(مقال بحثي)
خاص بآفاق البيئة والتنمية
المفارقة أن الأنظمة الرأسمالية الغربية ذاتها التي قادت "الثورة الصناعية" الأوروبية في أواسط القرن الثامن عشر، والتي (أي الثورة الصناعية) يُعزى لها بداية زيادة الانبعاثات الكربونية والاحتباس الحراري، هي ذاتها التي استعمرت شعوب الجنوب (أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية) لضمان الاستيلاء على مواردها وأراضيها خدمة للرأسمال الغربي الصناعي وضمان "تطوره"، وتسبّبت في المجاعات واقترفت المذابح وعمليات الإبادة الجماعية، فشُحن أقنان وعبيد الجنوب إلى الموانئ الأوروبية واُستعبدوا، وبالتالي مراكمة الأرباح والفوائض المالية والمادية الضخمة من دماء وثروات وموارد الجنوب، فاُمتصت في كبرى المدن الأوروبية والأميركية، لازدهارها وتطورها. تلقين الغرب لشعوب الجنوب دروسًا في الأزمة المناخية والأخلاق وحقوق الإنسان والديمقراطية، نابع من امتلاكه عقلية استعمارية تتعامل مع شعوب الجنوب بغطرسة وغرور، باعتبار أن الأخيرة غير ناضجة عقليًا ونفسيًا وأخلاقيًا وسياسيًا، وبالتالي لا يحق لها ما يحق لدول الغرب الاستعماري. العدالة المناخية والتنمية المستدامة، كما العدالة الاجتماعية وسيادة الديمقراطية، لن تتحققا على يد الاحتكارات الملوثة والمدمرة للبيئة والمناخ، ولن تتحققا أيضًا على يد الحكومات والمؤسسات الراعية لمصالح الرأسمالية، بل تتحققا بمعركة تخوضها الشعوب المتضررة ذاتها. إن تغيير النظام الاقتصادي السائد الذي يمجّد النمط الحياتي الاستهلاكي هو المقدمة الحتمية لمواجهة جذرية ونوعية لأزمة المناخ العالمية.
|
|
العقلية الغربية الاستعمارية في التعامل مع شعوب الجنوب |
كثرت في السنوات الأخيرة المنظمات والمؤسسات الفلسطينية والعربية المهتمة بمفهوم العدالة المناخية. وغالبًا يتم التعاطي مع هذا المفهوم استنادًا إلى التعريفات السكولاستية التسطيحية، أي "التوزيع العادل في الأعباء والتکاليف المترتبة على أزمة المناخ بين الدول المتقدمة والصناعية والدول الفقيرة"، بحسب حجم ومسؤولية كل دولة في إنتاجها الحالي للانبعاثات الكربونية، وأيضًا مسؤوليتها التاريخية بهذا الخصوص.
وذلك انطلاقًا من أن المجتمعات الفقيرة والضعيفة والأقل مسؤولية عن الانبعاثات، تدفع الفاتورة الأكبر لأزمة تغير المناخ، من حيث معاناتها من الانعكاسات المناخية المُدمّرة، ما يعني تفاقم وتعمق عدم المساواة والظلم.
لكن، لو أردنا تجاوز التعريفات الغربية التقليدية لمفهوم العدالة المناخية، والغوص بعمق أكبر في المفهوم بأبعاده الاجتماعية والطبقية والاقتصادية والتاريخية، فهل يكفي الحديث عن الأعباء والتکاليف والمسؤوليات الحالية والتاريخية ومدى معاناة المجتمعات والشعوب المختلفة من الانعكاسات المناخية المدمرة؟
بداية لا بد من استحضار بعض الحقائق التاريخية والراهنة، التي تسبّبت إلى حد كبير في الأزمة المناخية الحالية، وتحديدًا كيفية نشوء الحضارة الغربية الحديثة.
فالمدن والمباني الغربية الجميلة، والمنشآت والصروح الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية "المبهرة" و"المتقدمة"، والصناعات والتكنولوجيات المعقدة والمتطورة، ما كان لها أن تكون لولا الاستعباد الأوروبي للشعوب المستعمرة في آسيا وأفريقيا والأميركيتين، ونهب مواردها.
