-1-
لا للضجيج
(أبو سلمى: عبدالكريم الكرمي)
لا أعرف أمة تحب الضجيج مثل أمتنا، ولا أناسا يظهرون طربهم بالصياح مثلنا؛ ألم تر هؤلاء الذين يسيرون في الطرقات وهم يحملون آلات الراديو، يفتحونها على مداها، يستمعون إلى الأغاني والموسيقى الصاخبة وهم سائرون مسرورين، ولايهمهم إزعاج الماشين من عباد الله، وغير آبهين بنظرات الاستنكار المحدقة بهم من كل جانب؟
ألم تصادف أن يكون بيتك إلى جانب دكان أو بائع راديو، يسره أن يفتح دكانه في الساعة السادسة صباحا ولا يغلقها إلا عند منتصف الليل، وهو منذ ساعة يفتح الراديو بأعلى صوته، ولا يخرس صوته إلا عند إغلاق دكانه؟ وقد سألت مرة بائع راديو كان صوت الراديو عنده ملعلعا بالجو عن سبب ارتفاع صوت الراديو بهذا المقدار، فأجابني – حفظه الله – حتى يسمعه من يكون في أول الشارع فيعرف أنني بائع راديو.
ألم يصادف أن يكون جيرانك من الذين يستيقظون باكرا، ومن أصحاب الطرب، ويسبقون الشمس في بكورها، وتمتد الايدي الطويلة إلى الراديو، وإذا بالصوت المجلجل يوقظ أهل الحارة، وكل ذلك لأجل المشاركة في الطرب؟ وإذا كانت هناك حفلة طرب ليلية تمتد إلى ما بعد منتصف الليل فأهل الحارة مضطرون لإبعاد النوم من أجفانهم، حتى يشاركوا في البلاء والغناء...
ويزيد في الطنبور نغما، إذا كان بيتك على طريق عام، تسير فيه السيارات التي لا يطرب سائقوها إلا على نغمات الزامور المتتالية، ويزيد طربهم بإطلاق تلك النغمات في الصباح الباكر أو عند منتصف الليل.
ويزيد في الطين بلة، إذا كان بيتك على طريق فرعي حيث يقوم بائعو "الخضرة " والحليب بمهمة سائقي السيارات؛ ونهيق الحمير، وأزيز الموتور، يقومان مقام الزامور بكل أمانة وإخلاص، خصوصا في الصباح الباكر أو الليل.
أردت أن أسرد هذه الأمور لأقول، إن كل هذه المزعجات لا تعد شيئا مذكورا أمام صياح الذين يستمعون إلى قناطير اللحم؛ فقد ظهرت مرة على شاشة التلفزيون إحدى هذه القناطير اللحمية المقنطرة – وكثيرا ما تظهر لأنها مطربة شعبية كما قالوا، فأخذت تتلوى حسب ما يساعد حجمها، وتغمز بعينيها اللتين شبههما أجدادنا الكرام، وما أصدق التشبيه، بعيون البقر الوحشية. ثم ابتدأت تصيح بإشارات ممجوجة وتهتز اهتزاز البقرة الهولاندية، فهب الحضور، وأخذوا يصيحون ويضربون الأرض بأرجلهم. كل هذا دليل الطرب. أما آن لنا أن نفهم أن الغناء هو صوت حلو، ينساب انسياب الماء العذب إلى النفوس الظمآى؟
أما آن أن تتغلغل النشوة في القلوب هادئة؟ أما آن لنا أن نفهم أن الطرب ليس بالصياح والضجيج، بل في السكون والصمت؟!
( الشاعر أبو سلمى أديبا وإنسانا، ص ص.221،222)
معروف الرصافي
-2-
لا لتلوث الجو
أو
الشارع الكبير في بغداد
( معروف الرصافي )
نَــكّب الشارع الكبير ببغداد
ولا تمش فيه إلا اضطرارا
شارع إن ركبت متنيه يوما
تلق فيه السهول والأوعارا
تترامى سنابك الخيل فيه
إن تقحّمن وَعثه والخبارا
فهي تحثو التراب فيه على
الأوجه حثوا وتقذف الأحجارا
لو ركبت البراق فيه أو البرق
نهارا لما أمنت العثارا
تحسب العابرين فيه سكارى
من هواء تنسموه غبارا
ساطعا يملأ الفضا مستطيرا
حاملا في ذراته الأقذارا
هو إن رُش جاش وَحْلا وإلا
جاش نقعا على الوجوه مثارا
تصهر الشمس فيه أدمغة القوم
إذا هم تخبّطوه نهارا
وإذا ما مشيت في جانبيه
فتجنب رصيفه المنهارا
لا ترى فيه ما يسرّك بالصنعة
حسنا ويبهج الأبصارا
بل ترى العين فيه كل جدار
تكره العين أن تراه جدارا
فجدارٌ عالٍ وفي الجنب منه
متدانٍ تقيسه أشبارا
أين هذا من الشوارع في
الأمصار زانت بحسنها الأمصارا؟
عبّدوها ومهدوها فجاءت
لا اعوجاجا بها ولا ازورارا
وأعدوا بهن كل رصيف
يحمد السير فوقه من سارا
فعلى الجانبين كل بناء
خيل في الحسن كوكبا قد أنارا
ثم لم يكتفوا بذلك حتى
غرسوا في ظلالها الأشجارا
فوَقتهم ظلالها وهج الشمس
وسرّ اخضرارها الأنظارا
هكذا فلتكن شوارعنا اليوم
وإلا فما عمرنا الديارا
(ديوان معروف الرصافي).
أمل دنقل
-3-
لا لقطف الأزهار
( أمل دنقل في المستشفى )
وسلال من الورود،
ألمحها بين إغفاءةٍ وإفاقة
وعلى كل باقة
اسم حاملها في بطاقة
. . .
تتحدث لي الزهرات الجميلة
أن أعينها اتسعت دهشة
لحظة القطف
لحظة القصف، لحظة إعدامها في الخميلة
تتحدث لي..
أنها سقطت من على عرشها في البساتين
ثم أفاقت على عرضها في الدكاكين، أو بين أيدي
المنادين،
حتى اشترتها اليد المتفضلة، العابرة
تتحدث لي..
كيف جاءت إليّ
( وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر )
كي تتمنى ليَ العمر!
وهي تجود بأنفاسها الآخرة !!
. . .
كل باقة
بين إغماءةٍ وإفاقة
تتنفس مثليَ – بالكاد – ثانية..ثانية
وعلى صدرها حملت – راضية . .
اسم قاتلها في بطاقة !
(أمل دنقل: الأعمال الشعرية. ص ص. 442- 443)