خاص بآفاق البيئة والتنمية
يتناول هذ المقال التحليلي مفهوم السيادة الوطنية على الغذاء من منظور شمولي، يأخذ في الاعتبار ما يفترض أن تتضمنه هذه السيادة من مفهوم الغذاء كحق أساسي من حقوق الإنسان، إضافة إلى الإصلاح الزراعي، وحماية الموارد الطبيعية، وعدالة تجارة الأغذية، والقضاء على عولمة التجويع، ومسألتي السلم الاجتماعي والرقابة الشعبية الديمقراطية. ويبين المقال بأن مفهوم "الأمن الغذائي"يعود إلى الأنظمة الإمبريالية والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية (الولايات المتحدة الأميركية، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، وبعض وكالات الأمم المتحدة...إلخ.) والذي تبنته بدورها الأنظمة السياسية في جنوب الكرة الأرضية التابعة للغرب الاستعماري، أي أنه مفهوم نيوليبرالي فوقي فرض من أعلى إلى أسفل. وخلافا لذلك، يشير المقال إلى أن مفهوم السيادة الغذائية نشأ في بعض دول أميركا اللاتينية وشرق أسيا، كمفهوم نقيض للأمن الغذائي، وتطور في سياق الحركات الفلاحية الشعبية الثورية التي حررت مساحات الأراضي الزراعية من براثن الأنظمة السياسية المستبدة والشركات الغذائية والزراعية الصناعية الكبرى، وتمردت على سياسات حكوماتها الداعمة للأغنياء والشرائح الطفيلية، والمدافعة عن مصالح الرأسماليين وأصحاب الأعمال الكبار وتجار العقارات والأراضي والشركات الاحتكارية والعابرة للقارات. بمعنى أن مفهوم السيادة الغذائية عبارة عن مفهوم تحرري شعبي مقاوم يهدف إلى تحقيق السيادة الحقيقية على الأرض وإنتاج الغذاء، وبخاصة سيادة الشعوب المقهورة والشرائح الشعبية الرازحة تحت تحكم ورحمة حفنة من الاحتكارات الأجنبية العابرة للقارات وشركات البذور والكيماويات الزراعية العالمية، إضافة للشعوب الرازحة تحت احتلال أجنبي، كما الشعب الفلسطيني.
|
 |
الزراعات التقليدية في قرية بتير قضاء بيت لحم |
برز خلال الأشهر الأخيرة الجدل المجتمعي والشعبي حول مفهوم السيادة الغذائية (food sovereignty)، فنظمت بعض الندوات وورشات العمل واستؤنفت بعض النشاطات والفعاليات المؤسسية والشبابية في هذا الاتجاه، تزامنا مع تعاظم البستنة المنزلية وعودة الكثيرين إلى العمل الزراعي في الأرض، وبخاصة في الريف الفلسطيني؛ وذلك في ظل جائحة كورونا وما رافقها من تآكل خطير في المداخيل الفردية والأسرية، وتصاعد نسبة البطالة والفقر.
وفي ذات الوقت، لوحظ وجود لغط وضبابية، لدى البعض، بين مفهومي السيادة الغذائية والأمن الغذائي(food security( وبخاصة، أن مفهوم السيادة الوطنية على الغذاء، في السياق الفلسطيني، ينسجم تماما مع مفهوم الاقتصاد المقاوم المعتمد على الذات، والذي يتناقض تناحريا مع المفاهيم والسياسات الاقتصادية الرسمية القائمة أساسا على قاعدتي "اقتصاد السوق"، و"السوق الحر" الرأسماليين اللذين تسببا في ترسيخ وتعميق الفقر والمجاعة والحروب القبلية والمحلية في دول الجنوب ذات "السيادة" الشكلية، فما بالك بمحمية كولونيالية إسرائيلية تحكم بعض معازلها الجغرافية سلطة حكم ذاتي أفرزتها اتفاقات استعمارية مع المحتل.
اللغط والضبابية برزا في استطلاع للرأي أجرته مجلة آفاق البيئة والتنمية في آب الماضي، حول وجود (أو عدم وجود) اختلاف بين مفهومي السيادة الغذائية والأمن الغذائي؛ إذ بين الاستطلاع بأن 40% فقط من المستطلعة آرائهم (من أصل 333 فردا) يعتقدون بوجود اختلاف كبير وجوهريبين مفهومي "السيادة الغذائية" و"الأمن الغذائي"؛ بينما 35% يعتقدون بوجود اختلاف طفيف بين المفهومين. وفي المقابل، 14% يعتقدون بعدم وجود اختلاف بين المفهومين؛ أما الذين لا موقف لهم (لا يعرفون) فبلغت نسبتهم 11%. ودون الخوض في تفاصيل كيفية تصويت كل فئة من المستطلعة آرائها، بينت نتيجة الاستطلاع، بشكل عام، وجود ضبابية وافتقار للرؤية الواضحة لدى غالبية المستطلعة آرائهم (60%).
 |
العولمة-ماكينة تفريخ مزيد من الفقر والمجاعة |
وفي هذا المقام، لابد من التنويه إلى أن "براءة اختراع" مفهوم الأمن الغذائي تعود إلى الأنظمة الإمبريالية والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية (الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، بعض وكالات الأمم المتحدة...إلخ.) والذي تبنته بدورها الأنظمة السياسية في جنوب الكرة الأرضية التابعة للغرب الاستعماري، أي أنه مفهوم نيوليبرالي فوقي فُرض من أعلى إلى أسفل.
وخلافا لذلك، نشأ مفهوم السيادة الغذائية بداية في بعض دول أميركا اللاتينية وشرق أسيا، كمفهوم نقيض للأمن الغذائي، وتطور في سياق الحركات الفلاحية الشعبية الثورية التي حررت مساحات الأراضي الزراعية من براثن الأنظمة السياسية المستبدة والشركات الغذائية والزراعية الصناعية الكبرى، وتمردت على سياسات حكوماتها الداعمة للأغنياء والشرائح الطفيلية، والمدافعة عن مصالح الرأسماليين وأصحاب الأعمال الكبار وتجار العقارات والأراضي والشركات الاحتكارية والعابرة للقارات. بمعنى أن مفهوم السيادة الغذائية عبارة عن مفهوم تحرري شعبي مقاوم يهدف إلى تحقيق السيادة الحقيقية على الأرض وإنتاج الغذاء، وبخاصة سيادة الشعوب المقهورة والشرائح الشعبية الرازحة تحت تحكم ورحمة حفنة من الاحتكارات الأجنبية العابرة للقارات وشركات البذور والكيماويات الزراعية العالمية، إضافة للشعوب الرازحة تحت احتلال أجنبي، كما الشعب الفلسطيني.

