-1-
[الرفق بالحيوان]
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ:
ألم أعلم أن الحكومة قد أصبحت أرأف بالحكومة من أبي العلاء؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى:
ماذا تقول! أتراها حرّمت ذبحه وأكله، وحفظت اللبن على البقر والشاء، والبيض على الدجاج، والعسل على النحل؟!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ:
لا! ولكنها أذنت فأقيمت ليلة موسيقية ساهرة لمعونة الذين يرفقون بالحيوان.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى:
لو خُيّر الحيوان، لاختار الحياة والعافية على الموسيقى والرقص.
(جنّة الشوك، ص66).
-2-
[البيئة وأنانية الإنسان]
ماذا تريد من الإنسان الذي استقر في نفسه، على اتصال القرون وتعاقب الأجيال، أنه سيّد، وأنه لا بدّ من مسود؟ وأنّ أغراضه وغاياته ومنافعه ينبغي أن يذلّل لها الكون.
وإذا كان هذا رأيه في الطبيعة، وإذا كان استغلاله للطبيعة قد خيّل له أنه سيدها ومالكها، وأنها خادمته بل أَمَتُه، يتصرّف فيها كما يتصرّف السيّد الملك؛ وأتاح له عقله بما اهتدى إليه من استكشاف واستغلال لبعض موارد الطبيعة أنَّه يزداد إمعاناً في هذا الغرور، وأن يفتن بنفسه فتوناً لا حدّ [له]، حتى يُلقي في روعها أنه يستطيع بعد أن أتيح له استغلال الطبيعة أن يستغلّ الإنسان أيضاً ويسخّره لأغراضه وغاياته، ما صلح منها وما لم يصلح، ما كان منها مستقيما، وما كان معوجّاً شديد الاعوجاج... ورحم الله أبا العلاء الذي أنفق حياته يدعو الإنسان إلى شيء من التواضع والقصد.. ويذكّره إن نفعته الذكرى بأن الطبيعة ليست ملكه، وبأنه ليس فيها إلا شيئاً ضئيلاً.. بل يذكّره بأن النحل لا تنتج العسل له، ولا تفكّر فيه حين تنتج العسل؛ وإنما تنتجه لنفسها ولأنها لا تجد من إنتاجه بُدَّاً.
غرور الإنسان وامتلاؤه بنفسه واعتداده بقوّته، خيّل إليه أنَّ لكلّ شيء غاية إنسانية يجب أن يبلغها الإنسان، ثم لم يلبث هذا الخيال أن أصبح في نفسه حقيقة، وأن ملأه إعجاباً وتيهاً.. فسخّر من حياته هو كل شيء لتحقيق أغراضه وإرضاء حاجاته، كما سخّر الطبيعة لإرضاء هذه الحاجات وتحقيق تلك الأغراض.
(خصام ونقد، ص 59-60).
-3-
[التمثال من الابتسام إلى العُبوس]
لا أشكّ في أن القوم صدقوني حين أنبأوني بأن تمثال الملك كان باسماً فأصبح عابساً، وبأن وجه الملك كان راضياً فأصبح ساخطاً متجهّماً؛ ثم أنا أشكّ في أن مصدر هذا التحوّل إنما هو ما أوحى به الريف المصري إلى تمثال الملك المصريّ العظيم؛ ومن وحي الطبيعة ما يُرضي ويملأ النفوس سروراً وابتهاجاً، ومن وحي الطبيعة ما يسخط ويملأ القلوب سخطاً واكتئاباً...
[ كان الفلاحون المصريون يحاولون حفر آبارٍ قرب النيل لشحّ المياه آنئذ] وإذا تمثال الملك يظهر لهم مضطجعاً هادئاً مبتسماً مشرقا، [ ولكنه] سمع غناءهم الحزين وشكاتهم المرّة وحديثهم البائس... وأكبر الظن أنه ذكر مصر وأهل هذه الأرض كما يعرفهم حين كان قائماً في معبده قبل أن تزلزل به الأرض زلزالها، وأكبر الظنّ أنه وازن بين حال الناس في تلك الأيام البعيدة وبين حال الناس في هذه الأيام القريبة، وأكبر الظن أن نتيجة الموازنة لم تسرّه ولم تبعث في نفسه الرضى، وإنّما ساءته وملأت قلبه حزناً وسخطا...
