خاص بآفاق البيئة والتنمية
نُفذ في السنوات الأخيرة في مخيم دهيشة جنوب شرق مدينة بيت لحم، مشروعٌ أخضر لزراعة الدفيئات بدأ في منتصف العام 2011 مع سبعة دفيئات بلاستيكية شيدت على أسطح المنازل لغياب المساحات المتوفرة في مخيّم يكاد يتسع لساكنيه، فكرة صديقة للبيئة ومعززّة لثقافة الاقتصاد المنزلي وجدت اقبالاً جيداً، حيث وصل عدد الدفيئات بعد أقل من أربع سنوات إلى عشرين دفيئة.
وبلا شك، يتفق الجميع على دور النبات والزرع في اضفاء الجمال على أي مشهد عدا عن الأثر النفسي الإيجابي والصحي والبيئي، فمن منا لم يفكر في تجميل حديقة منزله بزراعتها بالأشجار والزهور؟ لكن تحقيق هذه الأماني لا يكون بدون توفر الرغبة والمعرفة والخبرة، فالسيدة هاجر العيسة ابنة المخيم الستينية وصاحبة الفكرة، وضعتنا على أول الطريق وشرحت لنا ما يمكن أن نطلق عليه "أسرار" الصنعة!.
تحدثت هاجر التي تناضل على طريقتها، أثناء تجوالنا في أزقة المخيم، عن حجم الحب الذي تكنه للأرض، لم تكتفِ بالتفكير ضمن النطاق الضيق، فهي المتحيزة للمرأة ولقدرتها على إثبات ذاتها وإحداث التغيير، وعليه لم تتردد بطرح الفكرة على مؤسسة كرامة لتنمية المرأة والطفل، والتي بادر القائمون عليها بتحويل الفكرة إلى واقع ملموس، من خلال توفير المواد اللازمة لبناء الدفيئة البلاستيكية المتمثلة بالأغطية البلاستيكية الزراعية، نظام الري بالتنقيط، والشبك، وقضبان الحديد، ومواسير بلاستيكية بقطر 18 إنش، وسدادات، وخزانات مياه، والتراب المعالج "البيتموس"، والأشتال، بتكلفة إجمالية تصل إلى 1100 دولار أمريكي.
ياسر الحاج يتفقد الدفيئة البلاستيكية المبنية على سطح مؤسسة كرامة
الدفيئات: الميزات وعوامل النجاح
يعرّف الخبير الزراعي المهندس سعد داغر الزراعة المغطاة أو المحمية على أنها زراعة المحاصيل تحت أغطية بلاستيكية بهدف توفير ظروف مناسبة لنمو النباتات خارج الفصول التي تنمو فيها، وبالتالي إنتاج محاصيل صيفية في فصل الشتاء والعكس صحيح، ولعل الجزء الأخير من التعريف يضاف إلى مزايا هذا النوع من الزراعة وهي الحصول على إنتاج أعلى للمحصول من وحدة المساحة، والتقنين من استهلاك المياه بالإضافة إلى السيطرة على الآفات الزراعية.
ويتابع داغر بأن هذه المزايا لا تتحقق دون توفر عوامل للنجاح، والتي تكمن في توفر المعرفة لدى المزارع بالتعامل مع البيت البلاستيكي من حيث الري، والتهوية، ففيما يتعلق بالري الذي يعتمد على نوع المحصول وعمر النبات ومرحلة النمو يقول داغر: "من الضروري الانتباه إلى عدم زيادة كمية المياه منعاً لتشكل الرطوبة العالية التي تساعد على ظهور بعض الأمراض"، كما يفضل أن يتم الري في ساعات المساء، منوهاً إلى أن مرحلة الإثمار تحتاج لكميات مياه أكبر، ووفقاً للأستاذ محمد سعيد اللحام وهو مدير دائرة الخضار والزهور في وزارة الزراعة الفلسطينية فإن الدونم الواحد من البيوت البلاستيكية المغطاة يحتاج ما بين 700-900 كوباً من المياه، في حين المكشوفة منها تحتاج إلى كمية تتراوح ما بين 350-400 كوباً.
أما التهوية، يقول داغر فيجب علينا الانتباه إلى الحاجة لفتح البيت البلاستيكي فجراً وقبل شروق الشمس، بعكس اتجاه الرياح، فمثلاً إذا كان اتجاه الرياح غربي نقوم بفتح الجانب الشرقي، وقبل بزوغ الشمس بنصف ساعة نفتح البيت من الجهتين الشمالية والجنوبية ومن ثم الغربية.
كذلك، قدم اللحام مجموعة من النقاط الرئيسية التي لا بد من مراعاتها عند زراعة البيوت البلاستيكية، وتتلخص بعدم القيام بأعمال القطف والتقليم إذا كانت النباتات رطبة أو قبل تطاير الندى والسبب تفادي إصابة النبتة بالبكتيريا أو الفيروسات وخصوصا تلك التي تنتقل باللمس مثل CGMMV، وزراعة أصناف ذات نمو خضري محدود خاصة في الشتاء وذلك بهدف زيادة التهوية والتقليل من الإصابة بأمراض المجموع الخضري، هذا بالإضافة إلى النظافة العامة والتخلص من الأجزاء المصابة بطريقة سليمة لتقليل بؤر العدوى في المكان.