الزراعة البيئية تعتمد منهجية تغذية التربة وبالتالي فهي تحافظ على توازن الكائنات داخل التربة
كاتب هذه السطور يعد من أوائل من بادروا لنشر مفهوم السيادة الغذائية في المستوى الفلسطيني، وتحديدا منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي. وقد سبق أن ناقشت هذه المسألة في سياق الوطن الفلسطيني المحتل أكثر من مرة (من خلال مقالات تحليلية، ومداخلات وأوراق عمل في مؤتمرات دولية ومحلية)، ونشر لي كتاب حول هذا الموضوع عام 2015 (بعنوان: "السيادة الوطنية على الغذاء") طرحت فيه مفهوم السيادة الغذائية في سياق المكانة الإستراتيجية المصيرية الوجودية التي تحتلها الأرض والإنتاج الزراعي لشعبنا الذي تذله يوميا بساطير احتلال استيطاني اقتلاعي يتحكم وأعوانه في عملية إطعام أو تجويع الناس.
في هذه المقالة التحليلية، سأتناول السيادة على الغذاء من منظور أكثر شمولي، يأخذ في الاعتبار ما يفترض أن تتضمنه هذه السيادة من مفهوم الغذاء كحق أساسي من حقوق الإنسان، إضافة إلى الإصلاح الزراعي، وحماية الموارد الطبيعية، وعدالة تجارة الأغذية، والقضاء على عولمة التجويع، ومسألتي السلم الاجتماعي والرقابة الشعبية الديمقراطية.
كما نسترشد هنا من الدروس المستفادة من منظمات المزارعين الصغار عبر العالم، مثل حركة "فِيا كَمْبِيسِينا" (Via Campesina)، وحركة العمال عديمي الأراضي (MST) وما يسمى أزمة الغذاء العالمية (2007-2008) وجائحة كورونا، ومن الآثار الصارخة لظاهرة الاحترار العالمي؛ هذه الدروس تشير إلى أن تحولا نموذجيا في اتجاه السيادة على الغذاء آخذ في الحدوث بالعديد من المجتمعات.
لقد دلت "أزمة الغذاء" (2007-2008) من جهة، وأزمة جائحة كورونا من جهة أخرى، على مدى هشاشة النظام العالمي لتجارة الأغذية الذي ثبت عجزه عن القضاء على ظاهرة الجوع التي يعاني منها نحو مليار نسمة من الشرائح السكانية المعدمة في البلدان ذات الدخل المتدني، المتوسط، بل وحتى المرتفع. وقد ثبت أن سبب أزمة الغذاء أساسا ليس نقص الطعام، بل عدم قدرة وعجز الفقراء على تحمل الارتفاع الكبير في الأسعار الناتج عن بضعة عوامل أبرزها:
أولا، انعدام العدالة الرهيب في نظم التجارة العالمية، وبروز الحاجة الملحة لتقليص المسافات الطويلة التي يستغرقها نقل الأغذية.
ثانيا، ارتفاع أسعار الطاقة والمدخلات (مثل الأسمدة) وما يترتب على ذلك من زيادة الديون بخاصة، وديون المزارعين الصغار والبلدان متدنية الدخل بعامة، ما أدى إلى هجرات متواصلة لملايين فقراء الأرياف والملاكين الصغار نحو الأحياء الفقيرة في المدن والعمل المهزوز في الاقتصاد غير الرسمي.
ثالثا، مواصلة تقويض الإنتاج الغذائي في البلدان متدنية الدخل، من خلال إغراق الأخيرة بفوائض الإنتاج المدعومة من الأنظمة الغربية الرأسمالية، أو من خلال جرها نحو التخصص في إنتاج غذائي كمالي تصديري رخيص لصالح الاقتصاديات الرأسمالية.
رابعا، الاحتكار المتفاقم للحبوب والبذور وتجارة أغذية أخرى تتحكم بها حفنة من شركات الكيماويات الضخمة متعددة الجنسيات.
خامسا، المضاربات المالية الدولية لأسواق "العقود الآجلة" للسلع الغذائية.
سادسا، تحويل الغابات والأراضي الزراعية الصغيرة متعددة المحاصيل لإنتاج الوقود الحيوي.
سابعا، ضياع المعارف التقليدية والتنوع البيولوجي، وانتشار المحاصيل الأحادية المسجلة ببراءات اختراع، وهشاشة المحاصيل المعدلة وراثيا، والتغيرات المرتبطة بتغير المناخ وبخاصة تأثير تغير المناخ على إنتاج الأغذية. وأخيرا، الإفراط في الاستغلال غير المستدام للموارد الطبيعية.

حديقة عضوية تمتاز بالتربة الخصبة والتنوع النباتي وتدوير المخلفات الزراعية إلى سماد طبيعي
جائحة كورونا فضحت وهم "الأمن الغذائي"
مفهوم "الأمن الغذائي" يفترض، في جوهره، أن يمتلك الناس قدرة على تلبية احتياجاتهم الغذائية، من خلال الإنتاج المحلي أو الاستيراد. والأساس هنا، وفق المفهوم الإمبريالي، هو الاستيراد وبالتالي تبعية الشعوب الفقيرة الغذائية للدول الإمبريالية واحتكاراتها المتحكمة عالميا بإنتاج الحبوب والأغذية الاستراتيجية. بمعنى، كي يتمكن الناس من توفير احتياجاتهم الغذائية يجب أن يتوفر لديهم المال كي يقتنوا تلك الاحتياجات. ودون ذلك، فمن لا يملك المال من الشرائح الاجتماعية العاطلة عن العمل والمعدمة والتي تعاني من الفقر المدقع، لا بأس أن تموت وهي تتضور جوعا. مفهوم "الأمن الغذائي"، بهذا المعنى، يهدف، في المحصلة الأخيرة، إلى تكريس وتأبيد الظلم والقهر الاجتماعيين، وانعدام العدالة والمساواة؛ بل شرعنة الفقر والجوع وماكنة النهب العالمية المعززة للفجوات الطبقية بين طغمة هامشية من الأثرياء المترفين الطفيليين الذين يموتون من التخمة الغذائية، وبين غالبية تموت جوعا، دون أن تجد حتى من يحتفي بدفنها.
