خاص بآفاق البيئة والتنمية
الدراسة التحليلية التالية تتناول السيادة على الغذاء من منظور شمولي، يأخذ في الاعتبار ما يفترض أن تتضمنه هذه السيادة من مفهوم الغذاء كحق أساسي من حقوق الإنسان، إضافة إلى الإصلاح الزراعي، وحماية الموارد الطبيعية، وعدالة تجارة الأغذية، والقضاء على عولمة التجويع، ومسألتي السلم الاجتماعي والرقابة الشعبية الديمقراطية؛ وذلك في ظل العدوان الإسرائيلي الدموي المدمر لكل أشكال الحياة في قطاع غزة، وما رافق ذلك من عملية تجويع منظمة طالت أكثر من مليوني فلسطيني، بالإضافة إلى تآكل خطير في المداخيل الفردية والأسرية، وتصاعد خطير في نسبة البطالة والفقر في الضفة الغربية تحديدا.
|
 |
السيادة الغذائية = الإنتاج الوطني الذاتي لجميع الاحتياجات الغذائية الأساسية المحلية وبمدخلات إنتاج محلية بعيدا عن الأوساخ الكيميائية |
برز خلال السنوات الأخيرة الجدل المجتمعي والشعبي حول مفهوم السيادة الغذائية (food sovereignty)، فنظمت بعض الندوات وورشات العمل واستؤنفت بعض النشاطات والفعاليات المؤسسية والشبابية في هذا الاتجاه، تزامنا مع تعاظم البستنة المنزلية وعودة الكثيرين إلى العمل الزراعي في الأرض، وبخاصة في الريف الفلسطيني؛ وذلك في ظل جائحة كوفيد19، ولاحقا العدوان الإسرائيلي الدموي المدمر لكل أشكال الحياة في قطاع غزة، وما رافق ذلك من عملية تجويع منظمة طالت أكثر من مليوني فلسطيني، بالإضافة إلى تآكل خطير في المداخيل الفردية والأسرية، وتصاعد خطير في نسبة البطالة والفقر في الضفة الغربية تحديدا.
الاستهداف الإسرائيلي المتعمد للبنية التحتية الزراعية بالقصف والتدمير والتجريف، يهدف إلى تعميق حالة المجاعة التي تستخدم سلاحا لإخضاع فلسطينيي قطاع غزة. كما أن التدمير الإسرائيلي واسع النطاق للأراضي والمنشآت الزراعية وتعطيل أنظمة إنتاج الغذاء، يهدف إلى خلق ظروف مواتية للمجاعة الممتدة. الوضع الحالي في قطاع غزة مرعب وكارثي، إذ يواجه أكثر من مليوني شخص المجاعة بمستويات متفاوتة.
وفي ذات الوقت، بالتزامن مع تواصل سياسة التجويع البشعة في القطاع، والحصار الإسرائيلي المحكم لفلسطينيي الضفة وتعاظم نسبة الفقر المدقع في أوساطهم، لوحظ وجود لغط وضبابية لدى البعض، بين مفهومي السيادة الغذائية والأمن الغذائي (food security) وبخاصة أن مفهوم السيادة الوطنية على الغذاء، في السياق الفلسطيني، ينسجم تماما مع مفهوم اقتصاد الصمود المعتمد على الذات، والذي يتناقض تناحريا مع المفاهيم والسياسات الاقتصادية الرسمية القائمة أساسا على قاعدتي "اقتصاد السوق"، و"السوق الحر" الرأسماليين اللذين تسببا في ترسيخ وتعميق الفقر والمجاعة والحروب الأهلية والقبلية في دول الجنوب ذات "السيادة" الشكلية، فما بالك بمحمية إسرائيلية تحكم بعض معازلها الجغرافية سلطة حكم ذاتي تفتقر إلى السيادة السياسية والاقتصادية، أفرزتها الاتفاقات السياسية-الاقتصادية المبرمة مع المحتل.

الفقر العربي
وفي هذا المقام، لابد من التنويه إلى أن "براءة اختراع" مفهوم الأمن الغذائي تعود إلى الأنظمة الرأسمالية والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية (الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، بعض وكالات الأمم المتحدة...إلخ.) والذي تبنته بدورها العديد من الأنظمة السياسية في جنوب الكرة الأرضية، أي أنه مفهوم نيوليبيرالي فوقي فُرض من أعلى إلى أسفل.
وخلافا لذلك، نشأ مفهوم السيادة الغذائية بداية في بعض دول أميركا اللاتينية وشرق أسيا، كمفهوم نقيض للأمن الغذائي، وتطور في سياق الحركات الفلاحية الشعبية الثورية التي حررت مساحات الأراضي الزراعية من براثن الأنظمة السياسية المستبدة والشركات الغذائية والزراعية الصناعية الكبرى، وتمردت على سياسات حكوماتها الداعمة للأغنياء والشرائح الطفيلية، والمدافعة عن مصالح الرأسماليين وأصحاب الأعمال الكبار وتجار العقارات والأراضي والشركات الاحتكارية العابرة للقارات. بمعنى أن مفهوم السيادة الغذائية عبارة عن مفهوم تحرري شعبي يهدف إلى تحقيق السيادة الحقيقية على الأرض وإنتاج الغذاء، وبخاصة سيادة الشعوب المقهورة والشرائح الشعبية الرازحة تحت تحكم ورحمة حفنة من الاحتكارات الأجنبية العابرة للقارات وشركات البذور والكيماويات الزراعية العالمية، إضافة للشعوب الرازحة تحت احتلال أجنبي، كما الشعب الفلسطيني.
لقد سبق أن ناقشنا هذه المسألة أكثر من مرة، في سياق الوطن الفلسطيني المحتل، والمكانة الإستراتيجية المصيرية الوجودية التي تحتلها الأرض والإنتاج الزراعي لشعبنا الذي يذله يوميا احتلال استيطاني اقتلاعي يتحكم في عملية إطعام أو تجويع الناس.
الدراسة التحليلية التالية تتناول السيادة على الغذاء من منظور أكثر شمولي، يأخذ في الاعتبار ما يفترض أن تتضمنه هذه السيادة من مفهوم الغذاء كحق أساسي من حقوق الإنسان، إضافة إلى الإصلاح الزراعي، وحماية الموارد الطبيعية، وعدالة تجارة الأغذية، والقضاء على عولمة التجويع، ومسألتي السلم الاجتماعي والرقابة الشعبية الديمقراطية.
لقد دلت "أزمات الغذاء" المتتالية، منذ (2007-2008) وحتى يومنا هذا، على مدى هشاشة النظام العالمي لتجارة الأغذية الذي ثبت عجزه عن القضاء على ظاهرة الجوع التي يعاني منها أكثر من ملياري نسمة (بمستويات مختلفة) من الشرائح السكانية المعدمة في البلدان ذات الدخل المتدني، المتوسط، بل وحتى المرتفع (أكثر من ربع سكان العالم!).
واللافت أن وحش الجوع يودي بحياة الناس، في الوقت الذي تزداد به الفوائض الغذائية في العالم بنسب كبيرة؛ تلك الفوائض التي وفقاً لمفهوم "الأمن الغذائي"، يفترض أن تُوزع على الجوعى، وبالتالي القضاء على ظاهرة الجوع.