وهنا يحضرني قول المفكر والناقد الثقافي الألماني "والتر بنيامين": "كل نصب تذكاري حضاري هو أيضًا نصب تذكاري للهمجية".
الدول الصناعية المتقدمة أصبحت غنية وراكمت ثرواتها الضخمة، بسبب استهلاكها الضخم للفحم والنفط والغاز، ونهبها للموارد الطبيعية في دول الجنوب الفقيرة، وبالتالي حرقها المتواصل والمتصاعد للوقود الأحفوري.
وبطبيعة الحال، تلك الدول لم تعوض الدول النامية عن الأضرار التي سببّتها في الماضي وستسبّبها في المستقبل نتيجة لذلك.
الدول الرأسمالية الغربية لا تزال تتعامل مع الشعوب التي استعمرتها في الماضي استعمارًا مباشرًا، بذات العقلية الاستعلائية الاستعمارية، وبخاصة بواسطة مؤسساتها الاقتصادية والمالية، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين اللذين عملا ويعملان على ربط "مساعداتهما" لدول الجنوب وإعادة جدولة ديونها بتنفيذها لخططهما وبرامجهما الاقتصادية "التقشفية" المشددة و"اللئيمة" المفروضة على شعوب فقيرة وضعيفة أصلًا تتحكم بها غالبًا أنظمة متواطئة لا تتقن سوى الإذعان لإجراءات تلك المؤسسات المالية، علمًا أن تلك الإجراءات والبرامج تتجاوز مجرد كونها "نصائح" أو "وصفات" لتشكل أوامر على "دول الجنوب المَدينة" تنفيذها تحت رقابة مشددة من جانب البنك والصندوق الدوليين. والأخيران، كما معظم المنظمات المالية الغربية، تستخدم الإقراض وجدولة الديون أو تخفيفها بهدف فرض سياسات محددة تكرّس التبعية الاقتصادية والسياسية للخارج.
الدول الرأسمالية الغربية تطاحنت فيما بينها في الحربين "العالميتين" الأولى والثانية، على حصصها في الهيمنة العالمية والسيطرة على الأسواق ونهب موارد "العالم الثالث".
وفي أعقاب الحرب "العالمية" الثانية، أنشأت الدول الرأسمالية المنتصرة الهياكل والمؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية، وبخاصة البنك وصندوق النقد الدوليين، استنادًا إلى اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، أداة تستخدمها لتثبيت وتكريس سيطرتها على أسواق وموارد "العالم الثالث" ودعم شركاتها الاحتكارية لغزو واكتساح أسواق دول الجنوب وإغراقها بسلعها المدعومة، وبالتالي تعميق مديونيتها الضخمة وتبعيتها المالية والاقتصادية والسياسية للغرب الاستعماري وتخليد عملية إفقارها.
ولتثبيت وتعميق آليات النهب والإفقار والإلحاق، أنشأت الدول الرأسمالية الغربية، في العقود التالية للحرب العالمية، العديد من المنظمات والمؤسسات المالية والاقتصادية، من قبيل منظمة التعاون والتنمية، وبنوك التنمية متعددة الأطراف، ومنظمة التجارة العالمية.
النظام المالي والاقتصادي العالمي صمّمته الدول الرأسمالية الغربية الغنية ليخدم مصالحها بالدرجة الأولى، ويثبت استفرادها وهيمنتها على الاقتصاديات العالمية، وبخاصة اقتصاديات وأسواق دول الجنوب.
معظم شعوب الجنوب تواجه، منذ عقود، عملية إعادة استعمارها باسم "التنمية الاقتصادية" المنشودة التي تتفنّن في صياغة أشكال النهب الذي تجسّد في العقود الأربعة الماضية في سلخ رأسمال صاف بقيمة تريليونات الدولارات سنويًا، من دول الجنوب إلى دول الشمال، كخدمة ديون وأموال مهربة إلى المصارف الغربية وأخرى "مجهولة" الأصل.
هذه المبالغ في مجملها أكثر بأضعاف من الأموال التي نهبها الاستعمار التقليدي المباشر من مستعمراته السابقة طيلة قرون.
