خاص بآفاق البيئة والتنمية
لشجرة الزيتون قدسية اجتماعية وثقافية ودينية خاصة، وهي في فلسطين مصدر رزق لعشرات آلاف العائلات؛ كما ان الفوائد الصحية لزيت الزيتون والتي عرفت منذ زمن بعيد تزداد اتساعا من خلال الأبحاث الحديثة. وللزيتون حضور في التاريخ والثقافة والذهن العربي في بلاد الشام وفي فلسطين بشكل خاص.
وفي منتصف تشرين الأول من كل عام يستعد المزارعون لقطف محصول الزيتون والذي يتميز بأجواء التعاون والأجواء العائلية المميزة والنادرة. ذلك أن موسم قطاف الزيتون يميزه تقاليد أصبحت نادرة في أيامنا هذه، وهي مساعدة الآخرين "العونة" هي من التقاليد القديمة في مجتمعنا حيث تجتمع العائلات والجيران وتهب المجموعات التطوعية الشبابية والطلابية للمساعدة في جني ثمار الزيتون في صورة تعكس عمق الانتماء للأرض والمجتمع، وتعمل على تقليل الفوارق بين الطبقات الاجتماعية وتزرع قيم التكافل والتطوع.
وتشكل المساحة المزروعة بالزيتون حوالي 12.5% من المساحة الكلية للضفة الغربية وهي حوالي 900 ألف دونم. ويقع 150 ألف دونم من الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون خلف جدار الفصل العنصري، مما يعني أن على أصحابها استصدار تصاريح خاصة من قبل سلطات الاحتلال لتسمح لهم بالوصول إليها ويقع حوالي 100 ألف دونم بالقرب من مستوطنات إسرائيلية يقوم الاحتلال بمنع المزارعين من الوصول إليها، كما هو الحال في بيت جالا قرب بيت لحم وبيتونيا والجانية قرب رام الله.
ولا عجب أن تتحول شجرة الزيتون دليلا على الوجود ورمزا للصمود على الأرض والتجذّر فيها، فقد أدرك أجدادنا أن شجرة الزيتون مباركة بكل ما فيها، فالثمر يعصر لإنتاج زيت الزيتون وهو الزيت الأكثر صحة من بين الزيوت النباتية الأخرى على الإطلاق. وقد عرف الطب الشعبي الفلسطيني فوائد زيت الزيتون بحيث استعمل كما تفيد قاعدة بيانات بيرك للطب العربي الفلسـطينـي التقليدي لتقوية جذور الشعر ومنع تساقطه، ولمعالجة الحكة والقمل، ومرهما لتخفيف آلام المفاصل. كما استعمل الزيت لمعالجة مشاكل الجهاز التنفسي، والسعال وأمراض الجهاز الهضمي، وحصى المرارة، وتقوية الأسنان والفكين، وفي علاج أمراض الأذن. وكذلك استخدم مسحوق أوراقه لعلاج الجروح والصدفية، ومغلي أوراقه لتخفيض ضغط الدم المرتفع ومرض السكري ولمشاكل البروستاتا وأمراض الجهاز البولي. ويفيد الطب الشعبي أن طرق استعمال أوراق الزيتون تكون إما بطحن الأوراق وإضافتها للماء المغلي وتصفية المحلول أو نقعها ثم غليها وشرب المغلي بعد التبريد ليشرب ويجري حفظه في زجاجة في مكان معتم، أو أن تجفف الأوراق بعد غسلها ليتم طحنها ومزجها مع العسل أو الطعام ثم تناولها كعلاج.
وتؤكد الدراسات العلمية هذه الفوائد، فمثلاً يوصي أطباء القلب بتناول ملعقتين كبيرتين من زيت الزيتون البكر يوميا، لأنه يخفض من كوليسترول الدم الذي يسبب انسداد الشرايين وأمراض القلب، ويحوي مادة "أليوكانثال" والتي لها نفس تأثير أدوية معالجة الالتهابات في الجسم وبالتالي قد يكون لزيت الزيتون دور في منع ظهور الخلايا السرطانية بعد علاجها. وزيت الزيتون هو الأغنى بمضادات الأكسدة وبالزيوت الأحادية غير المشبعة من بين جميع أنواع الزيوت النباتية والتي لا تتأكسد في الجسم، بالإضافة إلى احتوائه على فيتامين E مما يقلل احتمالات الإصابة بالسرطان، كما أنه يعمل على خفض مستوى ضغط الدم مما يقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب.
وتبين دراسة نشرت في نيسان من هذا العام في مجلة
New England Journal of Medicine وأجراها د. رامون ايسترش البرفيسور في الطب في جامعة برشلونة، إلى أن النمط الغذائي المتوسطي والغني بزيت الزيتون يخفض نسبة الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني. وتشير الدراسة التي استمرت خمس سنوات وتوقفت قبل الموعد المقرر بسبب وضوح النتائج بشكل قطعي، أن حوالي ما نسبته 30% من الوفيات الناجمة من الجلطات القلبية يمكن تجنبها في حال التحول لإتباع حمية شرق أوسطية غنية بزيت الزيتون. كما أكدت الدراسة أن تناول زيت الزيتون يحسّن عمل نظام تحكم الجسم بسكر الدم ويزيد من حساسية الجسم للأنسولين.