وبالرغم من تأكيد منظمة "الفاو" أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعًا كبيرًا في الإنتاج العالمي لمحاصيل الحبوب الإستراتيجية، إلا أن المعروض العالمي من الحبوب قد انخفض وارتفعت الأسعار بعشرات في المائة.
هذا يشير إلى أن أزمات القمح العالمية الدورية ليست سوى أزمات مفتعلة يكمن سببها الأساسي في التنافس على سوق القمح العالمي بين أميركا (أكبر مصدّر عالمي للقمح) وأوروبا، وبالتالي التلاعب بفائض القمح المعروض عالميًا، والتحكم بغذاء "العالم الثالث".
إذن، تضخيم مسألة "انعدام الأمن الغذائي" والمجاعة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، هي في الواقع "لعبة الكبار"، وهدفها رفع أسعار الحبوب والمواد الغذائية الأساسية؛ علمًا أن فائض الحبوب والقمح في أوكرانيا (منذ ما قبل الحرب) اُستُنزِف مقابل شراء السلاح من دول الحلف الأطلسي (في الحرب الحالية)، وما قد يترتب على ذلك من خلق أزمات غذائية وربما تفاقم المجاعات (الموجودة أصلًا) في بعض البلدان الفقيرة.
وقد ثبت، منذ زمن، أن أزمة الغذاء لم يكن سببها أساسا نقص الطعام، بل عدم قدرة وعجز الفقراء على تحمل الارتفاع الكبير في الأسعار الناتج عن بضعة عوامل أبرزها: أولا، ارتفاع أسعار الطاقة والمدخلات (مثل الأسمدة) وما يترتب على ذلك من زيادة الديون بخاصة، وديون المزارعين الصغار والبلدان متدنية الدخل بعامة، ما أدى إلى هجرات متواصلة لملايين فقراء الأرياف والملاكين الصغار نحو الأحياء الفقيرة في المدن والعمل المهزوز في الاقتصاد غير الرسمي. ثانيا، مواصلة تقويض الإنتاج الغذائي في البلدان متدنية الدخل، من خلال إغراق الأخيرة بفوائض الإنتاج المدعومة من الأنظمة الرأسمالية، أو من خلال جرها نحو التخصص في إنتاج غذائي كمالي تصديري رخيص لصالح الاقتصاديات الرأسمالية. ثالثا، الاحتكار المتفاقم للحبوب والبذور وتجارة أغذية أخرى تتحكم بها حفنة من شركات الكيماويات الضخمة متعددة الجنسيات. رابعا، تحويل الغابات والأراضي الزراعية الصغيرة متعددة المحاصيل لإنتاج الوقود الحيوي. خامسا، ضياع المعارف التقليدية والتنوع البيولوجي، وانتشار المحاصيل الأحادية المسجلة ببراءات اختراع، وهشاشة المحاصيل المعدلة وراثيا، والتغيرات المرتبطة بتغير المناخ وبخاصة تأثير تغير المناخ على إنتاج الأغذية. وأخيرا، الإفراط في الاستغلال غير المستدام للموارد الطبيعية.

المجاعة في غزة- خاص
أسس السيادة الغذائية
استطراداً لما ورد نتساءل: ما هي أهم أسس السيادة الغذائية وكيف يمكننا بلوغها؟
مدرسة السيادة الغذائية تدعو إلى حق الأفراد والمجتمعات والدول في تشكيل سياسات زراعية تتماشى مع واقعها الاجتماعي والثقافي والبيئي والاقتصادي الفريد. وبخلاف الأمن الغذائي - الذي يركز على التوافر الكمي للغذاء - تدمج السيادة الغذائية مبادئ الاستقلالية والاستدامة والعدالة.
ظهرت هذه المدرسة كمفهوم مضاد للنيوليبرالية العالمية للزراعة في أواخر القرن العشرين. ويتحدى (هذا المفهوم) الأطر التي تهيمن عليها الشركات التي تعطي الأولوية للربح على الناس. وتؤكد السيادة الغذائية على ضرورة إعادة تشكيل النظم الغذائية، بحيث تحترم التقاليد المحلية والسلامة البيئية وحقوق الإنسان.
ويرتكز إطار السيادة الغذائية على العديد من المبادئ المترابطة والأسس النظرية التي توجه تنفيذها. ويمكننا إيجازها في سبعة عناصر أساسية:
أولا: الغذاء حق أساسي من حقوق الإنسان. يفترض هذا المبدأ الأساسي أن الحصول على الغذاء الكافي والآمن والمغذي هو حق من حقوق الإنسان غير قابل للتفاوض، ويتجاوز الاعتبارات الاقتصادية والسوقية والسياسية.
ثانيا: هدف أية سياسة زراعية محلية ووطنية يجب أن يكون الاكتفاء الذاتي غذائيا. بمعنى أن مزارعي الوطن يجب أن ينتجوا الغذاء المستهلك محليا. هذا الشرط تحديدا، لا يشمله مفهوم "الأمن الغذائي" الذي طوعته الدول والشركات الصناعية الغربية والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية لصالح المصالح التجارية الاحتكارية في أوروبا وأميركا الشمالية. ممثلو احتكارات الغذاء الأميركية يعرفون "الأمن الغذائي" باعتباره القدرة على تلبية الاحتياجات الغذائية للبلد، من خلال الإنتاج المحلي أو الاستيراد. والأساس هنا، وفق المفهوم "الإمبريالي"، هو الاستيراد من خلال إغراق أسواق الشعوب الفقيرة بالسلع الغذائية الغربية المدعومة والرخيصة بشكل مصطنع، وبالتالي القضاء على الإنتاج الغذائي الوطني، كما حدث في العديد من دول أسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وقد عرَّف جون بلوك، وزير الزراعة الأميركي السابق، "الأمن الغذائي" بقوله إن "المفهوم القائل بأن الدول النامية يجب أن تُطْعِمَ نفسها بنفسها يعتبر في غير زمانه وقد عفا عليه الزمن. فبإمكان هذه الدول أن تضمن بشكل أفضل أمنها الغذائي من خلال اعتمادها على المنتجات الزراعية الأميركية، وهي متاحة، في أغلب الأحيان، بتكلفة أقل"!
ثالثا: الإصلاح الزراعي العادل. تدعو مدرسة السيادة الغذائية إلى إعادة توزيع الأراضي والمياه والموارد الحيوية الأخرى لصالح الذين يفلحونها (الأرض لمن يفلحها)، وبالتالي تمكين المزارعين والفلاحين أصحاب الحيازات الصغيرة المهمشين، وتصحيح المظالم التاريخية في تخصيص الموارد.
رابعا: الاستدامة والتنوع البيولوجي. من الأمور الأساسية لهذا المفهوم الالتزام بالممارسات الزراعية البيئية التي تعزز التنوع البيولوجي وتجدد صحة التربة وتعزز القدرة على الصمود في وجه تغير المناخ.
خامسا: النظم الغذائية المحلية. من خلال إعطاء الأولوية لشبكات الإنتاج والاستهلاك المحلية، تقلل السيادة الغذائية من الاعتماد على الأسواق الإقليمية والدولية المتقلبة وتعزز قدرة المجتمع على الصمود.
سادسا: معارضة ورفض الزراعات الصناعية القائمة على الهندسة الوراثية وما يسمى "الثورة الخضراء" المكثفة كيميائيا، لأن التحكم الاحتكاري بالبذور يصب بالدرجة الأولى في مصلحة الأجندات التجارية الربحية للشركات، ولأن الزراعة الصناعية تعتبر غير مستدامة بيئيا.