الفقر العربي
مراكمة الأرباح والفوائض الضخمة من دماء وثروات الجنوب
المفارقة أن الأنظمة الرأسمالية الغربية ذاتها التي قادت "الثورة الصناعية" الأوروبية في أواسط القرن الثامن عشر، والتي (أي الثورة الصناعية) يُعزى لها بداية زيادة الانبعاثات الكربونية والاحتباس الحراري، هي ذاتها التي استعمرت شعوب الجنوب (أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية) لضمان الاستيلاء على مواردها وأراضيها خدمة للرأسمال الغربي الصناعي وضمان "تطوره"، وتسبّبت في المجاعات واقترفت المذابح وعمليات الإبادة الجماعية، فشُحن أقنان وعبيد الجنوب إلى الموانئ الأوروبية واُستعبدوا، وبالتالي مراكمة الأرباح والفوائض المالية والمادية الضخمة من دماء وثروات وموارد الجنوب، فاُمتصت في كبرى المدن الأوروبية والأميركية، لازدهارها وتطورها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في أقل من قرنين (1765-1938) سرقت بريطانيا 45 تريليون باوند إسترليني (نحو 56 تريليون دولار أميركي بأسعار اليوم) من الهند التي رزحت تحت استعمارها، ودمرت أراضيها الطبيعية، وحتمًا، لم تتقاضَ الهند أجرًا مقابل هذا النهب.
وعندما طُرِدَ الاستعمار البريطاني من الهند (عام 1947) كانت نسبة الأمية في الأخيرة 87%، وذلك بعد أن رزحت لمئات السنين تحت نير الاحتلال البريطاني، وبالتالي مئات السنين من عمر الحضارة الغربية الحديثة المزعومة.
وقد بلغ الصلف الغربي مبلغه في اتهام الهند بمواصلة استخراجها للفحم، وبالتالي مساهمتها في ضخ المزيد من الانبعاثات الكربونية، علمًا أن الاستعمار البريطاني هو من فرض بالقوة على الهند وغيرها من دول الجنوب استخراج الفحم والاعتماد عليه (لتغذية "ثورته الصناعية")، فأَرغموا الهنود والعديد من شعوب الجنوب بالاعتماد على الفحم؛ حيث لا يزال هذا القطاع يُشَغِّل (في دول الجنوب) عشرات ملايين العمال.
في إثر مغادرة الاستعمار الغربي دول الجنوب، واصل الغرب ويواصل ازدراءه لشعوب الجنوب، ويتجلى ذلك بأسطع أشكاله في استعلاء وعجرفة عديد من القيادات الغربية (جورج بوش الأب، جورج بوش الابن، دونالد ترامب، جو بايدن، إيمانويل ماكرون، بوريس جونسون وغيرهم).
فالغرب الاستعماري لم يكتف باحتقار شعوب الجنوب طيلة 400 سنة من استعمارها، بل يواصل الغطرسة والازدراء بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا، ذلك أن الاستعمار ليس شيئًا من الماضي، وبالتالي هُزِمَ إلى غير رجعة، بل هو، عند الأنظمة الرأسمالية الغربية، حالة دائمة تتجلى بطريقتين:
أولاً: العقلية الاستعمارية، حيث يُغرقون شعوب الجنوب بالدروس والمحاضرات بأنها مسؤولة عن جميع مشاكل التلوث البيئي، دون أن يعترفوا بأنهم هم المسؤولون أساسًا عن تدمير النظام البيئي الطبيعي والمناخي.
ورغم توقيع الاتفاقية الإطارية للتغيرات المناخية عام 1992 التي تحدثت عن المسؤوليات المشتركة والمتباينة للدول، إلا أن الدول الغربية "تعشق" الجزء المشترك في صيغة تلك الاتفاقية وتركز عليه، بمعنى أننا جميعًا نتشارك في هذه الأزمة.
لكن، الحقيقة أننا (شعوب الجنوب الفقيرة والمهمشة) والمجتمعات الغربية لسنا على حد سواء في الأزمة المناخية، فالولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، تمثل نحو 4% من سكان العالم وتستهلك 25% من الموارد العالمية.
المسألة الجوهرية هنا، أن الدول الغربية الصناعية الأقوى نقلت جزءًا كبيرًا من إنتاجها إلى الدول النامية؛ فمساهمة الصين على سبيل المثال في انبعاثات غازات الدفيئة والتي تعد أكبر من أوروبا وأميركا الشمالية معًا، غير ناتجة فقط عن استهلاك الصينيين تحديدًا.