ويضيف اللحام إلى ما سبق مركزاً على ضرورة صيانة الشبك وتنظيفها وضرورة احتواء السقف البلاستيكي على مادة الـ UV التي تقلل من أعداد الذبابة البيضاء والمن، وبالتالي تقليل أضرارها المباشرة وغير المباشرة كناقلة للأمراض، هذا بالإضافة إلى استخدام الأصناف الملائمة والإدارة الجيدة لخصوبة التربة.
ياسر الحاج يتفقد محصول الخيار في الدفيئة على سطح مبنى مؤسسة كرامة
واقع الزراعة المغطاة في فلسطين
لعل أبرز أهداف تجربة المخيم هو جني محاصيل زراعية طبيعية خالية من أية مواد كيميائية، تصل بالعائلة إلى درجة من الاكتفاء الذاتي من بعض المحاصيل، وبالتالي لا مجال حتى اليوم للمشروع ليكون تجارياً، خاصة إذا ما علمنا أن مساحة البيت البلاستيكي الواحد لا تتعدى 20 متراً مربعاً.
لكن حداثة التجربة في المخيم لا تلغي حقيقة أن الزراعة المغطاة في فلسطين توصف بالمتطورة وبحسب مدير دائرة الخضار والزهور في وزارة الزراعة فإن مساحة الأراضي المزروعة بالبيوت البلاستيكية في الضفة الغربية يبلغ 35 ألف دونم، تتركز في مدن جنين مع 9 آلاف دونم وطولكرم وطوباس مع 7 آلاف دونم لكل منها، وتأتي في المرتبة الثالثة مدينة قلقيلية (2500 دونماً)، و2000 دونم لمحافظة الخليل جنوباً والتي تتركز فيها زراعة الخضراوات الورقية من سبانخ، ونعنع، وبقدونس، وخس وغيره.
ووفقاً لـ اللحام فإن الخيار والبندورة من أكثر المحاصيل زراعة داخل البيوت البلاستيكية بواقع 19 و 12 ألف دونم على التوالي، وتليهم الفاصوليا ومن ثم الفلفل الحلو الملوّن والباذنجان الذي تتركز زراعته في الأغوار. أما حجم متوسط الإنتاج في الموسم الزراعي لهذه المحاصيل فيبلغ 20 طناً للبندورة، و 9 أطنان للخيار، و 4 أطنان للفاصوليا وسبعة أطنان لكل من الفلفل الملوّن والباذنجان، ولا بد من التنويه إلى تفاوت مدة الموسم الزراعي لكل محصول، وبالتالي فإن حجم الإنتاج السنوي في تغير، فمثلاً إنتاج الأطنان العشرين من البندورة يحتاج عشرة أشهر في حين ثلاث أشهر ونصف الشهر كافية للحصول على الأطنان التسعة من الخيار.
يشير المهندس سعد داغر إلى إيجابيات وسلبيات الزراعة المغطاة، أما الإيجابيات فتتمثل بغزارة المحصول والقدرة على الإنتاج خارج الموسم، في حين تبرز السلبيات في الاعتماد على الخارج خاصة وأن زراعة المحاصيل داخل البيوت البلاستيكية تتم إما تكون معدلة وراثياً أو مهجنة، وبالتالي تغيب إمكانية إعادة إنتاج بذور هذه المحاصيل من قبل المزارعين مما يجعلهم مضطرين لاستيرادها من الخارج.
كذلك، تبرز مشكلة الأسمدة والمبيدات الكيماوية التي تحتاجها بعض البذور، والأغطية البلاستيكية وبعض أنواع الحديد التي أيضا يتم استيرادها من الخارج، ما عدا التراب المستخدم فهو محلي لكن مشكلته تكمن في تخريبه باستخدام الكيماويات الضارة بالتربة والماء والهواء والصحة، خاصة في ظل غياب زراعة طبيعية داخل البيوت البلاستيكية باستثناء بعض التجارب البسيطة ومنها مشروع الزراعة المغطاة في مخيم دهيشة ومزرعة مركز معا العضوية في بيت قاد (جنين). وفي هذا الجانب لا بد من الإشارة إلى عملية تدوير مخلفات الطعام التي تقوم بها هاجر العيسة، والمتمثلة بطحن قشور الخضراوات وتخميرها في حفرة ورشها بالمياه وتغطيتها بالقش وتركها لتجف لتكون النتيجة تراباً يمكن استخدامه للزراعة.
