خاص بآفاق البيئة والتنمية
في ظل الأوضاع الفلسطينية البائسة والفساد الاقتصادي والإداري والمالي والسياسي، نجد بأن جيوب الأغنياء غير الشرعيين تزداد انتفاخا، وبالطبع، تعتبر هذه الجيوب النتيجة الحتمية لنشوء الفقراء والجياع والعاطلين عن العمل والمشردين الجدد. خاصة مع تكاثر المداخيل والنشاطات الاقتصادية والتجارية الخفية التي لا تخضع للرقابة والتي لا تمر حصيلتها عبر الحركة العادية والواضحة للسوق أو عبر أي جهاز مصرفي محلي، علما بأن حجما كبيرا من الأرباح المرتفعة لهذه النشاطات تهرب الى الخارج أو توضع في المصارف الاسرائيلية والغربية.
كما أن هناك حركة صادرات وواردات كبيرة تسير بعيدا عن آية رقابة. وبالتالي هناك تكاثر هائل في المداخيل الخفية غير المعروف أصلها وفصلها والتي توضع في المصارف الاسرائيلية والغربية وغيرها من البنوك التي تحافظ على السرية المصرفية المطلقة. عدا عن أعمال التبذير وتبديد الثروات والهدر الاقتصادي الضخم وتهريب المخدرات وتسويقها والسلع الفاسدة وتجارة السلاح.
ومن هنا يمكن التشكيك في مدى صحة بعض المؤشرات الاحصائية الاقتصادية الاجمالية، كمعدل دخل الفرد ومستوى الانفاق القومي و"النمو" الاقتصادي مثلا، لأن هذه المؤشرات تستند الى معطيات "رسمية" غير دقيقة أو ناقصة أو ربما قد تكون زائفة. ولهذا الأمر انعكاس سلبي خطير على السياسات المرسومة والبرامج التنموية الموضوعة والقرارات المتخذة التي قد تكون منسجمة أساسا مع مصالح فئات اجتماعية أو مهنية محدودة تحتفظ لنفسها فقط بالمعلومات الخاصة بنشاطاتها ومصادر أرباحها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، ادعاء السلطة الفلسطينية بتحقيق "نمو" اقتصادي مرتفع عام 2014 في الضفة الغربية بلغ 4.5%، أو، قبل ذلك، تحقيق نمو متضخم في الضفة والقطاع، في الفترة 2008-2011 تراوح بين 9%-7% (صحيفة القدس 12/09/2011)- هذا الإدعاء يعتبر مضللا، لأنه ناتج أساسا عن التدفقات المالية الأجنبية ("مساعدات المانحين")؛ ما يشير إلى هشاشة وزيف "الاقتصاد" الفلسطيني المعتمد على التحويلات المالية الأجنبية وأموال ضرائب المقاصة التي يتحكم بها الاحتلال. فلو كان "النمو" المزعوم صحيحا وناتجا عن تراكم رأسمالي داخلي حقيقي، لكان يفترض به توفير فرص عمل جديدة كثيرة وتقليصا كبيرا في نسب البطالة؛ لكن ما حدث تمام العكس من ناحية الزيادة الكبيرة في نسب البطالة والفقر.
وفي ظل "النمو" الاقتصادي المرتفع يفترض أن تكون حالة السوق الاقتصادية والتجارية مزدهرة، بمعنى وجود حركة تجارية وصناعية وزراعية جيدة ونشطة؛ وبالتالي مداخيل ورسوم ضريبية جيدة للسلطة، لا "إفلاسا" ماليا وعجزاً مزعوما عن دفع المستحقات والرواتب التي تقع تحت رحمة الممولين الأجانب. فما هذه "الدولة" المزعومة التي يدفع لها الأجنبي رواتب موظفيها؟ إن أكثر الدول فقرا وتخلفا وفسادا، كالصومال وأفغانستان واليمن لا يعتاش موظفوها الحكوميون، بشكل أساسي، على التمويل الأجنبي.