الصين تنتج حاليًا أعلى نسبة عالمية من غازات الدفيئة، إلا أن نسبة كبيرة من هذه الانبعاثات يعود إلى حقيقة أن جميع الدول الصناعية "المتقدمة" صدّرت وتصدّر صناعاتها إلى الصين، ثم، مع ذلك، يتهمون الأخيرة بأنها الملوث الكربوني الأكبر.
والحقيقة أن الصين تنتج للدول الغربية جزءًا كبيرًا من فوائضها المالية ودولاراتها وآلياتها وماكناتها وبراغيها وهواتفها. فلو أَرجعت تلك الدول (إلى بلدانها) الإنتاج الصيني الضخم (المتراكم لصالحها ولصالح شركاتها العابرة للقارات)، فعندئذ ستتضخم الانبعاثات الكربونية في البلدان الغربية أضعاف مستوياتها الحالية.
جانب علمي هام تتجاهله عديد من الجهات الدولية والغربية، وهو أن تركيزها على مستوى الانبعاثات في الدول استنادًا إلى الانبعاثات الكلية القائمة على الإنتاج الكلي مضللة، إذ من البدهي أن الانبعاثات الكلية للصين (لنحو مليار ونصف المليار نسمة) أكبر من الولايات المتحدة الأميركية (332 مليون نسمة)؛ لذا، المقياس العلمي الأكثر دقة وموضوعية هو ذلك المعبّر عن مستوى الانبعاثات للفرد، وعندئذ سنجد أن الولايات المتحدة تنتج الانبعاثات الأعلى (حوالي 18 طن/فرد) ومن ثم الاتحاد الأوروبي (8 طن/فرد)، أما انبعاثات الصين فبلغت (6 طن/ فرد).
الأنكى من ذلك، يتهم الغرب جمهورية الصين الشعبية بأنها دولة توتاليتارية وديكتاتورية تنتهك حقوق الإنسان؛ فإذا كانت حقًا كذلك، لماذا لا تسحب منها استثماراتها وصناعاتها الضخمة؟ إنه النفاق الغربي بأوضح تجلياته.
إذن، تلقين الغرب لشعوب الجنوب دروسًا في الأزمة المناخية والأخلاق وحقوق الإنسان والديمقراطية، نابع من امتلاكه عقلية استعمارية تتعامل مع شعوب الجنوب بغطرسة وغرور، باعتبار أن الأخيرة غير ناضجة عقليًا ونفسيًا وأخلاقيًا وسياسيًا، وبالتالي لا يحق لها ما يحق لدول الغرب الاستعماري من حيث الاستقلال الاقتصادي والإنتاجي وامتلاك التكنولوجيا والتقنيات الالكترونية المتطورة والترسانات العسكرية، بما في ذلك النووية المدمرة؛ فهي من حق الدول الغربية العظمى فقط.
هذه العقلية لا تجيد سوى لغة التهديد والوعيد والعقوبات والحصار والتجويع ضد الشعوب والأنظمة السياسية "المتمردة" وغير الخانعة لإملاءات وأوامر الأنظمة الغربية الإمبريالية المهيمنة.
ثانيًا: الهياكل والمؤسسات التي أنشأتها الدول الرأسمالية والتي تحدثنا عنها سابقًا. هذه المؤسسات تُقرِض الأموال لدول الجنوب، باعتبارها "مساعدات" و"دعم" لاقتصاديات الجنوب المتهالكة، متجاهلة أن هذه الأموال هي أصلاً أموال الجنوب المتمثلة في الثروات والموارد الطبيعية المنهوبة من الجنوب، ورأس المال الصافي والفوائض المالية التي تُسلخ سنويًا من دول الجنوب إلى دول الشمال كخدمة ديون وأموال مهرّبة إلى المصارف الغربية، كما رأينا قبل قليل.