سابعا: الحوكمة التشاركية والشاملة. يتم التأكيد على عمليات صنع القرار الديمقراطية لضمان أن تعكس السياسات الغذائية أصوات الشرائح الشعبية الأكثر فقرا وتهميشا وانكشافا بشكل مباشر.
وفي سياق الدفاع عن السيادة الغذائية، وعدالة توزيع الأراضي، والعدالة المائية، من الأهمية بمكان معارضة استراتيجيات "التنمية" التي تركز على الاستيلاء على أراضي الفلاحين، والخصخصة، أو عقود تأجير الأراضي وبخاصة الزراعية للبلدان الأجنبية، بذريعة زيادة الإنتاج الغذائي الصناعي/ التجاري لمواجهة تغير المناخ.
ومن الضرورة بمكان أيضا مقاومة عملية إملاء وفرض التكنولوجيات على شرائح الفلاحين، مثل المحاصيل الأحادية المعدلة وراثيا (GM)، واحتكار الشركات للبذور، وتحديدا من خلال ما يسمى (terminator technology) أي التكنولوجيا التي تحظر على المزارعين حفظ وإعادة إنتاج البذور التي تم جمعها (بحجة منع التلوث الجيني)، الأمر الذي سيهدد غذاء نحو ملياري نسمة في العالم يعتمدون على حفظ البذور من الحقول وإعادة إنتاجها. وفي الواقع، لتمرير هذه التكنولوجيا الأخيرة، تتستر شركات البذور تحت غطاء ما يسمى "الملكية الفكرية" للشركات، وهذا الغطاء ليس أكثر من عملية قرصنة بيولوجية تقترفها تلك الشركات، لأن الموارد الوراثية التي تسعى الشركات إلى احتكارها تحت مسمى "الاختراع المسجل" هي محصلة جهود الفلاحين الجماعية لتحسين وإعادة إنتاج البذور عبر آلاف السنين، وهي بالتالي ملك للبشرية.
علاوة على ذلك، تعزيز السيادة الغذائية يتطلب تنويع المحاصيل وتشجيع المحاصيل المقاومة للظروف المناخية المتطرفة وبالتالي تقليل المخاطر. والأهم من ذلك، تكثيف العمل الاستراتيجي لجمع وإكثار وتنويع البذور المحلية الأصيلة وإعادة إنتاجها محليا، لضمان السيادة الغذائية الوطنية الحقيقية، وبخاصة في ظروف الحرب والكوارث، بدل الاعتماد على البذور الصناعية المهجنة المستوردة من السوق الإسرائيلي والخارج، كما كان الحال حتى ما قبل العدوان الإسرائيلي، وبالتالي تحكم الخارج في عملية إطعام الناس وتجويعهم.

حديقة بيئية تمتاز بالتربة الخصبة والتنوع النباتي وتدوير المخلفات الزراعية إلى سماد طبيعي
وهم "الأمن الغذائي"
مفهوم "الأمن الغذائي" يفترض، في جوهره، أن يمتلك الناس قدرة على تلبية احتياجاتهم الغذائية، من خلال الإنتاج المحلي أو الاستيراد. والأساس هنا، وفق المفهوم الرأسمالي الذي ذكرناه سابقا، هو الاستيراد وبالتالي تبعية الشعوب الفقيرة الغذائية للدول الإمبريالية واحتكاراتها المتحكمة عالميا في إنتاج الحبوب والأغذية الاستراتيجية. بمعنى، كي يتمكن الناس من توفير احتياجاتهم الغذائية يجب أن يتوفر لديهم المال كي يقتنوا تلك الاحتياجات. ودون ذلك، فمن لا يملك المال من الشرائح الاجتماعية العاطلة عن العمل والمعدمة والتي تعاني من الفقر المدقع، لا بأس أن تموت وهي تتضور جوعا. مفهوم "الأمن الغذائي"، بهذا المعنى، يهدف، في المحصلة الأخيرة، إلى تكريس وتأبيد الظلم والقهر الاجتماعيين، وانعدام العدالة والمساواة؛ بل شرعنة الفقر والجوع وماكنة النهب العالمية المعززة للفجوات الطبقية بين طغمة هامشية من الأثرياء المترفين الطفيليين الذين يموتون من التخمة الغذائية، وبين غالبية تموت جوعا، دون أن تجد حتى من يحتفي بدفنها.
جائحة كوفيد19 تحديدا، فضحت مدى عمق الاضطهاد الاجتماعي والقهر الطبقي وانعدام المساواة عالميا، وكشفت زيف وأكذوبة "الأمن الغذائي" التي دأبت الأنظمة الرأسمالية ومؤسساتها واحتكاراتها في دول الشمال على تسويقها للمجتمعات الفقيرة في دول الجنوب، بعد أن تم تجميلها بمساحيق فكرية-تنموية من قبيل "التنمية المستدامة" التي، تحت مظلتها، يتم تغليف التفنن في أشكال نهب الموارد المالية والأرباح والفوائض (من "الجنوب").
وفي المحصلة، تخلت دول "الجنوب" (وبالطبع العربية أيضا) عن أسواقها القومية، وفتحتها تماما للرأسمال الغربي المتمثل بشركاته العملاقة ليرتع فيها كما يشاء، ويدمر بنيتها الإنتاجية والبيئية، تحت عنوان "السوق العالمية الموحدة" التي تشكل المجال الطبيعي والحيوي لحركة الرأسمال الغربي الذي يعتبر الحاكم بأمره في هذه السوق.
وهنا يكمن سر دعوة المؤسسات المالية والاقتصادية "الدولية" (وبخاصة "منظمة التجارة العالمية") إلى "تحرير" غير متكافئ بتاتا للتجارة في دول "الجنوب" التي على حكوماتها، وفقا لمتطلبات "التحرير"، رفع الحماية عن المنتجين المحليين، و"خصخصة" أصول ومشاريع القطاع العام، بما في ذلك السماح للشركات الأجنبية و"المتعددة الجنسية" بأن تشتري هذه الأصول والقطاعات، ناهيك عن منح الحرية المطلقة لحركة رأس المال، وبالتالي حرية تسريب الأموال والفوائض المحلية إلى الخارج، وتحديدا إلى دول الشمال. وكانت النتيجة سحق البنى الاقتصادية الإنتاجية التقليدية التي كانت قائمة قبل الوجود الاستعماري المباشر في هذه البلدان، والتي اعتمدت على الموارد والسوق المحلية، كالزراعة بالدرجة الأولى، وبالتالي حطم الغرب أسس اعتماد غالبية دول "العالم الثالث" على ذاتها اقتصاديا، وضمن بالتالي تبعيتها الاستهلاكية والغذائية له، وبالنتيجة جردها حتى من وهم "أمنها الغذائي" ودمر بيئتها الغنية وقذف بها إلى مستنقع المجاعة.
جائحة كوفيد19 كشفت أيضا أكذوبة مفهوم "الأمن الغذائي" المستند أساسا إلى سلاسل توريد الأغذية المستوردة بمعظمها، والقدرة الشرائية الشحيحة للفقراء والمعوزين (الغالبية السكانية) المعتمدين على عملهم المأجور الرخيص الذي جردهم من حريتهم الغذائية التي يقررون بموجبها ماذا ينتجون وماذا يستهلكون، بمدخلات إنتاج محلية ووطنية. أي بكلمات أخرى، تم تجريدهم من سيادتهم الغذائية، وتسهيل عملية انزلاقهم إلى هاوية المجاعة، وذلك بمجرد أن يتم تقويض مصدر دخلهم المأجور الذي "يغدقه" عليهم مُشَغِّلُهُم الذي يعيشون تحت رحمته.