كان الناس في تلك الأيام البعيدة أشقياء وبائسين، وهم الآن في هذه الأيام أشقياء بائسون؛ وإذن ففيم تمضي الأيام؟ وفيم تتابع القرون؟ وفيم ترقى الحضارة؟ وفيم ينكشف العلم عن المعجزات؟ وفيم تتطور النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ وما خطب هذا كلّه، وما نفع هذا كله، إذا كان الناس مضطرين إلى أن يختفظوا ببؤسهم وشقائهم قروناً وقرونا؟
في هذا كلّه فكّر تمثال الملك، وبهذا كله ابتأس تمثال الملك، ولهذا كلّه أظلم وجه التمثال بعد إشراق، وعبس بعد ابتسام.
(أحاديث ص 93-98).
-4-
[السّفر بالسيارة غيره بالقطار]
إن المسافر في القطار يتخذ مكانه مطمئنّا، ويلقي نظره بين حين وحين على المدن والقرى والمشاهد التي يمرّ بها أو تمرّ به، فيرى ما يحبّ وما يكره، ولكنّه لا يزيد على أن يرى ما يحب وما يكره.
فأما المسافر بالسيارة فإنه لا يرى فحسب، ولكنه يرى ويشقى بما يرى وينغمس فيما يرى. ماذا أقول؟ بل هو يمتزج بما يرى ولا يجد من هذا الامتزاج إلا شرّا ونكرا.
تمضي به السيارة في طرق منها الممهد ومنها غير الممهّد، والله أعلم أن الممهّد منها لشديد الحاجة إلى أن يستأنف من جديد؛ فأما غير الممهّد فصوّره كما أحببت أو كما استطعت فلن تبلغ من تصويره شيئاً، وأيسر ما يمكن أن نقوله في هذا السّفر الذي تتخذ السيارة أداة له أنّه بديع جدا. يعلّمك كيف تذوق التراب وكيف تجد طعمه، استغفر الله، بل كيف تجد طعومه المختلفة، طعمه حين يمر بالعين، وطعمه حين يلتصق بأي جزء من أجزاء الجسم، وحين يخترق إلى أجزاء الجسم ما تحمل من ثياب مهما تكن كثيفة محكمة ومهما تبذل من الاحتياط في اصطناعها والاتقاء بها فلن تبلغ من ذلك شيئا. إنما أنت في جوّ من تراب، يأخذك من جميع أقطارك فيفسد عليك كل شيء ويبغّض إليك كل شيء، ويملك قلبك ورأسك، ويطلق لسانك بهذا السؤال أو بهذه الأسئلة:
لماذا ندفع الضرائب؟ وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نبذل لها كل ما تحتاج إليه من الطاعة والخضوع للنظام؟
(أحاديث، ص 106،107)
-5-
[البيئة المصريّة]
قالت: من الظواهر التي لا تحتاج ملاحظتها إلى دقة ولا إلى ذكاء، أنَّ مصر مفشية للسرّ، قليلة الحرص على الكتمان. انظر إلى بيئاتها المختلفة، فلن ترى لها سرّا. أحاديث ساستها وقادتها وأدبائها وأصحاب الأعمال فيها ذائعة شائعة يعرفها الناس جميعا ويتناقلها الناس جميعا. ومصدر هذا في أكبر الظن أن طبيعة مصر نفسها صافية واضحة، مسرفة في الصفاء والوضوح، سماؤها صحوٌ دائماً، لا يتكاثف فيها الغمام، ولا يتراكم فيها السّحاب، وأرضها مبسوطة هيّنة لا ترتفع فيها الجبال الشاهقة، ولا تتستّر فيها الكهوف والأغوار، ولا تنبت فيها الغابات الكثيفة الملتفة، فأمرها كلّه ظاهر وحديثها كله شائع، وشمسها المشرقة دائماً لا تؤمن على سرّ مصون.
(من لغو الصيف، ص 21-22)
-6-
[حوار في البيئة بين
أبي العلاء وطه حسين]
كنتُ أحدّث أبا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الأمر إلّا العجز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة، ومن نعيم ولذة. وكان أبو العلاء يقول لي: فإنك ترضى عمّا لا تعرف، وتعجب بما لا ترى؛ وكنت أقول له: إن لم أعرف كل شيء فقد عرفت بعض الأشياء، وإن لم أر الطبيعة فقد أحسستها.
