خاص بآفاق البيئة والتنمية
لم يكن مسارنا صعباً، بل ممتعاً للغاية، خصوصاً أننا بدأناه باكرين مع انبلاج الفجر وشروق شمس الصباح، وقد بلغ عددنا 60 مشاركاً.
انطلقنا من المنارة في رام الله صوب قرى شمال غرب القدس، مروراً بحي الماسيون باتجاه بلدة رافات وبعدها بير نبالا، ثم انعطفت الحافلة نحو اليسار، باتجاه بلدة "بيت حنينا التحتا".
أقيم في رام الله منذ ثمانية وثلاثين عاماً؛ إلا أنها المرة الأولى التي أعرف فيها أن بيت حنينا عبارة عن شقين، أحدهما يخضع لإدارة السلطة الفلسطينية وهو أساس القرية، والآخر الحديث؛ الذي يخضع لإدارة الاحتلال وتحديداً بلدية القدس، حيث كنا نتوجه دائماً لمجمع النقابات المهنية في بيت حنينا الجديدة، سواء للتسجيل أم لحضور الأنشطة والندوات التي كانت تنظمها نقابة المهندسين، قبل أن تُغلق في وجوهنا، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في الثامن والعشرين من ديسمبر عام 2000.
نزلنا من الحافلة قرب بعض بيوت البلدة القديمة لبيت حنينا، ثم تقدّم دليلنا في المسار خليل داوود وكنيته "أبو الأمير" قائلاً: يبدأ مسارنا من هذا الشارع، قريباً من "وادي الدم" ثم الاتجاه غرباً حيث "وادي المنية" الواقع بين بلدتيّ بير نبالا والنبي صموئيل، وصولاً إلى أراضي الجيب، ومن ثم الصعود بين البيارات والمَزارع وصولاً إلى قرية الجيب القديمة أو ما تُسمى "مملكة جبعون" الكنعانية، وبعدها دعونا نجري جولة قصيرة في المناطق الأثرية فيها، ولنستقر في مكان مناسب لتناول وجبة الإفطار وعمل قلايات".
ويُخبرنا أبو الأمير عن قرية بيت حنينا: "تقع شمال غرب مدينة القدس المحتلة، لكن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي فصل بيت حنينا القديمة (التحتا) عن امتدادها الجديد باتجاه القدس، وعدد سكانها 1500 نسمة، ومع ذلك فإن لها بلدية، ورئيس بلديتها، الذي يسكن في "بيت حنينا الجديدة"، يحضر يومياً لأداء مهامه".
ويواصل حديثه: "على يسارنا نرى مستعمرة "راموت الون"، وأمامنا تقع فوق التلال بلدة بير نبالا، التي مررنا بها قبل وصولنا هنا، نحن نعتبر هذا المسار استكشافيًا ونمشي فيه بصحبتكم لأول مرة لإطالة المسافة، ورغم ذلك فان مسارنا لن يتجاوز سبع كيلومترات.
ويشير إلى أن جدار الفصل العنصري الذي أنشأه الاحتلال بعد انتفاضة الأقصى، قسَّم البلدة إلى قسمين "بيت حنينا" الحديثة داخل القدس، وبيت حنينا القديمة "التحتا" وهي نواة البلدة التي أخرجها الجدار عن المدينة، وتديرها السلطة الفلسطينية. ويحيط بها مجموعة من البلدات الفلسطينية مثل الرام، وبير نبالا، والنبي صموئيل، وبيت إكسا، وشعفاط، وحزما، وعناتا".
وتعود جذور البلدة إلى العصر الكنعاني، وبها آثار من حقب تاريخية مختلفة، ويبلغ إجمالي عدد سكانها في شقيّها نحو 27 ألف نسمة، غالبيتهم الساحقة داخل القدس، ونحو 1500 شخص في الجزء المعزول خارج المدينة.
ويعرب عن أسفه لأن مساحة أراضي البلدة تآكلت بسبب المصادرة والاستيطان، وقد عمد الاحتلال إلى إقامة مستعمرة "بيسغات زئيف" على أراضيها وأراضي الجيب.