وكما هو واضح، المطلوب من الفلسطينيين الرقص على إيقاعات "المانحين" التمويلية في القطاعات والمجالات التي يحددون، مسبقا، استعدادهم لتمويلها، بغض النظر عن الأولويات والاحتياجات التنموية والاقتصادية الحقيقية للبلد. أو ليست القطاعات التي يتم اختيارها للاستثمار الأجنبي والمشاريع المرشحة للتمويل يحددها أساسا "المانحون" بالاتفاق مع البنك الدولي وإسرائيل؟ لهذا فان "المانحين" لا "يدعمون" الزراعة الفلسطينية دعما جذريا وواسعا، لأنها مرتبطة أساسا بالأرض والمياه وبالتالي فان "المانحين" غير معنيين بتجاوز الاتفاقات الاسرائيلية-الفلسطينية التي أبقت السيادة السياسية على الأرض والمياه لإسرائيل.
وبالإضافة إلى ذلك، لا توجد رقابة على الأموال والثروات العامة والأراضي التي سيتم استثمارها لتنفيذ "خطط التنمية" الفلسطينية، علما بأن هناك هدر للأموال العامة وسوء تصرف بها واستغلال للنفوذ لتحقيق أغراض شخصية، كما ورد في "تقرير الفساد ومكافحته لعام 2011" الذي أصدره الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة/أمان ("تقرير الفساد ومكافحته لعام 2011"، "أمان"، 2012). وقبل هذا التقرير بوقت طويل، أصدرت "هيئة الرقابة العامة" و"لجنة الرقابة" في مجلس الحكم الذاتي تقريرين (1997)، وجها تهما واضحة لجهات رسمية ومسؤولين، ومع ذلك، لم تتخذ إجراءات رادعة ولم يحاسب المتهمون. بل، والأنكى من ذلك، إن الشارع الفلسطيني لا يعرف لماذا أغلق المجلس، في حينه، ملف الفساد! في الوقت الذي تواظب السلطة الفلسطينية، حتى يومنا هذا، على اعتقال وملاحقة المجاهدين والمناضلين ضد الاحتلال أو الملاحقين من قبل الأخير.
وفي المقابل، ازداد انتشار الفقر في السنوات الأخيرة واتسعت البطالة، وانخفض معدل دخل الفرد السنوي، ومع الانخفاض الكبير للشيكل الاسرائيلي (مقابل الدولار) انخفضت القيمة الحقيقية للأجور الشهرية بعشرات في المائة، وبالتالي اتسع الفقر الفلسطيني وتعمق، وبخاصة في أوساط ذوي الدخل المتدني أصلا، وهم يشكلون غالبية العاملين بأجر في الضفة والقطاع الذين لا تتجاوز رواتبهم 1500-2000 شيكل، بمن فيهم العاملين في أجهزة السلطة، الأمر الذي سحق القدرات الشرائية لغالبية الناس وخفض الانفاق الحقيقي للفرد الى أدنى مستوياته منذ العام 1980. وبالإضافة لذلك، ينعدم الأمان الوظيفي وديمومة الدخل بالنسبة للغالبية الساحقة.
لذا، فإن الواقع الاقتصادي-السياسي-الاجتماعي-التنموي الفلسطيني معرض لمزيد من الانفلات ولمزيد من الهدر الاقتصادي والمالي وسوء الادارة والتصرف.
الزراعة الفلسطينية تحت حراب الاحتلال
معونات الإفساد والتدمير
من اللافت للنظر، بشكل صارخ، أن معظم "معونات" البنك الدولي المالية الموجهة لدول "الجنوب"، ينصب أساسا باتجاه الأنظمة التي يتفشى فيها الفساد المالي والاداري والسياسي والأخلاقي، كما في كوريا الجنوبية وتايلاند وأندونسيا وسنغافورة وتايوان التي منحها البنك وصندوق النقد الدوليين -في أواخر التسعينيات- قروضا ضخمة (نحو 140 مليار دولار)، بهدف منع الهزات الاجتماعية-السياسية العنيفة في هذه البلدان التي دخلت رؤوس الأموال الأجنبية إليها، أحيانا كثيرة، بفضل الرشوات التي تلقاها حكام هذه الدول.