وكان الجوّ من حولي صافياً مشرقاً عطرا، ولم تكن الطبيعة تتحدّث إليّ بلسان واحد أو لغة واحدة، وإنما كانت تتحدث إليّ بألسن مختلفة، ولغات متباينة؛ كانت تتحدث إليّ بعبيرها الذي يملأ الأرجاء، وبطيرها التي كانت تستقبل الليل بأعذب النغم وأشجاه، وبهذا الهدوء الشاحب الحزين الذي يلمّ بالحياة والأحياء إذا آذنت الشمس بالمغيب، وبابتهاج الناس لما يجدون من جمال، وبابتئاس الناس لما يشعرون به من حزن، وبما يعلق الناس به ابتهاجهم وابتئاسهم من الأصوات والحركات، ثم بكلّ هذه الحياة العاملة المنصرفة إلى تحقيق المنافع وإرضاء الحاجات، غير حافلة بجمال الطبيعة وما يثير في النفوس من بهجة وغبطة، وما يفيض عليها من حزن وأسى.
وكنت أسمع هذه الأحاديث كلها فأشتد على أبي العلاء في اللوم، وأعنف عليه في العذل، وأقول له: إن آيْسَرَ هذا خليقُ أن يرضيك مهما يبلغك مشوَّهاً ممسوخاً، وإنَّ شَيئاً يسيراً خير من لا شيء، وإنَّ من الإثم أن تسمى الدنيا " أمّ دفر" [= نتن] وهي التي تهدي إليك هذا العبير، وأن تصفها بالقسوة والغلظة وهي التي تمنحك هذه الرحمة وهذا اللين.
... [ ولكنني] أكره أن أقسو عليه راضياً أو كارها، مخافة أن ألقاه فإذا هو متأذٍ من هذه القسوة، لأني أحبه كما قلت، لأني أجد فيه من الرفق والرحمة، ومن الحنان والإشفاق، ومن البرّ والعطف بالناس وبالحيوان ما لا أجده عند غيره من الشعراء والفلاسفة إلا قليلا. وكيف تتصوّر القسوة على رجل كان يرحم النّحل ويلحّ في أن لا يُشتار [= يقطف] ما تجمع لنفسها! وكان يرحم الدجاج ويفزع إذا قدمت إليه، ويرد الناس أشنع الردّ عن إيذائها! وكان يحاور الديك هذا الحوار الحلو الذي قد أقف عنده في وقت من الأوقات، وكان يترجم عن الضأن للناس فينبئهم بأنها تعذر عدوان الذئب عليها لأنه يقدم على العدوان من غير بصيرة وعقل، ولا تعذر عدوانهم [= الناس] عليها لأنهم يقدمون عن رويّة وتفكير، وعن تعمّد للقسوة وإصرارهم عليها!! وكيف تتصوّر القَسوة على رجل ما أظنّ أحداً فهم عن ذوات الأطواق [= الحمام] مثل ما فهم عنها، وما أظنّ أحداً رحمها من عدوان الناس ومن عدوان سباع الطير وعدوان حوادث الأيام كما رحمها!