وكما سنرى في الفقرات اللاحقة، فضحت جائحة كورونا مدى عمق الاضطهاد الاجتماعي والقهر الطبقي وانعدام المساواة عالميا، وكشفت زيف وأكذوبة "الأمن الغذائي" التي دأبت الأنظمة الامبريالية ومؤسساتها واحتكاراتها في دول الشمال على تسويقها للمجتمعات الفقيرة في دول الجنوب، بعد أن تم تجميلها بمساحيق فكرية-تنموية من قبيل "التنمية المستدامة" التي، تحت مظلتها، يتم تغليف التفنن في أشكال نهب الموارد المالية والأرباح والفوائض (من "الجنوب").
وفي المحصلة، تخلت دول "الجنوب" (وبالطبع العربية أيضا) عن أسواقها القومية، وفتحتها تماما للرأسمال الغربي المتمثل بشركاته العملاقة ليرتع فيها كما يشاء، ويدمر بنيتها الإنتاجية والبيئية، تحت عنوان "السوق العالمية الموحدة" التي تشكل المجال الطبيعي والحيوي لحركة الرأسمال الغربي الذي يعتبر الحاكم بأمره في هذه السوق.
وهنا يكمن سر دعوة المؤسسات المالية والاقتصادية "الدولية" (وخاصة "منظمة التجارة العالمية") إلى "تحرير" غير متكافئ بتاتا للتجارة في دول "الجنوب" التي على حكوماتها، وفقا لمتطلبات "التحرير"، رفع الحماية عن المنتجين المحليين، و"خصخصة" أصول ومشاريع القطاع العام، بما في ذلك السماح للشركات الأجنبية و"المتعددة الجنسية" بأن تشتري هذه الأصول والقطاعات، ناهيك عن منح الحرية المطلقة لحركة رأس المال، وبالتالي حرية تسريب الأموال والفوائض المحلية إلى الخارج، وتحديدا إلى دول "الشمال". وكانت النتيجة سحق البنى الاقتصادية الإنتاجية التقليدية التي كانت قائمة قبل الوجود الاستعماري المباشر في هذه البلدان، والتي اعتمدت على الموارد والسوق المحلية، كالزراعة بالدرجة الأولى، وبالتالي حطم الغرب أسس اعتماد غالبية دول "العالم الثالث" على ذاتها اقتصاديا، وضمن بالتالي تبعيتها الاستهلاكية والغذائية له، وبالنتيجة جردها حتى من وهم "أمنها الغذائي" ودمر بيئتها الغنية وقذف بها إلى مستنقع المجاعة.
والآن، في ظل جائحة كورونا، تعمق الفقر والمجاعة في بلدان الجنوب بشكل خاص، بل وأيضا في الدول الصناعية الغربية ذاتها، حيث حددت البنية الطبقية الرأسمالية من يحصل على الطعام ومن لا يحصل عليه؛ فطغت بشكل صارخ الانقسامات الطبقية على المستوى الكوني، حيث يتمتع الأغنياء بثرواتهم الخيالية المتضخمة، بينما مئات ملايين العمال في سوق البطالة، لا يملكون المال لإطعام أسرهم.
أزمة الجوع خلال العام الحالي غير مسبوقة، حيث يقدر الخبراء العدد المتوقع للوفيات العالمية بسبب الجوع، حتى نهاية السنة الجارية، بأكثر من 132 مليون شخص، بمقدار ثلاثة أضعاف الزيادة السنوية منذ بداية القرن الحادي والعشرين (وكالة بلومبرج). أي أن العدد اليومي للوفيات عالميا، بسبب الجوع الناتج عن عواقب الجائحة أكثر من عدد الوفيات بسبب الإصابة بالفيروس.
أرقام الأمم المتحدة تقول بأن ما لا يقل عن 11% من سكان العالم قد لا يجدون الطعام الكافي خلال العام الحالي. السيناريوهات المتفائلة ترى بأن مستوى المجاعة خلال العقد القادم سيكون أشد بشاعة من جميع التقديرات السابقة، وقد يصل عدد الجياع بحلول سنة 2030 إلى نحو 909 ملايين إنسان؛ بل إن السيناريو الأكثر تشددا يقدر عدد الجوعى في ذات العام بنحو مليار إنسان.
جائحة كورونا كشفت أكذوبة مفهوم "الأمن الغذائي" المستند أساسا إلى سلاسل توريد الأغذية المستوردة بمعظمها، والقدرة الشرائية الشحيحة للفقراء والمعوزين (الغالبية السكانية) المعتمدة على عملهم المأجور الرخيص الذي جردهم من حريتهم الغذائية التي يقررون بموجبها ماذا ينتجون وماذا يستهلكون، بمدخلات إنتاج محلية ووطنية؛ أي بكلمات أخرى، تم تجريدهم من سيادتهم الغذائية، وتسهيل عملية انزلاقهم إلى هاوية المجاعة، وذلك بمجرد أن يتم تقويض مصدر دخلهم المأجور الذي "يغدقه" عليهم مُشَغِّلُهُم الذي يعيشون تحت رحمته. واللافت أن وحش الجوع يبيد الناس، في الوقت الذي تزداد به الفوائض الغذائية في العالم بنسب كبيرة؛ تلك الفوائض التي؛ وفقا لمفهوم "الأمن الغذائي"، يفترض أن توزع على الجوعى، وبالتالي القضاء على ظاهرة الجوع.
الجوع لا ينهش فقط أجساد شعوب الدول الفقيرة، بل أيضا أجساد فقراء أعتى الأنظمة الرأسمالية وحشية، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية. ففي مدينتي كوينز ونيويورك الأميركيتين، على سبيل المثال، يصطف آلاف الجوعى لفترات زمنية طويلة قد تصل إلى 8 ساعات، أمام بنوك الطعام للحصول على حقيبة تحوي بعض الأغذية البسيطة. ومقابل هذا المشهد، نجد المزارعين الكبار في كاليفورنيا يحرثون فوائض الخس الضخمة مع الأرض، وفي واشنطن يتركون ثمار الفاكهة تتعفن على أشجارها بسبب تدني أسعارها(وكالة بلومبرج).
الهدر الهائل لفوائض الأغذية، وبخاصة في دول الغرب الرأسمالي، يعني التخلص من الإنتاج الغذائي في مكبات النفايات. وهذه الفوائض تكفي لإطعام مئات الملايين من سكان الدول الفقيرة.
