خاص بآفاق البيئة والتنمية
قبل الوصول الى منزله الريفي في قرية "مزارع النوباني"، قطعت "مجلة آفاق البيئة والتنمية" جولة سريعة بين تلال ريف شمال غرب رام الله، حيث زُيّنت التلال بخضرة الربيع الموشّاة بالأزهار البرية زاهية الألوان، وككل القرى احتل الزيتون المنتظم مع سلاسل الأرض "المصاطب" مساحة كبيرة، اضافةً الى اللوز وزهره الذي اضاف للمشهد العام سحراً لا متناهِ على امتداد عدة قرى ( دير السودان، عاروره، مزارع النوباني، عبوين، عجول، قراوة بني زيد، الفرخة وبيت ريما). قرى حباها الله بطبيعة جميلة زادها تألقاً ان الاستيطان الكولونيالي أو حتى العمران الاسمنتي الكثيف لم يلوثا المشهد بعد، فبقي المشهد ريفياً بامتياز.
وككل القرى، فالمعالم القديمة شاهدة على تاريخ القرية فهناك أماكن اثرية تعود للعصر الروماني والبيزنطي والفينيقي والإسلامي، كما تنتشر معاصر وأبار الزيت والمقابر الأثرية ما يضفي على القرية عبقاً ويستحضر في الخيال حكايات الزمن القديم في هذه القرية الخضراء المليئة بالعيون.
كما يلاحظ للعيان وبين التلال وفي اكثر من موقع تتواجد عدة وحدات خلايا، تمارس فيها النحلات عملها بهدوء وسلام وسط طبيعة لم تصلها الكيماويات بعد، لتنتج عسلاً عضوياً برياً يشرف على انتاجه أستاذ الجغرافيا في جامعة بيرزيت د.احمد النوباني وأشقاؤه الثلاثة، ويباع في سوق رام الله بإسم "عسل مزارع النوباني". عن تلك المبادرة البيئية ومشروع الاقتصاد المنزلي وتفاصيل عشق الأرض، كان لقاءنا مع الاكاديمي الذي لم تنسيه -القارات الثلاث التي تعلم بها، او حياة رام الله العصرية –أرضه الصغيرة في قريته الأم أو "عالمه الخاص الأجمل والأنقى على حد وصفه".
البندورة العضويةداخل دفيئة د. النوباني
"اقتصاد الجفاف...وقيم لا يدركها الّا المزارع"
في الانتفاضة الأولى وبحكم فرص العمل المحدودة، كان لا بد من البحث عن بدائل اقتصادية تدرّ دخلاً على عائلة الشاب انذاك أحمد النوباني ولتوفر عين ماء حينها، صنعوا خزاناً لأغراض الريّ، وبنوا بيتاً بلاستيكياً صغيراً لزراعة عدة انواع من الخضراوت، وفي الارض المكشوفة زرعوا كل ما تسمح به المنطقة من فاكهة وخضار، وتنبهوا لأهمية الثروة الحيوانية فبدأوا مع الدواجن بتربية النحل.
"كان لدينا شبه اكتفاء ذاتي من المنتجات الحيوانية والنباتية، دون أن نلجأ للأسمدة او المبيدات الكيماوية لقناعتنا بوجود بديل طبيعي آمن" يقول د.النوباني ملخصاً أهمية التجربة الأولى في تعزيز عدّة قيم أهمّها: البعدان الصحي والاقتصادي، التكافل الاجتماعي متجسداً بعملية المشاركة والتعاون مع جميع أفراد الأسرة، نشر ثقافة الزراعة العضوية والاكتفاء الذاتي وتعزيز الانتماء بالأرض، تثبيت نهج مقاطعة السلع الإسرائيلية، وإبعاد المشارك عن الفردية المطلقة، وتعزيز مشاركته الفاعلة في المجتمع فالإنسان المنتج يكتسب صفات تتميز عن المستهلك فقط، كما أن العمل في الأرض يخفف الضغط النفسي والتوتر ويبث السعادة في النفس.
 |
 |
تربة د. النوباني المسمدة بالكمبوست والخصبة جاهزة للزراعة |
جمع العسل من خلايا النوباني |
وهم الاستقرار السياسي والاقتصادي
ولكن ذلك المشروع وتلك الأوقات لم تستمر، فبعد أوسلو فُتح سوق العمل في القطاع الحكومي وازدادت فرص الربح السريع نتاج العمل في القطاعات الأخرى سواء المجتمع المدني أو الخاص، فاتجهنا ككثير من الناس إليها وتخلينا عن مشروع الأرض للأسف، ولكن أبقينا على النحل الذي بدأ بوحدتين وكبر مع السنوات ليتوزع على أكثر من 20 موقعاً ويصبح مشروعاً اقتصادياً مربحاً.
"ما رأيناه بعد عام الـ2000 واندلاع الانتفاضة الثانية وارتباط رواتب الموظفين بالتمويل الخارجي، يؤكد أن ما نعيشه هو ربيع وهمي نتيجة التحولات السياسية ما بعد أوسلو، وممكن بأي لحظة أن نتعرض الى انتكاسة تنعكس على الوضع الاقتصادي للناس، وفي هذه الظروف فالعودة إلى الاقتصاد المنزلي هو الخيار المقاوم الأفضل والأكثر أمناً".
 |
 |
ربيع خلاب وثري بالتنوع النباتي والحيوي في مزارع النوباني |
صناديق النحل بين التلال الخضراء غرب رام الله بعيدا عن المنازل |
"العسل الواعي"
حول العسل يقول د. النوباني من أمام منزله الريفي والذي حافظ في جزء منه على طابع البيوت القديمة "العقود" إن فكرة انتاج عسل النحل، بدأت من خلال الانتفاضة الأولى وأوضاع العمل المحدود والحب الشخصي الذي ورثه من أهله للأرض، فبحث مع اشقائه عن نقاط القوة لديهم المستندة على تعليم جامعي وإطّلاع وخبرة في شؤون الزراعة، ما جعل إلمامهم بالمشروع "أكثر وعياً" فتم دراسة أفضل المناطق في الريف الغربي لرام الله من حيث التنوع الحيوي وتوفر الأعشاب الطبية والأزهار البرية على مدار العام والبعد عن المناطق السكنية، فتم اختيار المواقع ومع السنوات تم التوسع في مختلف محافظات الوطن.