الجوع لا ينهش فقط أجساد شعوب الدول الفقيرة، بل أيضا أجساد فقراء أعتى الأنظمة الرأسمالية، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية. ففي مدينتي كوينز ونيويورك الأميركيتين، على سبيل المثال، يصطف آلاف الجوعى لفترات زمنية طويلة أمام بنوك الطعام، للحصول على حقيبة تحوي بعض الأغذية البسيطة. ومقابل هذا المشهد، نجد المزارعين الكبار في كاليفورنيا يحرثون فوائض الخس الضخمة مع الأرض، وفي واشنطن يتركون ثمار الفاكهة تتعفن على أشجارها بسبب تدني أسعارها.
الهدر الهائل لفوائض الأغذية، وبخاصة في دول الغرب الرأسمالي، يعني التخلص من الإنتاج الغذائي في مكبات النفايات. وهذه الفوائض تكفي لإطعام مئات الملايين من سكان الدول الفقيرة.
الدول الغربية ومؤسساتها المالية الدولية فرضت خلال عشرات السنين الأخيرة، ولا تزال تفرض، على "العالم الثالث" زراعة محاصيل كمالية للتصدير إلى أوروبا وأميركا واليابان، بينما تفتقر غالبية شعوب "العالم الثالث" للمحاصيل الغذائية الأساسية التي تحتاجها. ويشير هذا التوجه الاقتصادي الغربي المفروض على "العالم الثالث" الى أن الزراعة الأحادية الموجهة لما يسمى بالسوق العالمي قد أوصلت هذه الشعوب إلى درجة العجز عن إنتاج وتأمين الغذاء الأساسي لنفسها، فلم يبق أمامها سوى مواجهة مصيرها المحتوم: المجاعة أو الفقر الغذائي (المعنى الحقيقي لـ "الأمن الغذائي"!).
البنك وصندوق النقد الدوليان طالما أرغما الدول النامية على التحول من إنتاج غذائها الأساسي الضروري لتوفير أمنها الغذائي الحقيقي، إلى إنتاج المحاصيل الكمالية لتلبية متطلبات الدول الغربية. كما وتعمل المؤسستان على إرغام نفس الدول على إلغاء الدعم الحكومي للاحتياجات الغذائية الأساسية وإبطال دعم الأسعار للمزارعين، وتسهيل قوانين الأراضي، لإتاحة المجال أمام الشركات الكبرى بأن تستثمر في الزراعة، وبالتالي، ترك المزارعين "غير الفعالين" تحت رحمة قوى السوق، بل واستبدالهم بالشركات الصناعية؛ علما أن الزراعة تشكل مصدر عيش 70% من فقراء العالم. وبالطبع، لم تقترح المؤسسات المالية الدولية مثل هذه الوصفات على الدول الغنية والصناعية التي تنتج فوائض ضخمة من القمح والأرز والذرة وفول الصويا وقصب السكر والقطن، وذلك في ظروف مسيئة للبيئة وتتسبب أيضا في كوارث إيكولوجية واضحة.

خلال عدوانه أباد الاحتلال الإسرائيلي مزارع الدواجن والخضراوات بالكامل في شمال قطاع غزة- خاص
الجمع بين المعرفة التقليدية والتكنولوجيا الحديثة
بَخَّس النظام الرأسمالي عناصر وقيما أساسية، واعتبرها معيقات أمام الأنماط "المتقدمة" للنظام الاقتصادي؛ ومن هذه العناصر (التي تُثمنها مدرسة السيادة الغذائية) مثلا: الزراعة الفلاحية التقليدية والإنتاج الصغير والبيئة. وهنا يجب ألا ننسى بأن سمات الزراعة الفلاحية تطورت، عبر التاريخ، لتلبية الاحتياجات المجتمعية والحوكمة المحلية، والاستقرار البيئي، وبالتالي يجب ألا يقذف بها بالطريقة المتعجرفة التي قامت بها الزراعة الرأسمالية الصناعية. ومن أبرز هذه السمات: القرب من الأرض، الرابط العضوي بين الأسرة والمزرعة، التركيز على السوق المحلي، الإنتاج كثيف العمل، والإحساس بالعمل مع الطبيعة بدلا من الهيمنة عليها.
النموذج الزراعي الفلاحي الذي نتحدث عنه لا يعني رفض التقدم أو التكنولوجيا أو التجارة؛ أو العودة الرومانسية إلى الماضي القديم الغارق في التقاليد الريفية؛ بل إنه النموذج البديل القائم على بعض الأخلاقيات والقيم التي تحتل فيها الثقافة والعدالة الاجتماعية مكانة هامة، وحيث تبرز الممارسات الملموسة التي تضمن مستقبلا بشريا دون مجاعة. وينطوي هذا البديل على الإمساك مجددا بجوانب المعرفة التقليدية والمحلية، أو معرفة المزارعين؛ والجمع بين هذه المعرفة والتكنولوجيا الجديدة، عندما وأينما هو مناسب للقيام بذلك.
العلوم المتقدمة والزراعة الفلاحية لا تتعارضان. دمج العلم في الزراعة الصغيرة يمثل تحديا لكنه ممكن. فالزيادة الكبيرة في مدى الممارسات العضوية وشبه العضوية تتطلب قدرا أكبر من البحث العلمي والتدريب الهادفين إلى تحقيق فهم أفضل لكيفية عمل الأنظمة الإيكولوجية-الزراعية. فعلى سبيل المثال، البحث في أوجه التكامل الوظيفي للحشرات المختلفة من شأنه تحسين المكافحة الطبيعية للآفات. بينما معرفة أكبر لخصائص ولبنية التربة ولديناميات إعادة تدوير المغذيات يمكن أن ترشد المزارعين نحو أفضل ما يمكن استعماله من أنماط الزراعات المتداخلة والدورات الزراعية والنباتات المثبتة للنيتروجين والأسمدة الخضراء، لتحسين خصوبة التربة.
والسؤال المطروح: هل يمكن للزراعة الفلاحية التقليدية تلبية الطلب الكبير على المنتجات الزراعية في عصرنا الحاضر؟ يتلخص ردنا على ذلك، بادئ ذي بدء، في أن تفوق الزراعة الرأسمالية الصناعية، من حيث الإنتاج، غير مدعم بالتجربة. فبالرغم من المغالطة الشائعة بأن المَزارع أو الحيازات الزراعية الصغيرة متخلفة وغير منتجة، إلا أن الأبحاث تدلل على أن المزارع الصغيرة أكثر إنتاجية بكثير من المزارع الكبيرة، وذلك إذا أخذ في الاعتبار مجمل المخرجات، وليس فقط الغلة الناتجة من محصول واحد. فعلى سبيل المثال، أنظمة الزراعة المتكاملة الصغيرة التي تنتج تنوعا من الحبوب، والفاكهة، والخضروات، والعلف والمنتجات الحيوانية، تتجاوز غلتها (إنتاجها) في الوحدة الواحدة، غلة المحصول الأحادي في المزارع الكبيرة، مثل الذرة في الزراعات الأحادية. وعندما تؤخذ في الاعتبار عوامل زعزعة الاستقرار البيئي التي صاحبت عملية تعميم الزراعة الصناعية؛ نجد أن ميزانية التكاليف والمنافع تترنح بشكل حاد نحو السلبية. ففي الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، تسافر السلعة الغذائية المتوسطة أكثر من ألفي كيلومتر قبل أن تصبح جزءا من وجبة الطعام؛ علما أن الفاكهة والخضروات تُبَّرَد، وتُشمع، وتُصبغ، وتُعَرَّض للإشعاع، وتُدخن، وتُعبأ، ثم تَشحن. وبالطبع، فإن أيا من هذه العمليات لا تحسن جودة الغذاء، وإنما تمكن فقط توزيعه لمسافات بعيدة، وتزيد فترة صلاحيته.
