عشرة آلاف مستعمر في الأغوار يتمتعون بنحو ثلث كمية المياه المتاحة لنحو 2.5 مليون فلسطيني
أرض زراعية فلسطينية في الأغوار نهبها المستعمرون وعملوا على تأجيرها لفلسطينيين- تصوير ألكس ليبك
خاص بآفاق البيئة والتنمية
ظاهرة احتلالية غريبة ومدهشة: مستعمرو الأغوار الفلسطينية المحتلة "يؤجرون" لبعض فلسطينيي الأغوار والداخل قطعا من الأراضي التي احتلها ونهبها أولئك المستعمرون! والأغرب من ذلك أن كلا الطرفين (الفلسطيني والصهيوني) يفضلان إبقاء الأمر سرا! بل إن جهات إسرائيلية رسمية تزعم بأن لا علم لديها بهذه الظاهرة! آفاق البيئة والتنمية تحققت من هذه الظاهرة التي كتبت عنها مؤخرا الصحافية الإسرائيلية "عميرة هس" في جريدة "هآرتس" (2/8/2013) وتبين لها بأنها قائمة بالفعل؛ إذ أن بعض فلسطينيي الأغوار "يستأجر" الأراضي من سارقيها (المستعمرين) بذريعة شح الأراضي والمياه اللازمة للزراعة، والذي تسبب به الاحتلال في الأغوار، وبسبب القيود الإسرائيلية الصارمة المفروضة على تسويق المحاصيل الفلسطينية. والحقيقة أن مستعمري الأغوار "يؤجرون" للفلسطينيين الأراضي لأن عددهم القليل جدا هناك لا يتناسب ومساحات الأراضي الهائلة التي استولت عليها دولة الاحتلال عام 1967 ووزعتها عليهم مجانا؛ علما أن الاحتلال الإسرائيلي، منذ عام 1967 حتى اليوم، استولى (بوسائل مختلفة) على احتياطي الأراضي الطبيعي الكبير للفلسطينيين في الأغوار (سواء للزراعة أو الرعي)، وتحديدا نحو 1,250,000 دونم، أي أكثر من 77% من أراضي الأغوار التي يبلغ مساحتها 1,612,000 دونم (28% من مساحة الضفة الغربية). ويقطن الأغوار نحو 80 ألف فلسطيني، منهم نحو 15 ألف بدوي. ويتوزع الفلسطينيون على 29 قرية ومدينة (أريحا) إضافة إلى عشرات التجمعات السكانية البدوية.
الفلسطينيون الذين "استأجروا" هذه الأراضي محرجون، بل خائفون من افتضاح أمرهم، لأن الأراضي التي "استأجروها" من المستعمرين لفلاحتها عبارة عن أراض صادرها الاحتلال الإسرائيلي من أصحابها الفلسطينيين الأصليين و"منحها" لمستعمري الأغوار!
بعض فلسطينيي الأغوار الذين "استأجروا" الأراضي من المستعمرين حاولوا إخفاء حقيقة استئجارهم للأراضي، وادعوا بأنهم أجراء لدى المستعمرين الذين يسيطرون على تلك الأراضي. بينما قال آخرون بأن المسألة عبارة عن عملية "ضمان" (كفالة) للأراضي، وهي قائمة منذ أواسط التسعينيات حينما فرض الاحتلال نظام التصاريح على حركة الفلسطينيين، وبالتالي فرض قيودا على تحركاتهم؛ إلا أن الظاهرة تفاقمت منذ عام 2000 حينما أُغْلِقَ سوق العمل الإسرائيلي أمام معظم فلسطينيي الضفة الغربية. وتتراوح مساحات الأراضي التي "يستأجرها" الفلسطينيون في الأغوار (من المستعمرين) بين بضعة دونمات إلى مئات الدونمات. يضاف إلى ذلك أن بعض فلسطينيي 48 واليهود الإسرائيليين ضالعون أيضا في "استئجار" الأراضي، حيث يعمدون إلى تشغيل فلسطينيي الأغوار في تلك الأراضي. بل وأحيانا، فإن الفلسطيني من الأرض المحتلة عام 1948 يوقع فقط على الوثائق، بينما أقرباء الأخير من فلسطينيي الأغوار هم الذين يدفعون فعليا ويفلحون الأرض. وفي بعض الحالات التي تكون فيها مساحة الأرض "المؤجرة" صغيرة تتم الصفقة دون توقيع على أي وثيقة. وفي حالات قليلة أخرى، يوجد شراكة بين المستعمر اليهودي والفلسطيني القاطن في الأغوار!