الحرب الحقيقية التي تخوضها العديد من الدول الغربية ضد الشعوب الفقيرة هي الحرب ضد ما تبقى من لقمة عيشها وسيادتها على غذائها، وشرعنة وتعميق امتهان كرامات الشعوب ونهبها واستباحتها اقتصاديا وسياسيا وغذائيا وبيئيا وإنسانيا ونفسيا وأخلاقيا.
الدول الغربية ومؤسساتها المالية الدولية فرضت خلال عشرات السنين الأخيرة،، ولا تزال تفرض، على "العالم الثالث" زراعة محاصيل كمالية للتصدير لأوروبا وأميركا واليابان، بينما تفتقر غالبية شعوب "العالم الثالث" للمحاصيل الغذائية الأساسية التي تحتاجها. ويشير هذا التوجه الاقتصادي الغربي المفروض على "العالم الثالث" الى أن الزراعة الأحادية الموجهة لما يسمى بالسوق العالمي قد أوصلت هذه الشعوب إلى درجة العجز عن إنتاج وتأمين الغذاء الأساسي لنفسها، فلم يبق أمامها سوى مواجهة مصيرها المحتوم: المجاعة أو الفقر الغذائي (المعنى الحقيقي لـ "الأمن الغذائي").
البنك وصندوق النقد الدوليان طالما أرغما الدول النامية على التحول من إنتاج غذائها الأساسي الضروري لتوفير أمنها الغذائي الحقيقي، إلى إنتاج المحاصيل الكمالية لتلبية متطلبات الدول الغربية. كما وتعمل المؤسستان على إرغام نفس الدول على إلغاء الدعم الحكومي للاحتياجات الغذائية الأساسية وإبطال دعم الأسعار للمزارعين، وتسهيل قوانين الأراضي، لإتاحة المجال أمام الشركات الكبرى بأن تستثمر في الزراعة، وبالتالي، ترك المزارعين "غير الفعالين" تحت رحمة قوى السوق، بل واستبدالهم بالشركات الصناعية؛ علما أن الزراعة تشكل مصدر عيش 70% من فقراء العالم. وبالطبع، لم تقترح المؤسسات المالية الدولية مثل هذه الوصفات على الدول الغنية والصناعية التي تنتج فوائض ضخمة من القمح والأرز والذرة وفول الصويا وقصب السكر والقطن، وذلك في ظروف مسيئة للبيئة وتتسبب أيضا في كوارث إيكولوجية واضحة.

متظاهرون ضد العولمة ومنظمة التجارة العالمية التي نعتها شعار المظاهرة بمنظمة الإرهاب الدولي
أسس السيادة على الغذاء
السؤال المطروح: ما هي أهم أسس السيادة على الغذاء وكيف يمكننا بلوغها؟ يمكننا إيجاز مفهوم السيادة الغذائية في تسعة عناصر أساسية (بحسب ما ورد في كتابي "السيادة الوطنية على الغذاء"):
أولا: هدف أية سياسة زراعية محلية ووطنية يجب أن يكون الاكتفاء الذاتي غذائيا. بمعنى أن مزارعي الوطن يجب أن ينتجوا كل أو معظم الغذاء المستهلك محليا. هذا الشرط تحديدا، لا يشمله مفهوم "الأمن الغذائي" الذي طوعته الدول والشركات الصناعية الغربية والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية لصالح المصالح التجارية الاحتكارية في أوروبا وأميركا الشمالية. ممثلو احتكارات الغذاء الأميركية يعرفون "الأمن الغذائي" باعتباره القدرة على تلبية الاحتياجات الغذائية للبلد، من خلال الإنتاج المحلي أو الاستيراد. والأساس هنا، وفق المفهوم الإمبريالي، هو الاستيراد من خلال إغراق أسواق الشعوب الفقيرة بالسلع الغذائية الغربية المدعومة والرخيصة، وبالتالي القضاء على الإنتاج الغذائي الوطني، كما حدث في العديد من دول أسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وقد وصلت العجرفة الأنجلو-سكسونية الاستعلائية لدى جون بلوك وزير الزراعة الأميركي السابق لدرجة تعريفه "الأمن الغذائي" بقوله إن "المفهوم القائل بأن الدول النامية يجب أن تُطْعِمَ نفسها بنفسها يعتبر في غير زمانه وقد عفا عليه الزمن. فبإمكان هذه الدول أن تضمن بشكل أفضل أمنها الغذائي من خلال اعتمادها على المنتجات الزراعية الأميركية، وهي متاحة، في أغلب الأحيان، بتكلفة أقل"!
ثانيا: من حق الناس والشرائح الشعبية أن تقرر أنماط إنتاجها واستهلاكها الغذائي، آخذين في الاعتبار التنوع الريفي والإنتاجي، وعدم السماح بإخضاع هذه الأنماط للتجارة الدولية المنفلتة وغير المنضبطة.
ثالثا: الاعتبار الأساسي في عملية إنتاج واستهلاك الغذاء يجب أن يكون رفاهية ومنفعة المزارعين والمستهلكين على حد سواء، وليس أرباح أصحاب المصالح الكبار والشركات التجارية الزراعية.
رابعا: أنظمة الغذاء الوطنية يجب أن تنتج غذاءً صحيا ذات جودة جيدة وينسجم مع التراث والثقافة المحليين، وذلك للسوق المحلي بالدرجة الأولى. وهذا يعني تجنب الوجبات الاصطناعية السريعة والقوالب والمعايير العالمية الجاهزة للأغذية المصنعة، كما يعني أيضا رفض التوجه الذي يعتبر الغذاء مجرد سلعة أخرى أو عنصر امن عناصر الصناعات الزراعية العالمية.
خامسا: يجب إعادة التوازن بين الزراعة والصناعة؛ بين الريف والمدينة؛ وعكس الاتجاه القائم المتمثل بتبعية الزراعة والريف للصناعة ونخب المدينة، وما نتج عن ذلك من أرياف منكوبة وتدمير للاقتصاديات الزراعية، الناتج إلى حد كبير، في الحالة الفلسطينية، بسبب نهب الاحتلال للأراضي والموارد الطبيعية.