صندوق النقد الدولي يقول "بتبجح" لدول الجنوب "تفضلوا هذه القروض"، لكن، في الحقيقة، هذه أصلاً أموال الجنوب، وبالتالي فإن مؤسسات "بريتون وودز" تعيد عمليًا للجنوب جزءًا هزيلاً جدًا من أمواله، وبفوائد باهظة. بل، وبصلافة فوقية قلّ نظيرها، تُنظّر تلك المؤسسات لشعوب الجنوب المقهورة والجائعة كيف يجب أن تعيش وتتقشف، فالمشكلة إذن لا تقتصر على العقلية الاستعمارية، بل تمتد لهياكل ومنظمات ومؤسسات استعمارية أيضًا.
فائض قيمة العمل الذي يتمتع به أساسا الرأسمال
"لا أرجل" لحركة العدالة المناخية في المجتمعات الفقيرة والجائعة
يا للأسف، العديد من نشطاء حركة "العدالة المناخية" لا يدركون غالباً ما يرفعونه من شعارات البرجوازية الغربية، إذ يعبرّون عن قلقهم بشأن "مستقبلنا"، وبالتالي ضرورة "الحفاظ على مناخ آمِن للأجيال القادمة".
فأي "مستقبل" ذاك الذي يتحدثون عنه؟ إذ أن مئات ملايين الأطفال في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية ليس لديهم مستقبل أصلًا ولا حاضر، وهم بالتأكيد ليسوا قلقين بشأن مستقبلهم، بل حاضرهم.
القلق في بلدان الجنوب يجب أن يتركز أساسًا حول وضعها الراهن (الآن)، علمًا أن عدد الجوعى حاليًا، بلغ نحو المليار، أي حوالي 13% من سكان العالم، بل إن 2,7 مليار في العالم لا يجدون حاليًا طعامًا يوميًا يأكلوه. ورغم ذلك، عديد من نشطاء "العدالة المناخية" يَعِظون الناس بقولهم: "قلّلوا الاستهلاك".
ما معنى ذلك عند طفل جائع لم يأكل منذ أيام أو أسابيع؟ وما معنى ذلك عند الفلسطينيين بينما الحروب الإسرائيلية الهمجية تُشن ضدهم في غزة على سبيل المثال، مضافًا إلى ذلك سنين الحصار والتجويع والإذلال الطويلة "المستدامة" حتى يومنا هذا، تحت سمع وبصر منظرّي حقوق الإنسان والديمقراطية "والأمن الغذائي" في الغرب الاستعماري؟
وكلنا يذكّر التقارير الإسرائيلية الموثقّة التي كشفت عن إحصاء السلطات الصهيونية للسعرات الحرارية التي تسمح بدخولها الى القطاع للرجل والمرأة، بما يكفي لمجرد بقائهم على قيد الحياة فقط.
أليست عملية حصار وحشر وتجويع أكثر من مليوني فلسطيني في مساحة جغرافية صغيرة وكثيفة السكان، وقصفهم المكثف وتحويلهم إلى مختبر لفحص الأسلحة "المحرمة دوليًا"- أليست ممارسة إجرامية أبشع مما فعله النازيون في أوروبا، علمًا أن معسكرات الاعتقال النازية لم تُقْصَف من الجو والبر والبحر بهدف حرق وإبادة من فيها؟
المجاعة العالمية
وحش الجوع
اللافت أن وحش الجوع يبيد الناس، في الوقت الذي تزداد به الفوائض الغذائية في العالم بنسب كبيرة؛ تلك الفوائض التي وفقاً لمفهوم "الأمن الغذائي"، يفترض أن تُوزع على الجوعى، وبالتالي القضاء على ظاهرة الجوع.
وبالرغم من تأكيد منظمة "الفاو" أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعًا كبيرًا في الإنتاج العالمي لمحاصيل الحبوب الإستراتيجية، إلا أن المعروض العالمي من الحبوب قد انخفض وارتفعت الأسعار بعشرات في المائة.
هذا يشير إلى أن أزمات القمح العالمية الدورية ليست سوى أزمات مفتعلة يكمن سببها الأساسي في التنافس على سوق القمح العالمي بين أميركا (أكبر مصدّر عالمي للقمح) وأوروبا، وبالتالي التلاعب بفائض القمح المعروض عالميًا، والتحكم بغذاء "العالم الثالث".