المغالطة الشائعة والقائلة بأن زراعة الحيازة الصغيرة والفلاحية متخلفة، نابعة من مجموعة مزاعم أسسها في الواقع ضعيفة؛ وأبرزها ثلاثة مزاعم غامضة حول الإنتاج في الزراعة الفلاحية. الزعم الأول يقول بأن هناك "سقف تقني" لا تستطيع الزراعة الفلاحية تجاوزه. الزعم الثاني يقول بما يسمى قانون تناقص العائدات في الإنتاج الفلاحي كثيف العمل. وثالث المزاعم يستند إلى الركود المفترض في الإنتاج الفلاحي.
الأدلة القائمة على المزاعم السابقة واهية. ومن المفيد التذكير، في هذا السياق، بأن الزراعة الهولندية، على سبيل المثال، أصبحت في الفترة الممتدة بين 1850 و1956، طليعية في الإنتاج على مستوى عالمي، وذلك تحديدا عندما ازداد عدد المزارعين الصغار بالأرقام المطلقة، وعندما سادت الأنماط كثيفة العمالة واختفت المزارع الرأسمالية ومزارع أصحاب الأعمال؛ بل كانت الحركة تسير باتجاه العودة إلى الزراعة الفلاحية.
لقد أطعم المزارعون والفلاحون في كل مكان مجتمعاتهم المحلية وأوطانهم؛ وهذا هو الوضع الاقتصادي-الزراعي الطبيعي الذي كان سائدا في فلسطين وسائر أنحاء الوطن العربي. أما الرأسمالية، وتحديدا بطبعتها النيوليبرالية بشكل عام، والرأسمالية الكولونيالية بطبعتها الإسرائيلية في فلسطين بشكل خاص، فقد عملت على إلقائهم في "مزبلة التاريخ"، واستبدالهم بالزراعة الأحادية كثيفة رأس المال الموجهة أساسا إلى "السوبر ماركت" العالمية التي تشكل النخبة الرأسمالية والطبقة الوسطى الثرية مستهلكيها الأساسيين. وفي سياق الترويج لهدفها المتمثل بتغيير كامل النظام العالمي لإنتاج الأغذية وتوزيعها، فإن أحد المبررات الذي طالما تذرعت به الشركات الزراعية الصناعية لتشريد الفلاحين وصغار المزارعين، يقول بأن الأخيرين لا يملكون القدرة على إطعام العالم. وفي الحقيقة، صغار المزارعين والفلاحين لا يطمحون إلى إطعام العالم، بل إن آفاقهم تقتصر على توفير الطعام لمجتمعاتهم المحلية والوطنية. فمن خلال توفير القوت لمجتمعاتهم بأفضل ما في وسعهم، يمكن القول بأن الفلاحين والمزارعين في كل مكان يطعمون العالم.
وعلى الرغم من مزاعم ممثلي تلك الشركات بأن الزراعات الكبيرة والاحتكارية أفضل لإطعام العالم، فقد اقترن إنشاء سلاسل الإنتاج العالمي ومحلات السوبر ماركت العالمية، مدفوعا بالبحث عن الأرباح الاحتكارية- اقترن بمزيد من الجوع، وبنوعية أسوأ من الطعام، وبمزيد من خلخلة التوازن البيئي بسبب الزراعات الكيميائية كثيفة رأس المال، وذلك في جميع أنحاء العالم وأكثر من أي وقت مضى في التاريخ.

رئيس تحرير مجلة آفاق البيئة والتنمية-يسار- خلال زيارته لمزرعة بيئية تجريبية في ضواحي هانوي بفيتنام
تدفق رأس المال وتدويره داخل البلد
ينسى أو يتناسى بعض الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين بأن أكثر ما يتهدد الاقتصاد الفلسطيني هو تعميق بنيته الاستهلاكية الطفيلية؛ فمجتمعنا الفلسطيني يُنتج حاليًا أقل بكثير مما يستهلك، ولا مؤشرات ملموسة تدل على أن الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك آخذة في التقلص.
التدفقات والتحويلات المالية الخارجية تغطي إلى حد كبير هذه الفجوة والعجز التجاري الحاصل، وليس التراكم الرأسمالي الداخلي الذاتي في الضفة والقطاع.
هذا الأمر يبدو جليًا بالنظر إلى تدني حصة الناتج المحلي الفلسطيني الإجمالي (GDP) قياسًا بالناتج القومي الفلسطيني الإجمالي (GNP).
وهذا يقودنا إلى نقيض السياسات الاقتصادية الاستهلاكية، وتحديدا الاقتصاديات الإنتاجية المتمحورة بشكل أساسي حول الزراعة والقطاعات الصناعية والخدماتية المتداخلة معها والمعتمدة عليها. وبالتالي، فإن التعامل مع مفاهيم الزراعة البيئية في السياق الاقتصادي-السياسي الفلسطيني، لا بد أن يكون مبنيا على تجاربنا ومعارفنا وتقاليدنا الزراعية الطبيعية والبلدية غير الكيميائية، بحيث نراكم على هذه التجارب والمعارف ونطورها ونعممها.
فعلى سبيل المثال، التركيز على التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي البلدي والبيئي وتنويعه وحمايته، يضمن التأسيس لاقتصاد الصمود في مواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع الإسرائيلية، فضلا عن تحسين مستوى معيشة أهل الريف إجمالا؛ الأمر الذي سيخلق دورة اقتصادية تؤدي إلى توسيع سوق الصناعة المحلية وبلورة صناعات جديدة، بما في ذلك إنتاج بعض التجهيزات الزراعية الصغيرة وإصلاحها؛ ما سيسهم في خلق فرص عمل جديدة ودائمة في القطاعات الإنتاجية الصديقة للبيئة. بمعنى أن التصنيع لا بد أن يكون منسجما مع عملية ربط الاستراتيجية الزراعية بالتنمية الصناعية، انطلاقا من الإمكانيات المتوفرة بحيث تبنى هذه العملية على أساس تكاملي مع المحيط العربي.
ومن منظور تنموي استراتيجي، يبقى الاستثمار في مشاريع إنتاجية زراعية بيئية ومتحررة من الأوساخ الكيميائية، ومقللة من تبعيتنا للأجنبي، ومعززة لاعتمادنا على الذات، ولو بشكل جزئي، أفضل ألف مرة من التشبث بالطروحات والسياسات الاقتصادية والزراعية التي سادت وطغت منذ إبرام اتفاقيات أوسلو وثبت إفلاسها، حيث تعمقت تبعية الاقتصاد الفلسطيني واندماجه بالاقتصاد الإسرائيلي.
