-1-
[العودة إلى ذكرين]
"ذكرين،
قريتنا،
ذكرين لم يبق فيها حجر على حجر. بيوتها هدمت كلّها.
صارت التلة التي انغرست فيها ذكرين أرضاً حرجيّة؛ معالم ذكرين توارت تحت ألوف الأشجار المهملة، والركام، والأعشاب الهائجة.
قال لي أحد أبناء عمومتي:
- تعرّفنا على الآبار.. بيوت لا يوجد. أشجار حرجية كثيرة نبتت فوق ما كانت بيوتنا. تعرّفنا إلى حقل الجدّ مرشد.. أخذنا أبناء رجل من قريتنا ما زالوا يقيمون في قرية الخليل... وهم يَضْمنون زيتون قريتنا في كل موسم.. من اليهود!
تصور يا ابن العم... أجدادنا زرعوا ذلك الزيتون... ويأتي اليهود ويستولون عليه، ويبيعونا محصوله.
ابن العمّ أحضر تراباً من تراب ذكرين.. والأقارب وضعوه في المناديل، أو الزجاجات.. تشمّموه وبكوا...
ووزّع ابن العم حبات زيتون حملها معه من ذكرين.. والأقارب وهم يتأملون حبات الزيتون؛ ويعقدون الجلسات، ويستعيدون الذكريات وسير الذين رحلوا.. أعادوا تاريخ القرية بناسها، وبيوتها، وحكاياتها، وأيامها...
خفت أن أرى التلة التي كانت عليها ذكرين ذات يوم.
ولدت على ثراها ذات ساعة من 15 حزيران عام 1942.
أأعود إلى ذكرين كما لو أنني سائح.. التقط الصور بين الأشجار التي غرسها سيدي مرشد الذي تشب [تشبّث؟] بكرمه ومات، ودفن هناك؟
أن لا أعود إلى ذكرين يعني أنني لم أعد إلى فلسطين؟
يعني أن فلسطين لم تعد لي بعد...
(رائحة التمر حنّة، ص ص 37،38)
-2-
[أريحا]
سألني صديقي أبو العلاءٍ غير منتظر الجواب:
- مشتاق لأريحا... ها!
شعرت أن دمعتين طفرتا من عينيّ، وأنا أرى أولاداً وبناتاً يلعبون في أزقة مخيّم النويعمة، وأستذكر (شيطناتنا) البريئة، ورسائل عيوننا لبنات خيّل لنا أننا وقعنا في حبّهن، وآباء وأمهات شقوا في توفير لقمة الخبز لنا، وأعراس ودبكات ونايات ونقر درابك، وأرغول يشلع الليل في (سحباته) التي تسري مع الليل، تحت قمر أريحا البدر المفعم بالحياة في كل شيء.
تركني (أبو العلاء) في حالة الوجد، كنت أغرق في الذكريات، وأذهب مع المشاعر والحنين، وأرى وجه من أحببت، و(أجوح) في داخلي... وأفكّر في كل من عرفت: أين هو الآن؟ أين هي الآن؟... الذين ماتوا! والذين ما زالوا أحياء في المنافي القريبة والبعيدة.
(رائحة التمر حنّة، ص96)
-3-
[ ]
عندما نصل إلى بيت أبو العلاء [ في أريحا]...أرى علاء يتلبّد بانتظار أن تغري حبّات القمح والعصافير بنقرها.. ثم ليطبق الفخّ على أعناقها ورؤوسها...
أقترب بهدوء باتجاه الفخّ.. ويدرك علاء ما أزمع فعله، فيركض إليّ ويمسك بي محاولاً الحيلولة دون تنفيذ ما أنويه..
أتملّص منه، وأدفع الكومة الترابية المغطاة بحبات القمح، فيقفز الفخ في الهواء، وينطبق على لا شيء...
ويتساءل علاء:
- لا، ليس كل الناس، أنا عندما كنت صغيراً رفضت مشاركة أولاد مخيّمنا صيد العصافير... يا علاء، مَنْ أجمل: سماع صوت البلبل وهو على الشجرة... وهو يأكل حبات العنب الناضجة... وهو يلعب بذيله على غصن... أم عندما تمزّق جسده بهذا الفخّ المعدني!
ظلّ علاء ساكتاً...
- يا علاء، نحن من دون البشر لا ينبغي أن نصطاد العصافير... إنها متعة، وجمال، وأنس.. وأنت لو اصطدت عصفوراً فإنه لن يشبعك، ولكن لو أنك تركته لأبهجك...
- لماذا نحن من دون البشر لا يجب أن نصطاد العصافير؟
- لأننا ظُلمنا كثيراً.. وتعذبنا كثيراً، سال دمنا كثيرا، ثم إنها لا تسمن ولا تُغْني من جوع.. قتلها مجرّد أذى.. ومن يعتد على رؤية الدم، ويلتذّ بقتل مخلوق الله فإنه غالباً لن يتوقف عن القتل..
وإذا نحن هكذا، جاء بلبلان، تقافزا على أغصان شجرة العنب التي تغطي مدخل البيت.