(مع أبي العلاء في سجنه، ص 11+)
-7-
[رسالة الزهر]
كانت أحاديثها [= الأزهار] رقيقة رشيقة، لا تؤذي السّمع، ولا تشقّ على النفس، ولا تشغل عمّا يعرض للناس وما يعرض الناس له من المنافع والمآرب والحاجات، وإنّما تسعى عبيراً أَرجاً دقيقاً فتبلغ أعماق الضمير في غير جهد ولا تكلّف؛ أو تتمثّل جمالاً رائعاً بارعاً فيه نضرة الندى ورقّة النّسيم وابتسامة الشمس المشرقة، وهدوء الليل المطمئن، وخصب الأرض الغنيّة، وغناء الطير الفرِح والمرِح، فتملأ العيون بهجة، وتفعم النفوس غبطة، وتشيع في القلوب رضاً وأمناً واطمئناناً، وتقرّ في العقول أن الحياة ليست كلها غدراً ومكراً وكذباً ومَيْناً وخداعاً ونفاقاً وكدراً ورَنْقاً؛ وإنما هي شيء أرقى وأنقى وأجمل وأكمل من هذا كلّه، وهي خليقة أن تحياها ما دامت الطبيعة تستطيع أن تهدي الناس زهراً نضراً يحمل ابتسامة الشمس وعذوبة الندى وهدوء الليل وخصب الأرض؛ وربّما تحدثت إلى النفوس ألواناً من الحديث لا تستطيع لغات الناس أن تصوّرها، لأنها غامضة أغمض من أن تسعها الألفاظ، ولأنها واضحة أوضح من أن تنكرها النفوس، ولأنها تصوّر من نجوى الشجر والزهر حين تشملها ظلمة الليل أو يغمرها ضوء النهار، وما يكون من مرح الغصون حين يداعبها النسيم ومن جزعها وفزعها حين تعصف بها الريح، وتصوّر فرح الطير حين يسفر الصبح واكتئابها حين يدنو الأصيل؛ وتُصوّر ما يكون بين أمواج الأنهار والجداول من مداعبة وملاعبة ومعاتبة ومغاضبة؛ وتُصوّر ما تحمل الشمس المشرقة إلى الأرض من تحية، وما تضمر الشمس المحرقة على الأرض من موجدة [=غضب]؛ وتُصوّر هذه الرسائل الجليّة الخفيّة التي تحملها أشعة الكواكب والنجوم بين الكواكب والنجوم.
[إنَّها] تُصوّر هذا كلّه وأكثر من هذا كله، وتحمله إلى النفس في أناة مستأنية ورفق رفيق، لا تشقّ عليك ولا على أنفسها بذلك، وإنّما تسعى أحاديثها من قبلها إليك عفواً في غير مشقة ولا جهد، وفي غير تكلّف ولا تصنّع. وأنت تسمع لها إن شئت وتعرض عنها إن أحببت، وأنت تعقل من أحاديثها ما تتفتّح له نفسك وينشرح له صدرك؛ ثم لا تشقى بما لم تسمع منها أو تفهم عنها، وإنما هي قائمة باسمة، تؤدي رسالتها وتلقي أحاديثها لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد. فهي تحمل إلى الإنسان رسالة الإنسان، وهي تحمل إلى الإنسان رسالة الطبيعة، وهي لا تشقّ على الإنسان حين تبلّغه هذه الرسالة أو تلك، وهي تنتظر ناعمة مشيعةً النعمة من حولها، حتّى إذا سعى إليها الذّبول ومشى فيها الذواء، استقبلت الفناء راضية كما استقبلت الحياة راضية، وودّعتك بآخر ما ترسل من أرجها وآخر ما تنشر من جمالها، فتركت في نفسك أثراً كالذي تركته في نفس زوجي وفي نفسي، فيه كثير من حبّ، وكثير من رفق، وكثير من حنان، وفيه شيء من اكتئاب وشجون.
(رحلة الربيع والصيف، ص 34-35).
-8-
[موسيقى الغدير]
لست أنسى يوماً خرجنا فيه بعد الظهر إلى مجتمع من الماء، فأقمنا عليه حيناً ثم مضينا نتبع الغدير في غابة كثيفة لا تستوي فيها الطريق ولا تعتدل، ولا تخترقها أشعة الشمس إلا على مشقّة وجهد، قد فرشت أرضها ببساطٍ كثيف من العشب فأخذنا نتبع شاطئ الغدير في هدوء ودعة. وكنت منصرفاً عمّن كان معي وعما كان من حولي إلى هذا الغدير أسمع خريره، وأبتهج به؛ وما هي إلا دقائق حتى أنسيت كل شيء غيره، وحتى اقتنعت بأني لا أسمع خرير الماء، وإنما أسمع نجوى المحبّين. لا أقصد إلى خيال ولا إلى شعر، وإنّما أذكر ما أحسست وما وجدت كما أحسسته وكما وجدته. نعم كنت مقتنعاً أني أسمع في