وقد ثبت في بلد كبلدنا، "متخلف" تنمويا ورازح تحت الاحتلال الاستيطاني وفقير بالموارد الطبيعية، أن لا مجال ولا مستقبل للحديث عن تنمية اقتصادية زراعية سوى في إطار اقتصاد إنتاجي متمحور داخليا ومتحرر من التبعية للمدخلات الخارجية الإسرائيلية والأجنبية الأخرى. وهذا ما نعنيه بالضبط، في السياق الفلسطيني، بالزراعة البيئية أو البلدية المتداخلة والمتنوعة والبيئية التي توفر الاحتياجات الغذائية الأساسية النظيفة للناس، بحيث نتحرر من رحمة الاقتصاد والسوق الإسرائيليين، وبالتالي نحقق السيادة الغذائية للناس، الأمر الذي يعد شكلا أساسيا من أشكال السيادة السياسية.
وخلاصة القول، البديل للسياسات والممارسات الاقتصادية-الزراعية والصناعية المهيمنة حاليا، والتي لا تعمل سوى على تعميق تبعيتنا وانعدام سيادتنا على غذائنا، يتمثل في اتباع استراتيجية إنتاجية تستند إلى مواردنا وتجاربنا وتقاليدنا الإنتاجية المحلية الغنية وتطويرها أولا، وإنتاجنا الغذاء بهدف استهلاكه محليا (وبخاصة مع التزايد السكاني المتواصل) ثانياً، وإعادة التدوير المحلي للرأسمال ثالثاً. وبالتأكيد، لا يمكن، من خلال الزراعة الكيميائية والممارسات المعادية للبيئة الفلسطينية، أن تتحقق مثل هذه الاستراتيجية الإنتاجية المعتمدة على الذات.

من خلال جدرانه العنصرية ومستوطناته وقواعده العسكرية يتحكم الاحتلال في عملية إطعام وتجويع الفلسطينيين
أزمة تسويق أم أزمة تخطيط؟
غالبا ما نسمع أن التسويق الزراعي هو المشكلة الأكبر. هذه المقولة ليست دقيقة، لأن الفائض الناتج (الانتاج/الاستهلاك) هو في بضعة محاصيل قليلة، بينما نعاني من نقص فادح في معظم احتياجاتنا الزراعية التي تشكل العمود الفقري لأمننا الإنتاجي الغذائي الحقيقي؛ فنستوردها من الاحتلال الإسرائيلي أو الخارج. ألسنا نستورد معظم المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب والقمح والأعلاف وغيرها؟ فالمشكلة إذن تكمن في ماذا وكيف نزرع. فهل نزرع المحاصيل الأساسية والاستراتيجية بكميات محدودة؛ في وقت نزرع فيه بشكل غير مدروس بعض المحاصيل الأخرى بكميات ضخمة لا لزوم لها، وتصديرها غير مضمون أساسا؛ لأننا لا نتحكم أصلا بالمعابر والحدود وعمليات التصدير ذاتها.
والمثير للدهشة، أن بعض الاقتصاديين يتناسون تواصل تجزئة الضفة الغربية إلى أرخبيل من الجزر المتناثرة المحاصرة بمئات المستوطنات والقواعد العسكرية والجدران والحواجز الإسرائيلية التي يتحكم بها الاحتلال الإسرائيلي تمامًا، وتواصل الحصار والإغلاق اللذين يعزلان اقتصاد الضفة واقتصاد القطاع كليًا عن بعضهما، ويتسبّبان بخسائر فادحة للتجارة الخارجية ويسحقان القدرة التنافسية للمشاريع الإنتاجية المحلية الموجهة للتصدير، ويخفضان كثيرًا من فاعلية الاستثمار. كل ذلك حطّم الآمال والأحلام، وعاق بل منع، غالبًا، التجار والمنتجين الفلسطينيين من الوصول مباشرة إلى الأسواق العالمية.
وأمام هذا المشهد الاحتلالي الصارخ، كيف يجرؤ بعضٌ على الترويج لاتفاقات "التجارة الحرة" أو "تحرير التجارة"، في الوقت الذي تحتاج المنتجات الفلسطينية إلى تصريح من "إسرائيل" لتصديرها إلى الأسواق الخارجية، وفي الوقت الذي تتدفق فيه السلع الإسرائيلية خصوصاً والأجنبية الأخرى عموماً، إلى الضفة والقطاع دون قيود.
وبديهي أن "تحرير التجارة" وبالتالي اتفاقات التجارة الحرة بين مناطق الضفة والقطاع وسائر دول العالم، وفقًا لأنظمة وقواعد منظمة التجارة العالمية، تتطلب "حرية التنقل" وتفترض التكافؤ بين طرفي الاتفاق في التبادل والمنافسة.
وهذا "التكافؤ" تحديدًا، في حالتنا الفلسطينية مفقود تمامًا، لأن "حرية التنقل" تتمتع بها الأطراف الخارجية فقط (أوروبا وأميركا الشمالية وغيرهما)، فضلاً عن "الحركة الحرة" التي تتمتع بها السلع الإسرائيلية في الضفة والقطاع، في حين أن الاقتصاد الفلسطيني يفتقر إلى أهم عوامل المنافسة مع المنتجات الغربية من ناحية بنيته الإنتاجية الضعيفة وغير المتكافئة مع البنية الإنتاجية الأوروبية والأميركية كثيفة الرأسمال والتكنولوجيا، وانخفاض الإنتاجية، وكذلك محدودية السلع التي يمكننا تصديرها أصلاً.
إسرائيل نفسها، وهي المهيمنة على الاقتصاد الفلسطيني، توفر الحماية لسلعها وبخاصة الزراعية والغذائية الأساسية، في مواجهة نظيراتها من السلع المستوردة من أميركا وغيرها، فكيف لنا نحن الفلسطينيين أن نجعل سوقنا المحلية مستباحة للسلع الأميركية والأوروبية والإسرائيلية؟ لدرجة أن بعض الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين يعارضون بشدة حماية الاستثمار الوطني، بادعاء أن هذه الحماية "لا تمثل تشجيعًا للاستثمار الأجنبي".
كما أن توجه السلطة الفلسطينية إلى البنك الدولي و"المانحين" للحصول على سيلٍ متواصل من القروض و"المساعدات" نابع أساسًا من كون اقتصاد الضفة والقطاع هزيل وفقير، وبالتالي ليس باستطاعته منافسة المنتوجات الأجنبية الغزيرة المتدفقة أو التي قد تتدفق علينا.
وفي المحصلة، سيُثَبَّت ويُعَمَّق الاحتكار الأجنبي والإسرائيلي للسوق الفلسطينية، وبخاصة فيما يتصل بتسويق المنتجات الزراعية والغذائية، ما يعني اجتثاث المزارعين الفلسطينيين من السوق المحلية ومن أراضيهم، وإطلاق طلقة الرحمة على ما تبّقى من الإنتاج الزراعي الفلسطيني وسحق المزارعين ومنتجي الغذاء الفلسطينيين، بعد أن عمل الاحتلال، منهجيًا، طيلة عقود، على مصادرة ونهب أخصب الأراضي الزراعية.