سادسا: وضع حد لسيطرة الشركات التجارية والوكلاء على الأراضي الزراعية، وبخاصة لإقامة مشاريع صناعية وتجارية وزراعية مشتركة مع الاحتلال، بهدف التصدير لصالح أرباح حفنة من السماسرة والوكلاء والمنتفعين من التبعية الاقتصادية للاحتلال. ومن خلال برنامج إصلاح زراعي حقيقي، يجب إعادة توزيع الأرض الزراعية الحكومية، لصالح الذين يفلحونها (الأرض لمن يفلحها) فقط. بمعنى أن السيادة الحقيقية على الأرض الزراعية، المراعي، المياه، البذور، الثروة الحيوانية والسمكية يجب أن تكون لمنتجي الغذاء المحليين الذين يجب ضمان احترام حقوقهم. كما أن الإصلاح يجب أن يتضمن أحكاما خاصة بأشكال الملكية المجتمعية والجماعية، وبالإنتاج الذي يعزز حس الانتماء البيئي والزراعي.
سابعا: ممارسة الإنتاج الزراعي يجب أن تكون بشكل أساسي بواسطة المزارعين الصغار أو التعاونيات أو المنشآت المملوكة للدولة (القطاع العام)؛ كما أن توزيع الغذاء واستهلاكه يجب أن يحكمهما التسعير العادل الذي يأخذ في الاعتبار حقوق ورفاهية المزارعين والمستهلكين على حد سواء. وهذا يعني، بشكل أساسي، القضاء على سياسة الإغراق السلعي الذي تمارسه الشركات الإسرائيلية وسائر الشركات الأجنبية والاحتكارية، من خلال إغراقها الأسواق المحلية بسلعها الزراعية المدعومة، وبالتالي الرخيصة بشكل مصطنع، ما أدى ويؤدي إلى عملية تدمير متواصلة للمزارعين الصغار. وهذا التوجه الزراعي الوطني يعني أيضا ضرورة حماية الإنتاج الغذائي المحلي، وإنتاج وتخزين احتياطي من الحبوب الإستراتيجية، وتشجيع القروض الزراعية الميسرة وأشكال دعم أخرى تحفز عملية استرداد القدرات الوطنية للبلد على إنتاج الغذاء. علاوة على إعادة النظر بأولويات الموازنات العامة والحكومية لصالح الإنتاج الزراعي والمزارعين، وتحديد أسقف للأسعار.
ثامنا: معارضة ورفض الزراعات الصناعية القائمة على الهندسة الوراثية وما يسمى "الثورة الخضراء" المكثفة كيميائيا، لأن التحكم الاحتكاري بالبذور يصب بالدرجة الأولى في مصلحة الأجندات التجارية الربحية للشركات، ولأن الزراعة الصناعية تعتبر غير مستدامة بيئيا.
تاسعا: تحوي التقنيات الفلاحية التقليدية والزراعية المحلية كما هائلا من المعرفة والحكمة والمهارات المتوارثة، وهي تجسد تطور التوازن الكبير الذي كان قائما إلى حد كبير بين المجتمع البشري والمحيط الحيوي. لذا، فإن تطوير التقنيات الزراعية لتلبية الاحتياجات الاجتماعية المحلية يجب أن يأخذ الممارسات التقليدية المتوازنة كنقطة بداية، بدلا من الإطاحة بها باعتبارها متقادمة وعفا عليها الزمن.

من خلال جدرانه العنصرية ومستعمراته وقواعده العسكرية يتحكم الاحتلال في عملية إطعام وتجويع الفلسطينيين
المزارع الصغيرة أكثر إنتاجية بكثير من المزارع الكبيرة
السؤال المطروح: هل يمكن للزراعة الفلاحية التقليدية تلبية الطلب الكبير على المنتجات الزراعية في عصرنا الحاضر؟ في الواقع، بعض أهل العلم "المتعاطفين" مع معاناة طبقة الفلاحين أو العمال الريفيين، يزعمون بأن مناصرة النمط الفلاحي "تتجاهل إلى حد بعيد المسائل المتعلقة بإطعام سكان العالم الذين ازدادوا كثيرا في كل مكان بعصرنا الحاضر؛ ذلك الإطعام الذي أصبح في جزئه الأكبر ممكنا بفضل ثورة الإنتاجية التي تحققت من خلال تطور الرأسمالية".
يتلخص ردنا على ذلك، بادئ ذي بدء، في أن "الثورة الإنتاجية" الزراعية الكيميائية الرأسمالية "الضرورية لإطعام سكان العالم" ليست سوى تضليل ومغالطة فاضحة. فالأرقام الدولية الرسمية (منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو"،الصندوق الدولي للتنمية الزراعية" وبرنامج الغذاء العالمي) تثبت بأنه رغم "التطور" الحاصل في مجال التكنولوجيا الزراعية الكيميائية والمحاصيل المعدلة وراثيا، بذريعة القضاء على المجاعة، فإن عدد الجياع في العالم ازداد كثيرا ولم ينقص (كما رأينا سابقا)؛ بل إن هدف القضاء على المجاعة بحلول 2030 الذي وضعته الأمم المتحدة سنة 2015 لا يزال بعيد المنال. في عام 2014 تحديدا، بلغ عدد الجياع في العالم نحو 630 مليون، فارتفع عام 2019 إلى نحو 700 مليون، وخلال العام الحالي يتوقع أن يتخطى (عدد الجوعى) عتبة أل 800 مليون، أي أكثر من 11% من سكان العالم.
يضاف إلى ذلك، أن تفوق الزراعة الرأسمالية الصناعية، من حيث الإنتاج، غير مدعم بالتجربة. فبالرغم من المغالطة الشائعة بأن المزارع أو الحيازات الزراعية الصغيرة متخلفة وغير منتجة، إلا أن الأبحاث تدلل على أن المزارع الصغيرة أكثر إنتاجية بكثير من المزارع الكبيرة، وذلك إذا أخذ في الاعتبار مجمل المخرجات، وليس فقط الغلة الناتجة من محصول واحد. فعلى سبيل المثال، أنظمة الزراعة المتكاملة الصغيرة التي تنتج تنوعا من الحبوب، والفاكهة، والخضروات، والعلف والمنتجات الحيوانية، تتجاوز غلتها (إنتاجها) في الوحدة الواحدة، غلة المحصول الأحادي في المزارع الكبيرة، مثل الذرة في الزراعات الأحادية. وعندما تؤخذ في الاعتبار عوام لزعزعة الاستقرار البيئي التي صاحبت عملية تعميم الزراعة الصناعية؛ نجد أن ميزانية التكاليف والمنافع تترنح بشكل حاد نحو السلبية. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تسافر السلعة الغذائية المتوسطة أكثر من ألفي كيلومتر قبل أن تصبح جزءا من وجبة الطعام؛ علما أن الفاكهة والخضروات تبرد، وتشمع، وتصبغ، وتعرض للإشعاع، وتدخن، وتعبأ، ثم تشحن. وبالطبع، فإن أيا من هذه العمليات لا تحسن جودة الغذاء، وإنما تمكن فقط توزيعه لمسافات بعيدة، وتزيد فترة صلاحيته.