وفي القرية التي اُشتهرت بالمشمش واللوزيات والزيتون، حالة غير معتادة من السكون تلّف البلدة في أجواء الريف الفلسطيني، وفي المقابل، يلاحظ المتجول في أزقتها العتيقة عراقة المباني.
سبب التسمية
يوحي اسم القرية بأنه بيت لشخص يسمى «حنينا»، ويقول علماء إن «حنينا» مشتق من الكلمة الآشورية «هان نينا» وهو ما يعني "الذي يستحق الحنان والشفقة"، ويمكن أيضًا أن تستمد من كلمة «هانا» بمعنى "المخيم".
بدأنا السير في طريق أسفلتية صعوداً، ومررنا ببعض المباني السكنية القديمة والمهجورة، في أجواء من الهدوء المطبق على البلدة، قبل شروق الشمس بقليل.
وسرنا نزولاً في اتجاه طريق ترابية، وعلى يسارنا "وادي المنية" الذي تلوثه مياه الصرف الصحي القادمة من مستعمرة بيسغات زئيف، وعلى اليمين أراضٍ جبلية جرداء إلا من "شجيرات النتش" المعمرة الشوكية، مررنا بأرض حرجية محمية بشبك معدني وبقربها أرض أخرى مزروعة بأشجار الزيتون، ومن ثم انعطفنا يساراً باتجاه الوادي.
 |
 |
ويا للأسف بدلاً من استنشاق الهواء النقي، زكمت أنوفنا من الروائح الكريهة القادمة من مستعمرة بيسغات زئيف. ولتجنب تلك الروائح، تسلّقنا أعلى الجبل قليلاً، ثم مشينا وسط أشجار الزيتون والتين، فتذوقنا ثمار التين بأنواعها المختلفة، وتابعنا المشي باتجاه بلدة قرية الجيب، فمررنا بمضارب البدو، قبل أن نصل إلى طريق ترابية وأشجار التين المزروعة على جانبيها. توقفنا لتذوق بعض التين، وتابعنا المسير حتى التقينا بالطريق الترابية التي مشينا فيها سابقاً بعد النزول من حرش النبي صموئيل الذي اجتثه سارقو الأخشاب لبيعه حطباً، فأصبح الجبل عارياً في الجزء التابع لأراضي السلطة الفلسطينية، بينما الحرش في الجزء الخاضع للاحتلال لا يزال يحافظ على جماله، تساءلت "أـين دور سلطة حماية البيئة؟ ولماذا يُدمر ما زرعه أجدادنا منذ زمن العثمانيين وفي زمن الاحتلال البريطاني؟
انعطفنا نحو اليمين وصعدنا إلى الجبل، لنرى إطلالة رائعة على سهول قريتي الجيب وبدو، كان المشهد لا يلوثه إلا مستعمرات الاحتلال، وتحديدًا مستعمرة النبي صموئيل.
تابعنا المسير بين المدافن الرومانية المنحوتة في الصخر، وعلى جنباتها أشجار الزيتون المثمر والرمان، فقطفنا بعض ثمارها اللذيذة.
بعدها، وصلنا إلى "عين الزهرة" التي تحوي نفقًا محفورًا في الصخر مع درج حجري ومقابض حديدية؛ بـ طول مئة متر تقريباً، ليصل إلى منطقة قلعة "مملكة جبعون" الكنعانية التي كان الأهالي يستخدمونها لجلب المياه في أثناء الحصار.
وصلنا إلى المكان الأثري الذي يحوي مركزه بِركة عظيمة محفورة في الصخر بارتفاع نحو 15 متراً، وبقُطر حوالي 20 متراً، محاطًا بحماية معدنية خوفاً من السقوط، ويتم الوصول لأسفله بواسطة 47 درجة محفورة في الصخر.