كما أن انهيار الإنتاج الزراعي المحلي سيجعل الضفة والقطاع تابعين تبعية مطلقة للأسعار الاحتكارية المتقلبة، وسيضعهما تحت رحمة استيراد الغذاء والحبوب من الخارج.
ملامح هذا المشهد الاقتصادي الاستهلاكي الطفيلي لمسناها بوضوح منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وبخاصة من حيث التبعية شبه المطلقة للقمح والحبوب المستوردة؛ ناهيك عن حرب التجويع البشعة التي يمارسها الاحتلال؛ علمًا أن فلسطين، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت تصدّر الحبوب والقمح لسوريا ولبعض دول الخليج وغيرها؛ بل وحتى أواسط الستينيات كانت الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 شبه مكتفية ذاتيًا بالحبوب والمنتجات الزراعية الأساسية.
إن استباحة احتكارات الغذاء الإسرائيلية والأجنبية للسوق الفلسطينية ستترك آثارًا بيئية وصحية مدمرة، من ناحية التنوع الحيوي والصحة العامة للمجتمع الفلسطيني بسبب إغراق السوق الفلسطينية بالمحاصيل المعدّلة وراثيًا، وبخاصة المنتجات الغذائية الأساسية، كالقمح والذرة وغيرهما مع غياب الرقابة الفلسطينية الرسمية، علمًا أن السلطة الفلسطينية تفتقر تمامًا إلى السيادة على الواردات التي تتدفق إلى السوق الفلسطينية بواسطة القنوات والموانئ الإسرائيلية.
يضاف إلى ما ورد، خطأ الزعم القائل بأن الحيازات الزراعية الصغيرة أو ما يعرف بتفتت الملكية يعد مشكلة أيضا؛ إذ أنه في الزراعة المعتمدة على الذات، يفضل أصلا العودة إلى الحيازات الصغيرة. فمشكلتنا، إذن، تكمن في أن الإنتاج الزراعي الفلسطيني الحالي معرض للصدمات (وبخاصة في أوقات الحروب والحصار) بسبب افتقاره إلى التخطيط في إطار اقتصاد الصمود ومواجهة السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تفتيت الاقتصاد والسوق الفلسطينيين؛ لذا فإن هذا الانتاج غير حصين وحساس جدا وسريع التأثر بالضغوط الخارجية، ما يهدد مستقبل وجوده.
كما أننا نفتقر إلى سياسة إنتاجية غذائية وطنية دائرية تعتمد على مدخلات انتاج محلية، تضمن بقاء وتدفق الثروة ورأس المال وتدويرهما داخل بلدنا، بما في ذلك على مستوى السماد البلدي المحلي أو السماد الأخضر أو الحيوانات أو الأيدي العاملة أو البذور البلدية غير الصناعية، أو العلاجات الزراعية الطبيعية والعضوية المشتقة من الموارد والنباتات المحلية؛ ما يعني الاعتماد على الذات وتحقيق السيادة الإنتاجية الوطنية غذائيا.
أميركا اللاتينية والهند
على الصعيد العالمي، أدى اعتماد مبادئ السيادة الغذائية إلى نتائج متنوعة ومثيرة، ما يوفر رؤى قيمة حول إمكاناتها التحويلية. ففي أميركا اللاتينية، وتحديدا في بوليفيا والإكوادور، تم تكريس السيادة الغذائية في الولايات الدستورية، ما يدل على نهج رائد لإدماج المفهوم في الأطر القانونية الوطنية. ومن خلال إعطاء الأولوية لزراعة أصحاب الحيازات الصغيرة والممارسات الزراعية الأصلية، خطت هذه الدول خطوات واسعة في معالجة أوجه عدم المساواة الهيكلية، وتعزيز الأمن التغذوي. ويوضح التركيز على حماية المعارف التقليدية ونظم البذور المحلية التوافق بين السيادة والحفاظ على الثقافة.
أما الهند، فأدمجت الحق في الغذاء في إطارها الدستوري، ما حفز تطورات هامة في السياسات، بما في ذلك قانون الأمن الغذائي الوطني. يوفر هذا التشريع المدعوم بمناصرة المجتمع المدني المكثفة، الحبوب المدعومة للسكان المستضعفين، ويسلط الضوء على التفاعل بين الاستحقاقات القانونية والتعبئة الشعبية. تؤكد التجربة الهندية على أهمية الآليات المؤسسية في تعزيز أهداف السيادة الغذائية.
التجربة الفيتنامية
في عام 2013، أثناء زيارتي مع وفد مركز العمل التنموي/ معا إلى فيتنام (بدعوة من الحكومة الفيتنامية، من خلال مؤسسة "أفيدا")، تعرفت على التجربة التنموية الزراعية الفيتنامية المثيرة والرائدة.
الزراعات الفيتنامية المختلطة والمتداخلة، على مستوى البستنة المنزلية أو الحيازات الصغيرة، تعتمد تقليديا على ثلاثة مكونات أساسية تتكامل مع بعضها، وهي البستنة (النباتية)، تربية الثروة الحيوانية من دواجن وماشية، وتربية الأسماك. ويدعى هذا النمط الزراعي في اللغة الفيتنامية بـنظام VAC (اختصار لثلاث كلمات فيتنامية هي: “vuon ao chuong”) أي البستنة، بركة الأسماك والماشية. ومنذ مطلع الثمانينيات، تسارعت بشكل واسع عملية تحفيز الفلاحين على ممارسة منهج ألـ VAC. بل، ومنذ أواخر الستينيات، شدد الزعيم الثوري "هو تشي منه" على أهمية النمط الزراعي المتداخل في إطار الحيازات الصغيرة. ويهدف هذا النمط إلى تحسين المستوى التغذوي لأهالي الأرياف الفقيرة. وتدير الأسرة هذا النمط الزراعي الذي يعتمد بشكل أساسي على قوة عملها؛ وهو ينتشر في ظروف بيئية-زراعية منوعة، سواء في الأراضي المروية أو البعلية أو البستنة الحضرية.
نحو 85-90% من الأسر الريفية الفيتنامية تمتلك حديقة نباتية وبعض الماشية والدواجن؛ بينما تملك نحو 30-35% من هذه الأسر برك سمكية. وفي العديد من القرى الفيتنامية، تمارس 50-80% من الأسر نظام ألـ VAC بشكل كامل. وتبين الأرقام أن هذا النظام الزراعي يشكل 50-70% من مصدر دخل معظم الأسر القروية، بل وفي حالات كثيرة تصل نسبة الدخل إلى 100%. كما أن الدخل السنوي الناتج عن هذا النظام أعلى بثلاث إلى خمس مرات من الدخل الناتج عن نفس المساحة المزروعة زراعة أحادية؛ كالأرز مثلا وعلى مدى موسمين في السنة الواحدة.
إذن، يشكل نظام ألـ VAC الذي يمارس حاليا في معظم المناطق الفيتنامية، نمطا زراعيا مكثفا في نطاق الحيازات الصغيرة، بحيث تتداخل البستنة النباتية مع تربية الأسماك والحيوانات الداجنة. فالمحاصيل المنوعة تزرع في الحديقة أو الحيازة الصغيرة بأسلوب طبيعي مكثف دون استخدام الكيماويات الزراعية. الأصناف النباتية المختلفة تزرع بشكل مختلط ومترافق، بحيث يستفاد بأعلى قدر ممكن من رطوبة التربة ومغذياتها والطاقة الشمسية.