"شعبنا مجبول بالطيبة والودية، فلم نواجه مشاكل جدية في اختيار المواقع والاستئذان من أصحاب الأراضي، بل تلقينا كل الدعم والتشجيع، ما ساهم في استدامة وانتعاش المشروع".
عقداً من الجواهر آخذ بالتناقص
يتذكر د. النوباني قريته التي يحمل اسمها فرغم المشهد الجميل الساحر من خضرة وعيون ماء تزيد عن الـ15، إلا ان كثيراً من تفاصيل الطفولة اختفت بفعل الصيد الجائر، ويصف ذلك بالقول: "أشعر وكأني انظر الى عقد من الجواهر المتنوعة ولكن يفقد بعضاً من حجارته على مر السنين"، ويضيف أن كثيراً من انواع الحيوانات كالطيور اختفت بفعل الصيد الجائر والتلوث ولم تعد تزور أو تستوطن المنطقة، كطائر الحسون بديع الصوت الذي كان يبني اعشاشه قرب البيوت، مشيراً ايضاً الى بعض النباتات الآخذه بالتناقص جرّاء عدم وعي الناس بطرق القطف السليمة، كقرن الغزال والميرمية على سبيل المثال.
 |
 |
كل مكونات السلطة العضوية موجودة هنا في أحواض منزل د. النوباني |
مشهد مثير وجميل للتنوع في قرى غرب رام الله |
العودة الى الريف
"حان الوقت لأستقر في ارض جدودي واترك المدينة الصاخبة بأبنيتها الإسمنتية "رام الله"، وأعود للكنز الذي هجره الكثيرون بحثاً عن الرزق المريح". يتحدث د. النوباني في بيته الجديد المحاط بحقول شبه مزروعة بالأعشاب الطبية وبعض الخضراوات، كما يملك دفيئة بلاستيكية يزرع فيها البندورة وينوي تحويل كل متر من الارض المحيطة بالبيت الى مشروع " الاقتصاد المنزلي".
بقول د. النوباني من داخل دفيئته الصغيرة وحبات البندورة العضوية تتدلى من الاعمدة المثبتة للشتلات: "هاجس أرضي والريف كان يطاردني اثناء فترة دراستي عابرا القارات من خلال الدول: تركيا وبريطانيا وأمريكا، ومن ثم استقراري في شقة سكنية في مدينة رام الله، ولكن وقررت العام الماضي شدّ امتعتي والعودة الى قريتي لعدة أسباب أهمها اني تصالحت مع ذاتي ومع الأرض". وباعتقاد د. النوباني فعلى المثقفين والواعين أن يحافظوا على جذورهم في مواطنهم الأصلية، ولكن ما يحدث هو النقيض متمثلاً بزحفهم نحو رام الله المكتظة الصاخبة وهجرهم لقراهم ومخيماتهم.
وأضاف: "على الصعيد الشخصي انا اعشق الزراعة والطبيعة وقد تربى أبنائي الأربعة على ذات النزعة والعلاقة تجاه الأرض، فنحن نجد فيها متنفساً وراحة واشعر فيها بالقوة والعنفوان، صراحةً لقد أحسست أني عققتها لاني لم افلحها ولم اهتم بها لسنوات طويلة".
وعبّر بأن مدينة رام الله تحولت لمكان مكتظ بالاسمنت يلفظ خارجاً كل من يحب البيئة والطبيعة.
 |
 |
معصرة زيتون قديمة في البلدة القديمة بمزارع النوباني |
نحل د. أحمد النوباني يعمل بهدوء وسلام بعيدا عن التلوث الكيميائي ولاازدحام السكاني |
المشروع القديم الجديد
وحول عودة "الاقتصاد المنزلي" فقد بدأ د. النوباني في اعداد مخططات الهندسة لإقامة وحدة لمعالجة المياه الرمادية ما سيقلل من تلوث التربة من الحفر الامتصاصية لأنه سيقلل من سعتها ويطيل عمرها، كما يملك دفيئة بلاستيكية صغيرة وينوي بناء أخرى لزراعة الخضار، وهو بصدد اقامة بركة مائية لتجميع مياه الأمطار بغرض الري، خاصةً ان النبع الذي كان بحوزتهم سابقاً قد عاد لأصحابه، ما حدا بهم الى التفكير بمصدر آخر للمياه، كما سيخصص قطعة ارض لزراعة الفواكهة، وسيخصص احواضاً حول المنزل لزراعة الأعشاب الطبية والعطرية، وسينشئ مزرعة للدجاج البياض واللاحم، وأخرى لتربية الأغنام" وسيتم تغذية التربة بروث الدجاج مع اوراق الزيتون.
وختم النوباني الذي سيعيد انشاء عهد جديد من الاكتفاء الذاتي من ارضه ويسوق ما يزيد عن حاجة عائلته للسوق: "العناية بالبيئة شكل من اشكال المقاومة ودرب من دروب السعادة... المساحات تنكمش بحكم ممارسات الاحتلال ولذلك وجب ان نحافظ عليها بكل ما اوتينا من قوة، لأن رعايتنا للأرض سنراه في صحتنا وحياتنا ونضالنا ضد الاحتلال".