- ما رأيك أنهما زوجان؟
كيف عرفت؟
- انظر كيف يلعبان معاً..
- يمكن...
أيرضيك قتل أحدهما.. وترك الآخر يعيش وحيداً؟... ربّما لهما عشّ في مكان ما.. فيه فراخ أو.. بيض وضعته الأنثى.. إنها عائلة.. ثم إن أرضنا شهدت قتلا كثيرا، دماً غزيرا.. وهذه طيورنا.. ونحن نعود إليها بعد غربة أعوام طويلة.. إنها بحاجة إلى عنايتنا...
(رائحة التمر حنّة، ص 193،194).
-4-
[ ]
زحام شديد، تندفع سيارات الميكروباص غاصّة بالركاب مطلقة أبواقها، مخلفة وراءها دخاناً أسود ثقيلا كريه الرائحة، مثيرة الغبار.
اندفع ولد صغير وراء كُرَتِه، فكادت مارسيدس فارهة أن تضربه لولا سرعة انتباه السائق الذي انعطف بالسيّارة متفادياً الولد.
علّق سائق التاكسي:
- ضاقت الدنيا بأهلها، الأولاد يا أستاذ، زمان كانوا يلعبون بين الحقول، أو في الفُسحات بين بيوت الحارات. تجّار البناء يا أستاذ، قطعوا الأشجار، وكدّسوا البنايات، وحوّلوا المدينة إلى اسمنت. أستاذ، هل تستطيع أن تتنفّس؟
حاول أحمد أن يأخذ نفساً عميقاً، فامتلأ صدره بالهواء الوسخ الثقيل، وبرائحة المازوت الأسود الذي تخلفه السيّارات.
تنبّه على صوت السائق، الذي كان يراقبه في المرآة العاكسة أمامه:
- ها، ماذا تقول، أستاذ، في حياتنا؟
لم يعلّق أحمد على كلام السائق. الجوّ حارّ خانق، وعرقه يسيل على عنقه. ظهره يُشوى بجلد المقعد الملتهب، إنه يراقب فقط.
يحاول أن يتذكّر الشوارع، الحارات، الطرقات التي حفظتها ذاكرته طيلة سنوات غربته.
قال السائق:
- هناك، أستاذ، كانت حقول المشمش والزيتون، كانت الخضرة.
لم ير أحمد غير إسمنت بشع.
(الضحك في آخر الليل، ص 45، 46).
-5-
قال محمود [ لصاحب المقهى أبو خليل]:
- لم أكن أعرف أنك عدت إلى شجرتك القديمة [ التي تظلّل المقهى].
هزّ أبو خليل رأسه الأشيب الضّخم.
- هي فعلاً شجرتي أراد صاحبها أن يقطعها في العام الماضي فرجوته، ولكنّه لم يلن لرجائي. قلت له: أدفع لك ما تشاء، حياتي مرتبطة بهذه الشجرة. قال وهو يرفع رأسه بإشمئزاز واعتداد: هي شجرتي وأنا حرّ، أبناء المخيمات يجتمعون هنا عندك، وهذا ينفّر أفراد أسرتي.. عندها انتفضت، صرخت في وجهه: هذه ليست شجرتك، أنت لم تزرعها، وهذه الزيتونة زرعت قبل ولادة جدّ جدك، أنا منذ خمسة عشر عاماً أحيا تحتها. اليد التي ستمتد لقطعها ستقطع، هذه شجرتي، أنا لن أتحرك من هذا المكان.. رأى الشرّ يتطاير من عيني فانسحب.. عندئذ قطعت الأسلاك الشائكة التي تسوّر البيارة، وخلعت الأوتاد، وغيّرت أمكنتها، وهكذا أصبحت الشجرة خارج حدود البيارة.
(العشّاق، ص 206).
-6-
[تراب الشهداء]
وهو [حارس الروح] لم يغلق عيني شهيد، يقول: كي تريا كل شيء – الفلسطيني لا يجب أن يغمض عينيه حتى وهو ميت. وهو كان يمشي على رؤوس أصابعه في حذائه الخفيف، ويردّد: لا تضغطوا على الأرض، امشوا خفافاً، كي لا توجعوا التراب لأنه من أجساد الذين سبقونا، كي لا تعتصروا التراب فيتدفق دمهم.. بهدوء، بخفة، امشوا وإن تمكنتم ارتفعوا بأجسادكم في الهواء، طيروا طيرانا. من بين التراب والرمل يلمّ بحرص فتات الخبز، يأكله مع الرمل، يقول: التراب يأكل، ليس لأنه تراب، ولكن لأنه أفواههم وحناجرهم ودمهم.. ألوف.. عشرات الألوف، منذ ألوف السنين راحوا، تمزّقت أجسادهم وذابوا في التراب والرمل على رؤوس الجبال وفي جذور الأشجار وفي أحشاء الطيور، لذا هديل الحمام حزين لأنه شجى صرخاتهم الأخيرة، أو وصاياهم لنا.
(الرّب لم يسترح في اليوم السابع، ص 139،140).