يلتزم هو نفسه بتخفيض بصمته الخاصة بتغير المناخ، حيث لا يقوم البنك بقياس كيفية مساهمة استثماراته في انبعاثات غازات الدفيئة، كما أنه لم يلتزم بخفض بصمة المناخ ككل وهي الناتجة عما لديه من محفظة إقراض، بل إن عدد مشروعات محفظة البنك التي تستخدم الوقود الأحفوري قد زادت! فعلى أي أسس وضمن أية فلسفة وسياسات سيدير البنك هذا الصندوق؟ هذا ما يحتاج الى نقاش عميق في الفترة القريبة جداً.
يبدو ان مرد ذلك بداية، هو مفهوم "الوقاية" نفسه. فما الذي يقصده البنك الدولي من السياسات الوقائية؟ هل الوقاية بمعنى "الحماية"، ام هي بمعنى "الأخذ بالاعتبار" التأثيرات السلبية. فمبدأ الحماية او الوقاية او الاحتراس، تعني بلغة الفلسفة البيئية الحفاظية، وقف مشاريع الاستثمار لمجرد الشك بوجود مخاطر وتأثيرات سلبية. في حين طبق البنك الدولي سياسات الوقاية بدراسة الاثر البيئي والاجتماعي للمشاريع وتحسين شروطها، من دون وقفها أو التراجع عنها... مما يفتح مجالات كثيرة للاجتهاد والاحتيال على القوانين والسكان. فأية فلسفة يعتمد البنك الدولي في سياساته الوقائية الجديدة؟