لقد خلقت الزراعة الصناعية حالة منافية للعقل؛ إذ أن إنتاج سعر حراري واحد من الطاقة الغذائية يتطلب عشر سعرات من الطاقة خلال مراحل الإنتاج، والمعالجة، والتوزيع والتحضير.
في الواقع، قدرة زراعة النطاق الصغير أو الزراعة الفلاحية على الجمع بين الإنتاجية والاستقرار البيئي يشكل بعدا أساسيا في تفوقها على الزراعة الصناعية (الكيميائية). وبالطبع، تتماشى الميكنة الزائدة تماما مع الزراعات الأحادية التي تترك فيها مساحات أرضية عارية بين الصفوف المزروعة. وعكس ذلك، تميل المزارع الصغيرة إلى الاستفادة المكثفة أكثر من مثل هذه المساحات، وذلك من خلال تنويع الأنماط المحصولية التي تدمج أنواعا نباتية تكمل بعضها بعضا. فضلا عن دمج بعض الحيوانات الصغيرة واستخدام دواب الجر المقبولة بيئيا.
كثافةأنماط المحاصيل المنوعة التيتزرع في دورات زراعية، و"ترييح" الأرض من فترة لأخرى،وتكامل التنوع النباتي مع الحيوانات الصغيرة ودواب الجر، تعزز بقوة الكائنات الدقيقة التي تحلل التربة، واللافقاريات، والكائنات
المستهلِكة التي تتغذى على الفضلات العضوية؛ ما يدعم، في المجمل، التنظيم البيولوجي لخصوبة التربة والآفات ودورات المرض والأعشاب الضارة، دون كيماويات كما في الزراعات الأحادية. هذه القدرة على تجديد وتحسين التربة مع مر الزمن، هي أيضا نتاج جداول زمنية لإدارة المزرعة، مختلفة جذريا عن المزارع الصناعية؛ إذ أن المزارع الصغيرة غالبا ما تعتمد على المعرفة المتوارثة عبر الأجيال؛ لذا فإنها تميل إلى تنظيم ذاتها من خلال وضع أهداف موازنة أبعد مدى بكثير من الميزانية السنوية التي تحكم الزراعات الأحادية الصناعية.
المغالطة الشائعة والقائلة بأن زراعة الحيازة الصغيرة والفلاحية متخلفة، نابعة من مجموعة مزاعم أسسها في الواقع ضعيفة؛ وأبرزها ثلاثة مزاعم غامضة حول الإنتاج في الزراعة الفلاحية. الزعم الأول يقول بأن هناك "سقف تقني" لا تستطيع الزراعة الفلاحية تجاوزه. الزعم الثاني يقول بما يسمى قانون تناقص العائدات في الإنتاج الفلاحي كثيف العمل. وثالث المزاعم يستند إلى الركود المفترض في الإنتاج الفلاحي.
الأدلة القائمة على المزاعم السابقة واهية. ومن المفيد التذكير، في هذا السياق، بأن الزراعة الهولندية أصبحت، في الفترة الممتدة بين 1850 و1956، طليعية في الإنتاج على مستوى عالمي، وذلك تحديدا عندما ازداد عدد المزارعين الصغار بالأرقام المطلقة، وعندما سادت الأنماط كثيفة العمالة واختفت المزارع الرأسمالية ومزارع أصحاب الأعمال؛ بل كانت الحركة تسير باتجاه العودة إلى الزراعة الفلاحية. إن منطق النمط الفلاحي للإنتاج يختلف عن المنطق الرأسمالي، حيث أن أساس التحدي التكنولوجي في هذا النمط هو البناء على عناصر النموذج الفلاحي، وليس إزاحتها بالتكنولوجيا الرأسمالية. ومن أهم هذه العناصر:
- استدخال الطبيعة والبناء عليها؛ كما أن الإنتاج المشترك والتطور المشترك أمران أساسيان
- الابتعاد عن الأسواق في جانب المدخلات؛ والتمايز في جانب المخرجات (قدر ضئيل من التسليع)
- مركزية الحرف والتقنيات المرتكزة على المهارات
- تكثيف مستمر يعتمد على كمية ونوعية العمل
- تعدد الوظائف
- استمرارية الماضي، الحاضر والمستقبل
- زيادة الثروة الاجتماعية
وبالطبع، يوجد في الزراعة الفلاحية تقدم، ولكنه يقع ضمن عملية تكون التكنولوجيا فيها انتقائية وليست تخريبية لنمط الإنتاج، بل في توافق معه. التقدم التكنولوجي في الزراعة الفلاحية لا صلة له بتوحيد معايير الإنتاج، وإنما بناء القدرة على التعامل مع التنوع في سياق عملية الإنتاج. التكنولوجيا، بالمعنى الحقيقي، تعتمد على المسار الذي تتبعه؛ فتطورها يأخذ مسارات مختلفة في نماذج الإنتاج المختلفة.
العلوم المتقدمة والزراعة الفلاحية لا تتعارضان. دمج العلم في الزراعة الصغيرة يمثل تحدٍ لكنه ممكن. فالزيادة الكبيرة في مدى الممارسات العضوية وشبه العضوية تتطلب قدرا أكبر من البحث العلمي والتدريب الهادفين إلى تحقيق فهم أفضل لكيفية عمل الأنظمة الإيكولوجية-الزراعية. فعلى سبيل المثال، البحث في أوجه التكامل الوظيفي للحشرات المختلفة من شأنه تحسين المكافحة الطبيعية للآفات. بينما معرفة أكبر لخصائص ولبنية التربة ولديناميات إعادة تدوير المغذيات يمكن أن ترشد المزارعين نحو أفضل ما يمكن استعماله من أنماط الزراعات المتداخلة والدورات الزراعية والنباتات المثبتة للنيتروجين والأسمدة الخضراء، لتحسين خصوبة التربة.