إذن، تضخيم مسألة "انعدام الأمن الغذائي" والمجاعة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، هي في الواقع "لعبة الكبار"، وهدفها رفع أسعار الحبوب والمواد الغذائية الأساسية؛ علمًا أن فائض الحبوب والقمح في أوكرانيا (منذ ما قبل الحرب) اُستنزف مقابل شراء السلاح من دول الحلف الأطلسي (في الحرب الحالية)، وما قد يترتب على ذلك من خلق أزمات غذائية وربما تفاقم المجاعات (الموجودة أصلًا) في بعض البلدان الفقيرة.
الهدر الهائل لفوائض الأغذية، وبخاصة في دول الغرب الرأسمالي، يعني التخلص من الإنتاج الغذائي في مكبّات النفايات، هذه الفوائض تكفي لإطعام مئات الملايين من سكان الدول الفقيرة.
الدول الغربية ومؤسساتها المالية الدولية فرضت في عشرات السنين الأخيرة، ولا تزال تفرض على شعوب "العالم الثالث" زراعة محاصيل كمالية للتصدير لأوروبا وأميركا واليابان، بينما تفتقر غالبية هذه الشعوب للمحاصيل الغذائية الأساسية التي تحتاجها.
ويشير هذا التوجه الاقتصادي الغربي المفروض على "العالم الثالث" إلى أن الزراعة الأحادية الموجهة لما يسمى بالسوق العالمي قد أوصلت هذه الشعوب إلى درجة العجز عن إنتاج وتأمين الغذاء الأساسي لنفسها، فلم يبق أمامها سوى مواجهة مصيرها المحتوم: "المجاعة أو الفقر الغذائي (المعنى الحقيقي لـ "الأمن الغذائي").
بل إن الدولارات التي تكسبها الدول النامية من تصدير المحاصيل الأحادية تعود ثانية إلى الدول الصناعية المتقدمة، لأنها تُستخدم في نهاية المطاف، لشراء الحبوب من تلك الدول.
لذا، حركة العدالة المناخية لا ركائز لها في مجتمعات "العالم الثالث" والمجتمعات الفقيرة والجائعة، بل والبلدان العربية والإسلامية التي دمرّها الغرب الاستعماري وحلفه الأطلسي وعصاباته وميليشياته الظلامية والطائفية، وفتتها وفكّك بناها الاجتماعية والاقتصادية والإنتاجية والأمنية تحت ستار الشعارات الكاذبة، من قبيل "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" و"محاربة أسلحة الدمار الشامل" (فلننظر إلى ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن على سبيل المثال).
والمثير للاشمئزاز، أن دولًا إمبريالية مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تزعم أنها تقود التغيير في المجال المناخي، لكنها في ذات الوقت مصمّمة على مواصلة الحفريات واستخراج الوقود الأحفوري في أراضيها وفي الأراضي التي لا تزال تحتلها بالقوة العسكرية. فها هي القوات الأميركية المحتلة لشرق الفرات وشمال شرق سوريا، تسرق النفط والغاز والحبوب السورية في وضح النهار، وتبيعه في الأسواق السوداء.
وها هي الدول الإمبريالية ذاتها التي دمرت النظام المناخي، دمرت أيضًا دولًا عربية كاملة، تحت ستار الديمقراطية؛ فزرعوا فيها الفساد والطائفية الدموية، وحرموها من أبسط حقوق الإنسان الأساسية (المياه، والكهرباء، والصحة والتعليم)، كما حدث في العراق الذي يُعد من أغنى دول العالم نفطيًا.
ومع ذلك، ما فتئوا يتحدثون بوقاحة عن الديمقراطية. فحالياً، أصبح الفساد في العراق الأعلى عالميًا (مئات مليارات الدولارات سرقها أعوان الاحتلال الأميركي).
ما معنى العدالة المناخية بالنسبة لفقراء وجياع العالم؟
تفكيك المؤسسات والهياكل الرأسمالية المتحكمة بلقمة عيش المقهورين
الحقيقة التي تهمنا، على المستويين العربي والفلسطيني، أن مساهمة أغنياء الأقطار العربية وبخاصة الخليجية، وأنماط حياتهم الاستهلاكية الفاحشة، في تدمير النظام المناخي، في يوم واحد، أكثر من مساهمة مئات ملايين الفقراء العرب في خمس أو ست أو عشر سنوات.