الآفات والعلاج
تصيب المزروعات الآفات والأمراض، ومن بين هذه الآفات البياض الدقيقي والزغبي والمن والتربس والذبابة البيضاء والعفن بأنواعه ونذكر منها العفن الرمادي وعفن الأوراق الأسود، هذا بالإضافة إلى الآفات التي تصيب التربة مثل الفيوزاريوم، والبيثيوم والنيماتودا، ووفقاً للحام، فإن البياض الدقيقي Powderymidew ينتشر بشكل واسع في جميع أنحاء العالم، وهو عبارة عن فطريات تتبع عائلة Erysi phaceae، ويمكن أن تتعرض أشجار الفاكهة مثل التفاح والخوخ والكرز والفراولة والورد والقمح والشعير والقرع والباذنجان للإصابة بهذه الآفة الزراعية.
أما البياض الزغبي فهو من أخطر الأمراض التي تصيب الخيار ويسبب خسائر فادحة في المحصول قد تقضي على 50% منه في حال الإصابة. أما آفة التربس فهي عبارة عن نقط برازية أو بقع بنية أو سوداء كبيرة تتغذى على البراعم الزهرية من الداخل وتسبب منع تفتح الزهور المصابة.
لمكافحة الآفات الزراعية يستخدم العديد من المزارعين المبيدات الكيميائية السامة والممرضة للإنسان والبيئة والتربة؛ إذ من الأفضل بكثير الاعتماد على الأساليب الطبيعية كما هو الحال مع تجربة الدفيئات في المخيم، ليس فقط من أجل الحصول على غذاء طبيعي خال من المواد الكيميائية، وإنما لأن الاعتماد على هذه الأساليب يقلل من تكلفة الانتاج والتقليل من استيراد مواد الإنتاج الزراعي.
ياسر الحاج يقدم شرحاً عن النباتات المزروعة في الدفيئة على سطح المبنى
لماذا طبق المشروع في المخيم؟
وبالعودة إلى فكرة المشروع وعن العوامل التي دفعت المؤسسة لقبول فكرة هاجر، أكد ياسر الحاج مدير مؤسسة كرامة -وهو ابن العائلة المهجرة عام 1948 من قرية زكريا شمال غرب محافظة الخليل- والرافض للدعم المشروط، على إيمان المؤسسة بأهمية تعزيز دور المرأة للمجتمع وتمكينها وتنمية قدراتها والوصول بها إلى الاستقلال الاقتصادي، بالإضافة إلى ضرورة زرع القيم ومفاهيم الإنتماء للأرض وحبها بين أبناء الجيل الجديد، مشيراً إلى أن الفكرة التي بدأتها النساء شكلت نوعاً من التكافل الاجتماعي والمشاركة داخل الأسرة التي أصبحت تلتقي للاعتناء بمزروعاتها وتتبادل الأفكار حول تفاصيل الزراعة، ولم يعد هناك وقت فراغ لأحد لأن الجميع يستغل وقته في تطوير الأفكار وقطف الثمار.
وعن الخطط المستقبلية للمشروع، تحدث الحاج عن توجه يقضي بقيام كل سيدة لديها بيت بلاستيكي بزراعة صنف واحد من المزروعات وفتح محل لتسويق المنتوج الفائض عن حاجتها إلى جانب تسويق بعض المنتوجات المنزلية من المأكولات الفلسطينية التقليدية، وقد لاقت الفكرة استحسان الجميع وستدخل حيز التنفيذ في الربيع المقبل.
يصف الخبير الزراعي داغر تجربة البيوت البلاستيكية على أسطح المخيم بالرائدة والواجب تعميمها على المناطق المشابهة، بحيث يصاحبها تدريب مكثف حول إدارة البيوت البلاستيكية وأهمية التركيز على الزراعة الطبيعية للمحاصيل المغذية والمحلية وبطرق قابلة فنياً للتطبيق.
ويؤكد داغر على ضرورة دراسة الجدوى الاقتصادية والصحية والاجتماعية المرافقة لمثل هذه الزراعة وتربية الأطفال وتعليمهم أهمية حب الأرض والعمل والاعتماد على الذات في الإنتاج، فتعلم الزراعة يغرس سلوكيات إيجابية كثيرة لدى الأطفال، وهنا أستذكر قول هاجر الذي ما برحت تردده "كلما أعطيت الأرض من وقتك وجهدك، كلما أعطتك من خيرها".
تواجه أصحاب المشروع في المخيم العديد من العراقيل التي يصرون على مجابهتها وتحديها، ومنها ارتفاع تكلفة التراب المعالج والتي استعانوا بعملية التدوير للتقليل منها، كما يعانون من قلة المياه فتراهم يخزنون المياه في فصل الشتاء تحسباً لانقطاعها صيفاً، ولأننا في فلسطين فلا بد أن يكون الاحتلال منغصاً لأي مشروع ينفذ خاصة اذا ما تعلق بالأرض فتجدهم يمنعون المتطوعين الأجانب الداعمين للفكرة من الدخول إلى فلسطين، وفي معرض هذا الحديث يقول ياسر الحاج: " البيوت البلاستيكية ليست بديلاً عن الأرض بل أوجدناها لتعزز من مفهومها لدينا ولدى أبنائنا، لأن الانتماء للأرض هو انتماء لفلسطين".