تدفق رأس المال وتدويره داخل البلد
إجمالا، هناك غياب في التوجه نحو استخدام الموارد والإمكانيات المحلية وتغييب للممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية التي اكتسبها وطورها مزارعونا القدامى، فضلا عن عدم الاهتمام بالمحاصيل والبذور البلدية. إن تطوير العملية الزراعية استنادا إلى الموارد والإمكانيات والممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية، يعد لب مفهوم الزراعة العضوية أو البيئية. واعتبار الزراعة العضوية بأنها "زراعة التقنيات العالية" كما كتب بعضهم، يعد مغالطة علمية، لأن تمام العكس هو الصحيح. حيث أن الزراعة المستندة إلى الكيماويات تحديدا، هي التي تعد ذات كثافة رأسمالية مرتفعة. بينما تقنيات واستراتيجيات المكافحة غير الكيماوية للآفات والأمراض الزراعية، تحتاج إلى المعرفة الواسعة والعمالة والمهارة والخبرة البشرية، أكثر من حاجتها إلى الرأسمال والتقنيات العالية، بمعنى أنها كثيفة المعرفة والعمل.
التعامل مع مفاهيم الزراعة العضوية أو البيئية في السياق الاقتصادي-السياسي الفلسطيني، لا بد أن يكون مبنيا على تجاربنا ومعارفنا وتقاليدنا الزراعية الطبيعية والبلدية غير الكيماوية، بحيث نراكم على هذه التجارب والمعارف ونطورها ونعممها.
إن التركيز على التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي البلدي والعضوي وتنويعه وحمايته، يضمن التأسيس لاقتصاد المقاومة في مواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع الصهيونية، فضلا عن تحسين مستوى معيشة أهل الريف إجمالا؛ الأمر الذي سيخلق دورة اقتصادية تؤدي إلى توسيع سوق الصناعة المحلية وبلورة صناعات جديدة، بما في ذلك إنتاج بعض التجهيزات الزراعية الصغيرة وإصلاحها؛ ما سيسهم في خلق فرص عمل جديدة ودائمة في القطاعات الإنتاجية الصديقة للبيئة. بمعنى أن التصنيع لا بد أن يكون منسجما مع عملية ربط الاستراتيجية الزراعية بالتنمية الصناعية، انطلاقا من الإمكانيات المتوفرة بحيث تبنى هذه العملية على أساس تكاملي مع الأقطار العربية المجاورة. وسيتطلب هذا التوجه الإنتاجي الاستراتيجي خدمات توعية وإرشاد وبرامج تدريبية مناسبة.
يضاف إلى ذلك، تشجيع وتحفيز التوجه الشبابي والطلابي نحو تنفيذ وتعميم مبادرات وابتكارات بيئية تصب مباشرة في صميم اقتصاد المقاومة، وتقلل بالتالي تبعيتنا للاحتلال وتخفض استهلاكنا لسلعه غير الغذائية، والمُصَنَّعَة من موارد غير متجددة، مثل الطاقة الكهربائية الكربونية التي تشترى من الاحتلال، ووقود التدفئة والتبريد ووقود السيارات الذي نشتريه من الصهاينة (كاالبنزين والسولر). فلا بد إذن، من تحفيز المبادرات الشبابية المنسجمة مع البيئة مثل إنتاج الكهرباء المنزلية للإنارة والتسخين والتدفئة والتبريد من مصادر طبيعية متجددة (الخلايا الشمسية، الرياح، طاقة الوضع والجاذبية لموج البحر في غزة مثلا)، وتوليد غاز الميثان للاستعمال المنزلي من النفايات العضوية، وغير ذلك من التقنيات البيئية المعززة لوضعنا البيئي والداعمة للتوجه الاقتصادي المقاوم!
وفي ظل الواقع الإستعماري الاستيطاني، فإن الاقتصاد الفلسطيني الوحيد الممكن والواقعي الذي يحقق السيادة الفلسطينية الفعلية على الغذاء، هو الاقتصاد الوطني الشعبي المقاوم الذي يوفر مقومات الصمود الإقتصادي والمعيشي الضروري لمواجهة الإحتلال. ويستند نموذج اقتصاد المقاومة على تدعيم البنية الإنتاجية الزراعية والصناعية الوطنية الشعبية المتمحورة داخليا في السوق المحلي، والتي تنتج الإحتياجات الأساسية للشرائح الشعبية، وبالتالي تحررنا من التحكم الصهيوني في عملية إطعامنا وتجويعنا من خلال إطلاق العنان للحريات والمبادرات الشعبية والشبابية المعتمدة على الذات والمشاريع الإنتاجية العامة والتكامل القطاعي، والنشاطات الزراعية غير الرسمية التي تتميز بالتنوع الإنتاجي وتوفر السيادة الإنتاجية الغذائية الحقيقية للناس. وعمليا، يشكل هذا التوجه مدخلا واقعيا وممكنا لفك الارتباط بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الاسرائيلي. وفي المحصلة، يعني اقتصاد المقاومة تشجيع وتنمية ثقافة الإنتاج والإدخار كبديل لثقافة الاستهلاك والإلحاق المهيمنة حاليا على شبابنا في مختلف المستويات.
ومن منظور تنموي استراتيجي، يبقى الاستثمار في مشاريع إنتاجية زراعية بيئية ومتحررة من الأوساخ الكيميائية، ومقللة من تبعيتنا للأجنبي، ومعززة لاعتمادنا على الذات، ولو بشكل جزئي، أفضل ألف مرة من التشبث بالطروحات والسياسات الاقتصادية والزراعية التي سادت وطغت منذ إبرام اتفاقيات أوسلو وثبت إفلاسها، حيث عملت ولا تزال تعمل على تشويه الاقتصاد الفلسطيني وتثبيت وتعميق عملية إلحاقه بالاقتصاد الإسرائيلي.
وقد ثبت في بلد كبلدنا، "متخلف" تنمويا ورازح تحت الاحتلال الاستيطاني وفقير بالموارد الطبيعية، أن لا مجال ولا مستقبل للحديث عن تنمية اقتصادية زراعية سوى في إطار اقتصاد إنتاجي متمحور داخليا ومتحرر من التبعية للمدخلات الخارجية الإسرائيلية؛ أي اقتصاد مقاوم للاحتلال. وهذا ما نعنيه بالضبط، في السياق الفلسطيني، بالزراعة العضوية أو البيئية (أو البلدية) المتداخلة والمتنوعة والبيئية التي توفر الاحتياجات الغذائية الأساسية النظيفة للناس، بحيث نتحرر من رحمة الاقتصاد والسوق الإسرائيليين، وبالتالي نحقق السيادة الغذائية للناس، الأمر الذي يعد شكلا أساسيا من أشكال السيادة السياسية.