علمًا أن الأغنياء العرب يشكلون شريحة صغيرة للغاية من إجمالي السكان في البلاد العربية، ولو أضفنا إلى تلك الشريحة النشاطات والصناعات العسكرية والمدنية الإسرائيلية الضخمة، فيمكننا حينئذ، تصور حجم التدمير المناخي الحاصل في منطقتنا العربية، بسبب النمط الاستهلاكي المريع للطُغمة الرأسمالية العربية من جهة، والنشاط العدواني العسكري والصناعي الإسرائيلي من جهة أخرى.
لو أجرينا مسحًا للانبعاثات الكربونية الناتجة عن الشرائح السكانية المختلفة، فسنجد عندئذ ما يمكن تسميته بانعدام المساواة الكربونية، على نحو صارخ، وبخاصة عند مقارنة استهلاك الشرائح الأكثر ثراء (لا تتجاوز 5% من إجمالي السكان) بسائر الشرائح الشعبية (الأغلبية الساحقة).
استنادًا إلى مساهمة الشرائح السكانية المختلفة في عملية التغير المناخي، يمكننا الحديث عن انعدام العدالة المناخية في منطقتنا وفي العالم إجمالاً.
غياب العدالة المناخية يتجسد بمدى انكشافنا لآثار التغير المناخي، وبطبيعة الحال الناس الذين يعيشون في البلدان الفقيرة أو غير المتقدمة والصحراوية أكثر تأثرًا ومعاناة من الارتفاعات المتطرفة في درجات الحرارة وشح المياه وارتفاع أسعار الغذاء، من الأغنياء الذين يعيشون في الدول الصناعية المتطورة.
الشرائح السكانية الغنية أو فاحشة الثراء التي كثيرًا ما تراكم ثراءها بطرق غير مشروعة وفاسدة، تعيش في دارات وقصور واسعة وفخمة، وتمتلك أساطيل من المركبات والطائرات الخاصة، وبالتالي تمارس نمطًا حياتيًا استهلاكيًا فاضحًا.
الانعدام الصارخ للمساواة الكربونية، إذا صحّ التعبير، هو أحد اشتقاقات النظام الاجتماعي الطبقي القائم الذي يتميز بانعدام المساواة الاجتماعية الاقتصادية، والتفاوت والاستقطاب الطبقيين الكبيرين المتجسدين بالأرباح الحقيقية الضخمة الناتجة عن ما يعرف في الاقتصاد السياسي بـ "فائض قيمة العمل" الذي يتمتع به أساسًا الرأسمال.
النظام الاجتماعي الطبقي القائم على أساس اقتصاد السوق، يشجع الناس عمومًا، والشرائح الطبقية الميسورة والثرية خصوصًا، على ممارسة أعلى قدر من الاستهلاك (كل فئة اجتماعية بقدر إمكانياتها المادية)، دون وضع أي عقبات في طريق الحياة الاستهلاكية، ودون فرض ضرائب على الكربون بما يتناسب مع قيم الاستهلاك.
في النظام النيوليبرالي، يعد الإفراط في الاستهلاك المثل الأعلى، ويتفق نمط استغلال واستنزاف الموارد العامة مع هذا النهج.
كما أن الخصخصة تعد مكونًا أساسيًا من مكونات اقتصاد السوق؛ فعندما تتم عملية نقل أو تمليك مورد طبيعي إلى أيدي القطاع الخاص الرأسمالي، ينتهي عندئذ أي احتمال لضبط فوضى الاستهلاك الفاحش وبالتالي الانبعاثات المنفلتة من أي ضوابط صارمة، لأن همّ القطاع الخاص الرأسمالي، منذ البداية، هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح المالية في أقصر فترة ممكنة، الأمر الذي يتعارض مع التفكير الإيكولوجي والرغبة في حماية الموارد. المنطق النيوليبرالي يركز على مراكمة أعلى كم ممكن من الأرباح المالية، أما الموارد العامة والطبيعية فإلى الجحيم.
في المحصلة النهائية، المشكلة الحقيقية هي سياسية، وذلك مهما كانت الأبحاث العلمية حول المناخ رائعة وشاملة وعميقة وذات مصداقية ومقنعة.