وهنا من المفيد التذكير أنه وبهدف إسقاط النظام الوطني الذي ساد في العراق حتى العام 2003، واستبداله بنظام موال لأميركا، أقر الكونغرس الأميركي (1998) مبلغ 97 مليون دولار لتمويل نشاطات وتسليح ما يسمى "المعارضة العراقية"، وتمثلت قنوات التمويل المباشرة "بمنظمات غير حكومية" أميركية وهيئات فدرالية، ومن أشهر هذه المنظمات والهيئات "وكالة التنمية الدولية" الأميركية (USAID) التي تمول نشاطات العديد من المنظمات والمؤسسات الحكومية و"غير الحكومية" في "العالم الثالث" بما في ذلك الضفة والقطاع. ومن بين نشاطات الحركات العراقية الموالية لأميركا التي عكفت، في حينه، على تمويلها: بناء التنظيمات "المعارضة"، إصدار نشرة شهرية إخبارية للأخيرة، مؤتمرات وفعاليات في مجال "حقوق الإنسان" و"المجتمع المدني"!. ألا يذكرنا محتوى هذا التمويل وقنواته والبواعث التي تختفي وراءه ببعض ما يحدث لدينا في الضفة والقطاع؟ وينسحب هذا الأمر أيضا على سوريا اليوم، حيث الدعم الأميركي-الخليجي المالي والعسكري المكثف لما يسمى المعارضة و"جيش سوريا الحر" والعصابات الدموية المتسترة بالدين، بهدف إسقاط النظام السوري الممانع للمشاريع الأميركية-الإسرائيلية في المنطقة العربية بعامة، وفي فلسطين ولبنان بخاصة.
كذلك ، وإثر الضغوط الأميركية، أفرجت السلطات المصرية في أواخر شباط 2012 عن 13 ناشطا أجنبيا بينهم ستة أميركيين ناشطين في منظمتين أميركيتين "غير حكوميتين" ممولتين من الحكومة الأميركية، وهما "المعهد الجمهوري الدولي"، و"المعهد الديمقراطي الوطني" تروجان "للديمقراطية"، وتدعمان مجموعة من المنظمات غير الحكومية المصرية. وقد أفرج عن الأميركيين بالرغم من اتهامهم بالتدخل في الشؤون الداخلية المصرية، وقيامهم بنشاطات تتعارض مع السيادة المصرية، والعمل على تقسيم مصر وتقويض استقرارها الداخلي، والعثور على وثائق تدينهم (صحيفة القدس العربي 2/03/2012).
والأسئلة الجوهرية المطروحة والتي تحتاج الى إجابات دقيقة هي: هل تجوز التنمية الحقيقية في ظل استمرار الخلل البنيوي العميق في العلاقة الاقتصادية الاسرائيلية-الفلسطينية والناتج أساسا عن انعدام التكافؤ السيادي والسياسي والاقتصادي والتنموي بين الطرفين؟ وهل تجوز التنمية الفلسطينية التي تهدف إلى رفع مستوى معيشة شعبنا ورفاهيته والقضاء على البطالة والفقر والجوع، حين لا تكون مبنية على أساس تكاملي مع الكل العربي وفي ظل التبعية المذلة لاسرائيل والغرب، على قاعدة خنقنا في محمية إسرائيلية، وبالتالي، عدم امتلاكنا، كفلسطينيين على حدة، وبمعزل عن سائر الوطن العربي، لمقومات الوجود الذاتي المستقل؟
وأيضاً من الأسئلة: ألا يعني "السلام" المزعوم بالنسبة للفقراء شيئا مختلفا تماما عن، ومتناقضا مع "السلام" كما يراه الأغنياء؟ أو لم يعمق "سلام" أوسلو فقر الفقراء وبؤسهم وغنى الأغنياء وغلواءهم؟ ومن هي الشرائح الاجتماعية (الطبقية) والسياسية التي استفادت وتستفيد حقا من اتفاقات "السلام" وما تمخض عنها من إنشاء السلطة ومؤسساتها وأجهزتها؟ ما جدوى مواصلة الحديث عن "التنمية" الفلسطينية، طالما أن الاحتلال يمعن في تحكمه المطلق بأهم عناصر التنمية، أي الأرض والموارد والسيادة، وطالما أنه يواصل خنقنا في محمية تفتقر لمقومات الوجود السياسي – الاقتصادي الذاتي المستقل؟ ألا يمكننا القول بأن "الدعم" المالي الغربي، من ناحية، والحديث الاسرائيلي-الغربي عن "التنمية" الفلسطينية، من ناحية أخرى، ليسا أكثر من مجرد غلاف لخطط ومشاريع أخرى لا علاقة لها بالتنمية الفلسطينية الحقيقية على الأرض؟