النساء في الأرياف التونسية المُهمَّشة يُحرمن من مصدر رزقهن الوحيد بسبب تغير المناخ

عين دراهم/ آفاق البيئة والتنمية: تراقب مبروكة على هضبة بين جبال منطقة الشمال الغربي التونسي بتحسر عاملاتها يجمعن الأعشاب البرية التي تُستعمل زيوتها لأغراض طبية وعطرية، وبالكاد امتلأت سلالهن إلى الثُلُث بعد انحباس الأمطار وارتفاع درجات الحرارة بسبب تغير المناخ.
في مدخل قرية التباينية من منطقة عين دراهم في أقصى الشمال الغربي التونسي، وفي سهل عميق تلفح أشعة الشمس الصباحية قطرات الندى الملتصقة بأعشاب نبتة القضوم (المستكة)، بينما تقطفها أنامل نحو عشر نساء انتشرن في المكان بسلالهن شبه الفارغة يحاولن جمع ما أمكن من الأعشاب الطبية والعطرية البرية من الغابات الممتدة لتقطيرها وبيع زيوتها.
تقول مبروكة العثيمني (62 عاماً): "شتّان بين ما كان عليه الوضع وما أصبحنا نعيشه، بالكاد نحصّل نصف الدخل وأحياناً الثُلُث".
تدير العثيمني منذ أكثر من عشرين عاماً مُجَمَّع "البَرَكة" الذي يُشغِّل 51 امرأة في منطقة التباينية في أقصى أرياف تونس المُهمَّشة، يقمن بجمع وتقطير الأعشاب البرية وبيع زيوتها في بلد ينتج نحو 10 آلاف طن سنوياً من هذه الأعشاب. وتُشَكِّل نبتة إكليل الجبل (حصى البان) أكثر من 40% من الزيوت التي تُصدّرها البلاد إلى الأسواق الفرنسية والأميركية، بحسب احصاءات وزارة الزراعة.
والعاملات هنّ السند الأول لعائلاتهن في منطقة الشمال الغربي حيث تصل نسبة الفقر إلى 25.8% (مقابل المعدل الوطني 15.3%) وفقاً لإحصاء رسمي جرى عام 2020.
وتقول العثيمني "هناك أمراض تظهر بحكم التغيرات المناخية بالإضافة لارتفاع درجات الحرارة"، ولذلك أصبحت النباتات "تُدِرّ زيتاً قليلاً".
وتجمع النساء أعشاباً من أنواع مختلفة من الريحان وإكليل الجبل والقضوم طيلة فصول العام، غير ان "ينابيع المياه في الجبل قلت ونضبت والثلوج التي كانت تغذيها لم تعد تنزل بالكمية الكافية" بحسب العثيمني. وتشهد تونس موجة جفاف للسنة السادسة على التوالي. وبسبب نقص الموارد المائية المتأتية أساسا من الأمطار تراجعت نسبة امتلاء الـ36 سدّا المتمركزة غالبيتها في محافظات الشمال الغربي إلى 20% من سعتها، وهي نسبة لم تشهدها البلاد منذ عقود.
الجفاف يُذبِل الأعشاب البرية المنتجة للزيوت الطبية والعطرية
فضلاً عن ذلك، وخلال السنوات الأخيرة، واصلت معدلات الحرارة ارتفاعها خلال الصيف وتجاوزت الخمسين درجة مئوية في بعض المناطق.
ونتيجة لذلك، تَتَسبب التغيرات المناخية في خسارة الاقتصاد التونسي 2.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق إحصاءات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي "UNDP".
وتصطحب منجية السوداني (58 عاماً) ابنتها العشرينية معها خلال عمليات التقطير داخل المُجَمَّع. وتؤكد هذه الأم لثلاثة أبناء التي تعتمد على دخلها الوحيد من عملها الذي تمارسه منذ خمس سنوات لتوفير مستلزمات عائلتها "كنا خلال السنوات السابقة نجمع ما بين 3 و4 أكياس كبيرة من أوراق النباتات، وهذه الأيام لم نعد نُحَصِّل كيساً واحداً وتغير المناخ هو السبب".
وتمثل النساء في سنّ العمل نصف السكان في تونس البالغ عددهم حوالى 12 مليون نسمة، إلا أن 27.9% فقط منهن ناشطات اقتصادياً، كما أن نسبة البطالة بين هؤلاء الناشطات 21.3% وغالبا ماً يشغلن وظائف هشة، ما يجعلهن أكثر عرضة للأزمات الاقتصادية والمناخية، وفق تقارير أممية.
وحوالى 70% من القوة العاملة في قطاع الزراعة من النساء، ويواجهن التداعيات المباشرة للتغير المناخي، لا سيما "في ظل هشاشة أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية التي تعيق تمكينهن من الوصول إلى فرص اقتصادية بديلة"، بحسب الأمم المتحدة. ويستفيد المُجَمَّع النسائي الريفي لاستخراج زيوت الأعشاب من تدريب تقدمه منظمات دولية مثل "منظمة الأغذية والزراعة (فاو)" التابعة للأمم المتحدة، لمساعدتهنّ على الحفاظ على الثروة الحرجية أمام تزايد تهديدات تغيرات المناخ. لكن وبالرغم من ذلك، فإن الوضع بالنسبة لمبروكة ساء لدرجة تجعلها تقول "لم يَعُد بإستطاعتي تجهيز طلبيات العملاء من خلال جمع الكميّات المطلوبة، وأضطر تبعاً لذلك لرفض بعض الطلبيات لأن النبات قلّ"، ما يؤثر مباشرة على دخل المُجَمَّع. وتضيف منجية بينما تملأ خزان آلة التقطير "كنا نجمع بمعدل 4 كيلوغرامات من نبتة الضرو، وأصبحت الكمية لا تتجاوز 1.5 كيلوغرام…ما يؤثر على مدخول العائلة" و"بطبيعة الحال عندما ينقص المنتوج ينقص الدخل".
وتكشف دراسة نشرها "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" في أيلول/ سبتمبر الفائت أن الأضرار التي لحقت بالغابات نتيجة التغيّر المناخي تؤثر بشكل كبير على سكانها الذين يعتمدون على مواردها لكسب رزقهم، و"تعاني النساء بشكل خاص من التأثيرات حيث اصبحت الانشطة التي يمارسنها أكثر صعوبة ومشقة".
تغطي الغابات في تونس مساحة تقدر بـ1.25 مليون هكتار، وتوجد 10% منها في شمال غرب البلاد وخصوصاً في محافظة جندوبة حيث يمتد الغطاء الحرجي على حوالى 40% من مساحتها.
وما يزيد من حراجة وضع المعتمدين عليها لكسب رزقهم أن حرائق الغابات في هذه المناطق الحدودية مع الجزائر أمر شائع، وقد أتت النيران خلال صيف العام 2023 على مساحة 1120 هكتاراً في منطقة ملولة المتاخمة للتباينية.
لم يعد أمام نساء المُجَمَّع من بدٍ سوى اللجوء لحلول بديلة لتنويع أنشطتهنّ والتخلص تدريجياً من اعتمادهن الكلي على موارد الغابات، وبتن "مضطرات للبحث عن حلول بديلة لأن الموارد الطبيعية لوحدها لم تعد كافية لكي يحصلن رزقهن"، بحسب الباحثة في مجال العدالة البيئية والمناخية في المنتدى إيناس الأبيض.
المصدر: AFP