إذ لا تكفي المعرفة في علوم المناخ والهندسة والتكنولوجيا والفيزياء، بل يجب معرفة كيفية مواجهة الهياكل الاقتصادية السياسية والاجتماعية الطبقية الجامدة التي تتحكم بها المصالح الرأسمالية الذاتية الأنانية الضيقة.
لذا، فإن تكرار مؤتمرات المناخ العالمية، منذ عام 1995 وحتى يومنا هذا لا معنى له، ذلك أن سلطة الشركات الاحتكارية العالمية الضخمة تمنع إحداث أي تغيير حقيقي؛ كما أن الصناعات الملوِّثة القوية القديمة والأشخاص المنتفعين من تلك الصناعات الذين يراكمون ثروات مالية خيالية على حساب وجود ومستقبل البشرية، تمنع التغيير.
مؤتمرات المناخ لم تسهم في بلورة تعهد غربي بكسر احتكار المعرفة العلمية والتقنية الخاصة بإنتاج السلع البيئية، وبالتالي التعهد المُلزم قانونيًا بتقديم المعلومات عن التكنولوجيا النظيفة؛ بما يفضي إلى تحقيق الحد الأدنى من العدالة والمساواة في حرية الوصول إلى الطاقات المتجددة، بمشاريع مجدية إيكولوجيًا ومستدامة اقتصاديًا وبيئيًا على الأرض.
الأزمة المناخية والإيكولوجية، كشأن سائر الأزمات، لن يدفع ثمنها الرأسماليون وطبقة الأغنياء، ولن تجد حلها على يد رؤساء الحكومات وأصحاب الشركات الاحتكارية وخبراء مراكز الدراسات الدولية، بل سيدفع ثمنها بالدرجة الأولى شعوب الأرض المقهورة والمعذبة.
العدالة المناخية والتنمية المستدامة، كما العدالة الاجتماعية وسيادة الديمقراطية، لن تتحققا على يد الاحتكارات الملوثة والمدمرة للبيئة والمناخ، ولن تتحققا أيضًا على يد الحكومات والمؤسسات الراعية لمصالح الرأسمالية، بل تتحققا بمعركة تخوضها الشعوب المتضررة ذاتها.
إن تغيير النظام الاقتصادي السائد الذي يمجد النمط الحياتي الاستهلاكي هو المقدمة الحتمية لمواجهة جذرية ونوعية لأزمة المناخ العالمية.
خلاصة القول، لا خيار أمام الشرائح الشعبية وحركاتها الاجتماعية وقواها الديمقراطية المكافحة، سوى الاتحاد في جبهة موحدة لإنهاء هيمنة اقتصاد السوق، والحد من تسلط وديكتاتورية المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، واستبدال السياسات التنموية القائمة على الزيادة المتواصلة لمعدلات النمو الذي يؤدي إلى تعميق استغلال العمال والمزارعين واستنزاف الطبيعة، واستبدال ذلك بنظام اقتصادي جديد عادل عماده تلبية الاحتياجات الأساسية للناس واحترام التوازنات الطبيعية والأنظمة الإيكولوجية، وتأمين شروط الحياة الكريمة المستدامة.
الموقع الطبيعي للدول النامية والفقيرة هو خارج المنظمات والهياكل التي تعيد إنتاج استعمارها؛ إلا أن غالبية هذه الدول تابعة للغرب، وبالتالي تفتقر إلى القرار السياسي الاقتصادي المستقل.
المطلوب تفكيك مؤسسات "بريتون وودز" وسائر الهياكل والمنظمات الرأسمالية المتحكمة بلقمة عيش الشعوب الفقيرة المقهورة والمستضعفة، علمًا أن الفساد ينخر مؤسسات النظام الدولي الشكلية السائدة التي تهيمن عليها وتتحكم بها تحكمًا أساسيًا الولايات المتحدة الأميركية، والتي (أي مؤسسات النظام الدولي) ما فتئت تتشدق زورًا وبهتانًا بحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة والقانون الدولي ومساعدة المهمشين والفقراء، فالمنتفع الأساسي من وجودها ثلة من الموظفين الكبار ذوي الرواتب والامتيازات المتضخمة.