هذا الماء المنحدر حديث المحبين، وكان هذا الحديث مختلفاً باختلاف انحدار الماء قوةً وضعفا. هنا ينحدر الماء في قوّة وينزلق على جماعة من الصخور قائمة، فتسمع لانحداره أصواتاً مختلفة مرتفعة في اعتدال، وما هي إلا أن تتمثل الحبيبين في ثورة ولوعة واضطراب وعتب وخصام، ثم تمضي فإذا مجرى الغدير قد لان واعتدل، وإذا الماء يمشي عليه هيّناً ليّناً، وإذا خريره هادئ رقيق، وإذا أنت تتمثل هؤلاء المحبين وقد هدأت ثورتهم، وبردت لوعتهم، وانصرفوا عن الخصومة والعتاب إلى هذا النحو من الرضا، المضطرب بين السخط والعفو، والذي تدنو فيه النفس من النفس دون أن تجرؤ النفس على أن تتصل بالنفس، والذي تسمع فيه ألفاظاً تمازج حلاوتها المرارة، وتتخلل لينها الشدّة؛ ثم تمضي فإذا مجرى الغدير قد استقام أو كاد، وخلا من الصخور والأحجار إلا هذه الحصى الصغار الدقاق، وإذا ماء الغدير قد رقّ وقلّ وصفا، وإذا هو يمشي مشية خفيفة بطيئة شديدة البطء، وإذا أنت لا تسمع من المحبين خصومة ولا عتابا، بل لا تسمع منهم لفظاً ولا كلاما، وإنما هي قبلٌ هادئة حلوة قد امتزجت فيها النفوس والقلوب، ودنا المحبّون من الفناء؛ ثم استقام طريق الغدير استقامة تامة، وجرى ماؤه على أرض رخوة سهلة، فلست تسمع شيئاً مهما تحاول، فقد هدأ كل شيء، واستقر كل شيء في نصابه...
وأذكر لزوجي ما وجدت من لذة وأنس بهذا الغدير فتنتصر في غضب وسخرية، قائلة: وكم تستطيع أن تجد من لذة وأنس، لو أرحت نفسك وارحتنا من "الضمائر" و"فلسفة ليبنتز"! ولكنك تعلمين يا صاحبتي أن ليس إلى هذا من سبيل.
(رحلة الربيع والصيف، ص 195-196).
-9-
[قناتنا التي دفنوها]
يا للحزن والأسى! يا للّوعة والحسرة! يا لليأس والقنوط! أيبلغ العنف بالزمان أن يمحو هذا المقدار الضخم من حياة الناس في أعوام قصار؟ لقد جدّ جيل وجيل في إقامة معمل السكر وإقامة ما حوله من الدّور، بل من القرى. لقد عاش جيل وجيل بهذا المعمل ولهذا المعمل. لقد عاش جيل وجيل بهذه القناة ومن هذه القناة. فكلّ هذا الجهد، وكلّ هذا العناء، وكل هذه الحياة، وكل هذه الذكرى، وكل ما كان على شاطئ القناة وحول معمل السّكر من جدّ وهزل، ومن لذّة وألم، ومن حب وبغض، ومن أمل ويأس، ومن مكر ونصح، ومن خداع وإخلاص، كل هذا يذهب في أعوام قصار لا تكاد تبلغ عدد أصابع اليد الواحدة؛ كأن هذا شيئا من هذا لم يكن، وكأنّ نفساً لم تتأثر بما أثرته الحياة في هذه الأرض من العواطف، وكأن شفة لم تبتسم لما أنبتته هذه الأرض من أسباب الحزن والأسى. يا للحزن اللاذع، ويا للألم الممضّ، ويا لليأس المهلك للنفوس!
لقد ماتت قناتنا أيها الصديق. ماتت ودفن فيها أو صرف عنها ذلك الإلة الشابّ من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحاً مرحاً. هادئاً مستبشراً يرسل البشر من حوله، جميلاً يثير الجمال على جانبيه. مات هذه الإله الشاب فدفن في مجراه أو طرد هذا الإله الشاب وردّ عن مجراه وفنيّ في الإبراهيمية، فأصبح ماءً من الماء وجرى لا يتميز من غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحداً، لا يثير في نفوس الناس حزنا أو فرحا، ولا يُجري ألسنتهم في الحديث، نسيه الناس، بل نسي هو الناس، ونسي نفسه أيضاً. إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم في المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طرداً؛ فقد هدم معبد هذا الإله الشاب، وماتت القناة فمات هو أو نفي من الأرض، وأصبح حديثاً كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث.
(أديب، ص 52-53).