وعلى يمينه بئر دائرية تُستخدم مَعاصر للعنب، وفيها فتحات كثيرة اُستخدمت لصناعة النبيذ في تلك العصور، وكانت مزروعة سابقًا بأشجار العنب.
تحرّكنا متّجهين لقرية الجيب، وتحديدًا البلدة القديمة، التي شهدت ترميماً لعدد من مبانيها، لكن يد العبث والتخريب دمرت بعض تلك المباني.
أحد هذه المباني ما يزال يُستخدم عيادة صحية لخدمة أبناء البلدة، كما قال لنا دليلنا في الجيب، ربحي علان، الذي التقيناه في مسارنا.
أمام العيادة، قوس مدبب والساحة أمامه مسقوفة بمعرّش معدني، وأُضيف جدار حجري حديث بطريقة جميلة أضفت على المكان رونقاً، رغم وجود خزان المياه المغذّي للقرية، أُنشا من الخرسانة المسلحة، وشكله المعماري بعيد كل البعد عن العمارة التراثية، إذ كان بالإمكان بناؤه بطريقة هندسية لا تشذ عن نمط العمارة المجاورة، وبعض الرسومات أضيفت إلى جدرانه، ربما لإعطائه لمسة مختلفة.
وعلى يمين العيادة، يقع مبنى مسجد القرية القديم. صعدنا إلى سطح المبنى فوق الدرج الحجري، المشهد رائع ذو إطلالة خلابة.
سُقف المبنى، بعد وضع الدوامر "المواسير" المعدنية وسقفه بالخرسانة، وتثبيت جدرانه الحجرية وتبليط أرضيته، وعلى يسار هذا المبنى يوجد مقام ذو قبة خضراء.
بعد أن أنهينا الجولة، جلسنا لتناول وجبة الفطور التي تكونت من قلاية بندورة. الكل شارك بإحضار البندورة والفلفل الحار والثوم وزيت الزيتون، وتناولناها مع خبز الطابون، وكنا نستظل تحت أشجار الزيتون باستمتاع كامل بالمشهد والرفقة الطيبة، وأخيراً عدنا بعدها إلى رام الله.
عن بلدة الجيب
الجيب قرية فلسطينية تقع إلى الشمال الغربي من مدينة القدس، وتبعد عنها 10 كم، وترتفع عن سطح البحر حوالي 710م، وتنتصب القرية على موقع مدينة جبعون وتعني "تل"، وهي المدينة الرئيسة لقبيلة الحويين الكنعانية.
تبلغ مساحة أراضيها 8205 دونمات، ويحيط بها قرى النبي صموئيل، بيت إجزا، بير نبالا، بدو، والجديرة.
يُوجد في القرية مواقع أثرية، منها الغرف المحفورة في الصخر، وكنيسة ومدافن. وتوالت على سكناها كثير من الممالك والحضارات القديمة؛ وآثارها الظاهرة القديمة والمتعددة تدل على ذلك.
كما يوجد فيها "الجورة"، وهي بِركة الماء المحفورة في الصخر بدرجها الذاتي الصخري اللولبي، "47" درجة صخرية منحوتة بجانبها الدائري وقطرها "20" مترًا المؤدي إلى السرداب لحوالي خمس درجات صخرية، والنفق عرضه 1.5 متر يؤدي إلى قاع العين التي كانت تروي أهل القرية على مدى الأزمان، حتى وصول شبكة المياه عام 1980م، حيث صُمّمت الجورة لاحتكار مياه الشرب أوقات الحروب.
يعود تاريخ البلدة إلى (3300-3000 قبل الميلاد) أي يعود التواجد البشري والحضارة فيها إلى فترة زمنية ممتدة لنحو 5300 سنة.
وفي القرية مواقع أثرية كثيرة أهمها الكنيسة الرومانية، ومعاصر الزيت (البد)، والمقابر القديمة موقع التل "الفخار"، والجورة أو البركة الصخرية، وعيون المياه والينابيع، و"بير عزيز"- يقال إنها بئر العزيز)، والنواطيف والكهوف القديمة.