وخلاصة القول، البديل للسياسات والممارسات الاقتصادية-الزراعية والصناعية المهيمنة حاليا، والتي لا تعمل سوى على تعميق تبعيتنا وانعدام سيادتنا على غذائنا، يتمثل في اتباع استراتيجية إنتاجية تستند إلى مواردنا وتجاربنا وتقاليدنا الإنتاجية المحلية الغنية وتطويرها أولا، وإنتاجنا الغذاء بهدف استهلاكه محليا (وبخاصة مع التزايد السكاني المتواصل) ثانياً، وإعادة التدوير المحلي للرأسمال ثالثاً. وبالتأكيد، لا يمكن، من خلال الزراعة الكيميائية والممارسات المعادية للبيئة الفلسطينية، أن تتحقق مثل هذه الاستراتيجية الإنتاجية المقاومة.
هل توجد حاجة اقتصادية حقيقية للتصدير؟
من المفيد هنا أن نتذكر المبادرات الإنتاجية الشعبية في مطلع الانتفاضة الأولى (أواخر الثمانينيات)، والتي شكلت بوصلة البديل التنموي للاستغلال الاقتصادي القائم على قاعدة "من أعلى الى أسفل" والمدعوم بحراب الاحتلال. وهذه المبادرات تحديدا تشكل تناقضا مع المفهوم التنموي للبنك الدولي والمستند الى اقتصاد "السوق الحر" الذي يريد أن يجعل من الحياة الريفية الزراعية التقليدية في الضفة والقطاع أول ضحاياه. إذ كيف يمكن لمجتمع يرزح تحت الاحتلال الاستيطاني والعسكري منذ عقود طويلة وتتواصل ضده الضغوط الاقتصادية والسياسية الهائلة أن يقف فورا ودفعة واحدة في "اقتصاد السوق" ويواجه المنافسات "الحرة" التي لا ترحم؟ فالبطالة في الدول الغربية نفسها تعد من أهم النتاجات "الجانبية" المدمرة لاقتصاد "السوق الحرة"، في حين أن نتاجاتها في دول الجنوب تتجسد في الفقر والمجاعة والحروب القبلية والمحلية.
إذن عندما نتحدث عن الزراعات التصديرية، لا بد أن نسأل أنفسنا: على أية أرضية إنتاجية يجب أن تقف الزراعات التصديرية؟ ومن منظور السيادة على الغذاء: هل ثمة حاجة اقتصادية - تنموية حقيقية أصلا للتصدير؟ إن جزءا كبيرا من الاستهلاك المحلي للخضروات والفاكهة والحمضيات مصدره إسرائيل، وهذا يعني زيادة فائض الانتاج وتوجيه مزيد من الضربات للمنتجين المحليين، بل وإخراجهم أحيانا من السوق المحلية وإفقارهم بما يتناقض مع هدف تعزيز الأمن الإنتاجي الغذائي، وبخاصة أن حركة البضائع إلى الأسواق الخارجية تتحكم فيها إسرائيل تماما، وهي التي تقرر متى يُسمح للتصدير ومتى يُمنع.
وغالبا ما نسمع أن التسويق الزراعي هو المشكلة الأكبر. الحقيقة أن هذا ليس صحيحا، لأن الفائض الناتج (الانتاج/الاستهلاك) هو في بضعة محاصيل قليلة، بينما نعاني من نقص فادح في معظم احتياجاتنا الزراعية التي تشكل العمود الفقري لأمننا الإنتاجي الغذائي (وليس "الأمن الغذائي" بالمفهوم الإمبريالي)؛ فنستوردها من الاحتلال الإسرائيلي أو الخارج. ألسنا نستورد معظم المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب والقمح والأعلاف وغيرها كما لاحظنا للتو؟ فالمشكلة إذن تكمن في ماذا وكيف نزرع. فهل نزرع المحاصيل الأساسية والاستراتيجية بكميات محدودة؛ في وقت نزرع فيه بشكل غير مدروس بعض المحاصيل الأخرى بكميات ضخمة لا لزوم لها، وتصديرها غير مضمون أساسا؛ لأننا لا نتحكم أصلا بالمعابر والحدود وعمليات التصدير ذاتها.
كما أن الحيازات الزراعية الصغيرة أو ما يعرف بتفتت الملكية ليس بالمشكلة؛ إذ أنه في الزراعة المقاومة والمعتمدة على الذات، يفضل أصلا العودة إلى الحيازات الصغيرة. فمشكلتنا، إذن، تكمن في افتقارنا إلى سياسة إنتاجية وطنية تعتمد على مدخلات انتاج محلية، وتشجع الناس على العمل الزراعي وتنويع الانتاج الذي يلبي الاحتياجات المحلية بالدرجة الأولى. وعندئذ، سنتحرر من عقلية البحث عن الخلاص من الخارج.
وفي ظل وجودنا تحت احتلال استيطاني وعسكري اقتلاعي يمارس سياسات الحصار والتجويع بشكل منظم ومنهجي، فإن الأولوية هي لضمان تحقيق السيادة الفعلية على الغذاء لأوسع الشرائح الشعبية وليس لصالح شريحة تجارية هامشية من التجار والمصدرين والوكلاء. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تغطية احتياجاتنا الغذائية الأساسية والاستراتيجية من إنتاجنا المحلي المتحرر من التبعية لمدخلات الإنتاج الإسرائيلية التي يتحكم بها الاحتلال وشركاته. وهذا يتطلب تشجيع المزارعين على العودة إلى الزراعات البلدية والعضوية التي تتميز مدخلاتها بأنها محلية سواء على مستوى السماد البلدي المحلي أو السماد الأخضر أو الحيوانات أو الأيدي العاملة أو البذور البلدية غير الصناعية، أو العلاجات الزراعية الطبيعية والعضوية المشتقة من الموارد والنباتات المحلية. وهذا التوجه الإنتاجي الغذائي الاستراتيجي، يضمن بقاء وتدفق الثروة ورأس المال وتدويرهما داخل بلدنا، لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية التي يعيد المزارعون إنتاجها بأنفسهم محليا، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية. وهذا يعني الاعتماد على الذات وتحقيق السيادة الإنتاجية الوطنيةغذائيا. بمعنى، أن الاقتصاد الزراعي التصديري لا علاقة له بالاعتماد على الذات والتحرر من تحكم الاحتلال والأجنبي بعملية إطعام وتجويع الفلسطينيين.