الخضار تزرع بشكل متداخل ومختلط مع أشجار الفاكهة؛ البقوليات تزرع على هامش الأرض أو الحديقة، كما أن الأشجار الشاهقة دائمة الخضرة تزرع كسياج أخضر ومصدات للرياح. ويعتمد النظام على أقل قدر من مدخلات الإنتاج وتطبق فيه إعادة التدوير الداخلي لمخرجات ومخلفات الإنتاج في نطاق نفس الوحدات الزراعية.
وبما أن النمط الزراعي المتداخل (VAC) كثيف العمل، فهو يوفر للفيتناميين، بجميع أجيالهم، عمالة منتجة، وبخاصة أنه لا يتطلب عملا يدويا صعبا. كما يتيح هذا النمط الزراعي للنساء العمل في بيئة صحية، قريباً من منازلهن وأبنائهن؛ بدلا من الذهاب إلى حقول الأرز البعيدة أو العمل في قطاع الإنشاءات.
وتتمثل سياسة الحكومة الفيتنامية في تشجيع الأسر على ممارسة نمط ألـ VAC الزراعي المعتمد على الذات والمدر للدخل، ما أدى إلى تعزيز هذا النمط الذي يلعب دورا هاما في تحسين جودة حياة الناس وفي تنويع الزراعة الفيتنامية وحماية الموارد الطبيعية والبيئة، وبالتالي ضمان تنمية مستدامة.
واللافت في المجتمعات الفيتنامية، انتشار ظاهرة المعمرين الذين تجاوزوا المائة عام؛ فالعديد من الفيتناميين، وبخاصة في الأرياف، تجاوز عمرهم المائة عام، بل بلغ بعضهم 115-120 سنة.
ويعتقد أن النظام الغذائي الفيتنامي يعد من أهم العوامل المساعدة في ظاهرة العمر المديد، إلى جانب التنوع المناخي ونمط الحياة الفلاحي وقلة التلوث الهوائي؛ إذ أن الدراجات الهوائية والنارية تعد وسيلة المواصلات الشائعة في المدن والأرياف.
الابتكارات الشعبية
يمكننا الإشارة إلى بعض المبادرات المحلية الداعمة لنهج السيادة الغذائية:
- تشجيع المشاريع الإنتاجية القائمة على قاعدة الزراعة المدعومة مجتمعيا أو "الزراعة بالحماية الشعبية". وفي مثل هذه المشاريع المجتمعية المكونة من منتِج زراعي (أو أكثر) ومجموعة من المستهلكين (وقد تكون في أغلب الأحيان مجموعات من الأسر الشبابية في القرية أو المدينة)، يدفع المستهلك سلفا للمنتِج في بداية الموسم مبلغا ماليا محددا، لدعمه في عملية الإنتاج العضوي بمختلف مراحلها (وهذا نمط من الدعم الشعبي للإنتاج المحلي). وفي المقابل، يحصل المستهلك على نسبة معينة من الإنتاج. ويمتلك المستهلك رأيا مقرِرا في ما سيُزرع.
وقد تختلف آليات العمل والإنتاج من مشروع لآخر، ولكن في معظم الحالات يدفع المستهلك رسما محددا في بداية الموسم لمشاركة المنتِج في المخاطرة أو في الثروة الإنتاجية. وليس بالضرورة أن تكون المشاركة مالية دائما، فقد يساهم المستهلك من خلال عمله بالمشروع، سواء بالفلاحة أو بالحصاد أو بالتوزيع. وقد يكون المستهلك نفسه منتجا لمنتجات بلدية لا ينتجها المشروع الذي ينتمي إليه، وبالتالي قد تكون مساهمته، كليا أو جزئيا، عبارة عن مقايضة بعض منتجاته بمنتجات أخرى في المشروع. وتعد الزراعة المدعومة مجتمعيا أسلوبا فعالا لتسويق المنتجات العضوية أو البيئية (أو البلدية) في مواقع الاستهلاك بالمدن أو بالمخيمات الفلسطينية. وعادة ما يتم نقل منتجات المشروع أو التعاونية إلى نقطة تجميع متفق عليها، حيث يتم من هناك إعادة توزيعها محليا.
وتحل هذه العملية مكان سلسلة المتاجر الكبيرة وأسعارها المرتفعة (بسبب تكاليف التغليف والنقل والتسويق وغيرها) وتدعم المزارع البلدي أو البيئي الصغير، بحيث تمنحه استقلالية أكبر عن إملاءات السوق والتجار وابتزازاتهم، وتضمن عمليا تزويد المستهلك مباشرة بالغذاء البيئي النظيف الطازج ذي الجودة العالية. أي أن مثل هذه المبادرات عبارة عن مصلحة مشتركة وقوية لكلا المنتجين والمستهلكين؛ فالمنتجون يُحَفَّزون على الإنتاج الزراعي الإيكولوجي وضمان تسويقه الأكيد بأسعار معقولة، كما أن المستهلكين يضمنون الحصول على غذاء صحي وخال من الأوساخ الكيميائية.
ومثل هذه المبادرات تشجع وتنشر الزراعات البلدية والبيئية التي تتميز مدخلاتها الإنتاجية بأنها محلية.
ثانيا: دعم وتعميم الحدائق الغذائية الجماعية في المناطق الحضرية وشبه الحضرية (المناطق المحيطة بالمدن)، بما في ذلك في المدارس والجامعات أو بمحاذاتها. وفي ظروف الحصار والتجويع، المبادرات المجتمعية وإشراك الشرائح الشبابية المحلية في ممارسات الزراعة المستدامة، وتنمية القدرات، تكتسب أهمية قصوى في إيجاد حلول طويلة الأجل.
ومن المفيد هنا التذكير بالمبادرات الإنتاجية الشعبية في مطلع الانتفاضة الأولى (أواخر الثمانينيات)، والتي شكلت بوصلة البديل التنموي للاستغلال الاقتصادي القائم على قاعدة "من أعلى الى أسفل" والمدعوم بحراب الاحتلال. وهذه المبادرات تحديدا تشكل تناقضا مع المفهوم التنموي للبنك الدولي والمستند الى اقتصاد "السوق الحر" الذي يريد أن يجعل من الحياة الريفية الزراعية التقليدية في الضفة والقطاع أول ضحاياه. إذ كيف يمكن لمجتمع يرزح تحت الاحتلال الاستيطاني والعسكري منذ عقود طويلة وتتواصل ضده الضغوط الاقتصادية والسياسية الهائلة أن يقف فورا ودفعة واحدة في "اقتصاد السوق" ويواجه المنافسات "الحرة" التي لا ترحم؟
أخيرا، السيادة الغذائية تقدم رؤية تحررية لإعادة صياغة النظم الزراعية، مع التأكيد على أولوية السيطرة المحلية والاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية. تظهر تجارب بوليفيا والإكوادور والهند وفيتنام القدرة على التكيف، وتأثير مبادئ السيادة عبر سياقات اجتماعية وسياسية متنوعة. كما تؤكد التجربة الفلسطينية على صمود المجتمعات المحلية التي تسعى جاهدة لتأكيد الفاعلية في ظل القمع والتجويع المنظمين. فمن خلال تطوير النهج الإنتاجي متعددة التخصصات، وتعزيز الابتكارات الشعبية، وبلورة السياسات الداعمة، تبرز السيادة الغذائية كإطار حيوي للتغلب على التحديات المترابطة للأنظمة الغذائية.