|
غسل وتحضير أوراق الزيتون لصناعة الأدوية |
ورغم أن زيت الزيتون غني بالسعرات الحرارية إلا أنه يعمل على خفض معدلات البدانة لأن الدهون الأحادية غير المشبعة الموجودة به هي دهون صحية ومفيدة للجسم بعكس تلك الموجودة في السمن أو في الدهون الأخرى بشكل عام. كما أن تناول زيت الزيتون مع الوجبات يعطي شعورا بالشبع وبالتالي لا يحتاج الشخص لتناول كميات كبيرة من الطعام. ويشجع زيت الزيتون على أكل الخضروات مما يجعل طبيعة الوجبات ذات سعرات حرارية منخفضة. وبرهنت دراسة أجرتها جامعة "لوندرينا" في البرازيل عام 2005 أن من يتناولون نسبا عالية من زيت الزيتون يوميا في غذائهم تنخفض نسبة إصابتهم بالتهاب المفاصل. كما وجدت دراسة أجريت في جامعة "نافارا" الاسبانية ونشرت في ايار من العام الحالي بأن الغذاء الغني بزيت الزيتون قد يحمي من أمراض الجهاز العصبي، حيث يزداد احتمال الإصابة بالاكتئاب لمن لا يتناولون أغذية تحوي زيت الزيتون بمقدار 48%. ومن الجدير بالذكر أن الشعب الأكثر استهلاكا لزيت الزيتون وهم سكان جزيرة كريت في اليونان هم الأقل إصابة بأمراض القلب والسرطان.
وللزيت استعمالات تجميليّة كثيرة مثل ترطيب الجلد وتقوية وصبغ الشعر والوقاية من التجاعيد ويدخل في صناعات الصابون البلدي "النابلسي" والكريمات التجميليّة. أما بالنسبة لباقي أجزاء الزيتون فكل جزء له استخداماته، فنواة الزيتون تطحن وتستخدم في الأعلاف وكسماد للتربة ومخلفات العصر (الجفت) يستخدم للتدفئة وكسماد للتربة، كما يستخدم الخشب كوقود في صناعة الفحم وفي صناعات تقليدية كالمنحوتات والأثاث الخشبي والذي تشتهر به منطقة بيت لحم والقدس.
أما أوراق الزيتون فقد عرفت الحضارات القديمة فوائدها وأول من استعملها المصريون القدماء في التحنيط والعلاج لزيادة الطاقة البدنية، وفي دول المغرب العربي تستعمل خلاصة أوراق الزيتون لموازنة معدلات السكر في الدم لمرضى السكري واستعمله الطب الصيني في علاج نزلات البرد والربو وعلاج الملاريا، وتعمل مادة Oleuropein الموجودة في أوراق الزيتون وهي ذات خصائص علاجية فعالة على تخفيض ضغط الدم المرتفع. وتحوي خلاصة الأوراق مضادات أكسدة أكثر من تلك الموجودة في الشاي الأخضر، مما يقدم آفاقا واعدة في مجال محاربة تصلب الشرايين والسكري والسرطان وأمراض الأعصاب والتهاب المفاصل والبدانة.
كما أن شجرة الزيتون من الأشجار التي تمتص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون وبالتالي فهي تساعد في تنقية الهواء ولا تحتاج إلى الكثير من العناية فقد تعيش وتعطي الثمر في ظروف مناخية جافة ومقاومة للملوحة، إلا أن نوعية الزيت تختلف من حيث درجة الحموضة باختلاف طبيعة التربة وظروف الزراعة وطريقة العصر وطريقة الحفظ والتخزين. والطريقة المثلى للحفظ هي التخزين في أوانٍ زجاجية معتمة وبعيدة عن الضوء والشمس والرطوبة، ويجب الامتناع عن حفظه في أوعية بلاستيكية لأنها تتفاعل مع الزيت وتفسد جودته.
وتمتاز الأطباق الفلسطينية بغناها بزيت الزيتون فلا تكاد توجد أكلة فلسطينية إلا ويستعمل فيها زيت الزيتون وحبات الزيتون، مثل مكبوس الزيتون والمتبل والمكدوس والخبز المدهون بالزيت والزعتر (المناقيش) والمسخن. فشجرة الزيتون متجذرة في ثقافة الفلسطيني والمظاهر عديدة من أسماء القرى والبلدات بأسماء ذات علاقة كزواتا وزيتا وعصيرة والمعصرة وبيرزيت، الى الأغنيات الشعبية والأمثال التي تتغنى بزيت الزيتون وتربطه بالأمن الغذائي "عمارة البيت .. خبز وزيت" والمفهوم الشعبي للنفع الصحي لزيت الزيتون "كل زيت ..وناطح الحيط" وعن أنواع الزيتون وخصائص كل نوع وطرق الحصاد وطرق الحفاظ عليه " النبالي زيته سيّال.. ولقاطه عجال في عجال" أي أنه يعطي الكثير من الزيت ويقطف مبكرا خوفا من سقوطه بسبب المطر، و"الصِّري (أي الزيتون ذو الحب الصغير).. زيته طيّب.. ولقاطه بشيّب".
الحفاظ على أشجار الزيتون وزراعتها والعناية بها أمر مهم للحفاظ على صحتنا وبيئتنا واقتصادنا وتراثنا، وهي جزء مهم من ثقافتنا ووجودنا على أرضنا.
|
|
أوراق شجر الزيتون تباع لأغراض علاجية |
مرهم معد من زيت الزيتون |