"ازدهار" زراعي صهيوني
الباحث الإسرائيلي "درور إتكس" الذي أعد بحثا حول "الزراعة الإسرائيلية في الأغوار" يقول بأنه تمكن من تحديد 6 آلاف دونم في الأغوار "أجرها" المستعمرون للفلسطينيين أو لوسطائهم؛ ولكنه يقدر بأن الظاهرة أكبر من ذلك. وبحسب "إتكس" فإن الأرض "المؤجرة" تقع، أحيانا كثيرة، بعيدا عن المستعمرة التي تهيمن عليها؛ ما يشجع المستعمرين على "تأجير" الأرض للفلسطينيين. وفي جميع الحالات، يتم وسم منتجات الأراضي "المستأجرة" باعتبارها "إسرائيلية"، وبالتالي فإن "المستأجرين" الفلسطينيين غير ملزمين بنقل سلعهم إلى السوق الإسرائيلي عبر الحواجز الإسرائيلية، كما هو حال المنتجات الفلسطينية بشكل عام. وبالنسبة "للمستأجرين" يكمن في هذه العملية توفيرُ كبير في التكلفة. ومع ذلك، فكثيرا ما لا يربح الفلسطينيون سوى ربحا هامشيا، بل وقد يخسرون أحيانا، بسبب المنافسة القوية من قبل المزارعين الإسرائيليين الذين يحظون بالدعم الوفير وبالميكنة المتقدمة. واللافت أن المستعمرين الصهاينة حققوا خلال العقد الأخير "ازدهارا" زراعيا كبيرا في الأغوار، وذلك على مساحة نحو 69 ألف دونم زرعها مستعمرو الأغوار (بحسب الباحث الإسرائيلي "إتكس")، أي أقل بكثير من مساحات الأراضي التي تسيطر عليها مستعمرات الأغوار بشكل مباشر، والتي تبلغ 821 ألف دونم (أي نحو 51% من إجمالي مساحة الأغوار).
ويقول "إتكس" إن "المستأجرين" الفلسطينيين يدفعون للمستعمرين أربعين شيقلاً للدونم الواحد سنويا في حال الزراعة البعلية الموسمية، ونحو 300 شيقل للدونم الواحد في المناطق الغورية التي تحوي شبكة مياه. ويدفع الفلسطينيون للمستعمرين ثمن المياه على حدة؛ إذ تبلغ تكلفة المتر المكعب الواحد حوالي ثلاثة شواقل. ويتضمن ثمن المياه الذي يدفعه الفلسطيني للمستعمِر ربحا غير قليل، لأن الأخير يدفع مبلغا أقل من ذلك ثمن المياه التي يستهلكها الفلسطيني (بإسم المستعمِر). وفي المتوسط، يدفع مستعمرو الأغوار 2.1 شيقلا لكل متر مكعب من المياه، ويبلغ سقف المياه للمستعمر 42 ألف متر مكعب لكل مزرعة مساحتها 35 دونماً. وفي عام 2011، أعلنت وزارة الزراعة الإسرائيلية بأنها تنوي زيادة المساحة المخصصة للأسرة الاستعمارية في الأغوار من 35 دونماً إلى 80 دونماً؛ وكذا أيضا رفع سقف المياه إلى 51 ألف متر مكعب. ورغم "الازدهار" الزراعي الاستعماري الذي تحقق في الأغوار خلال السنوات العشر الأخيرة، فقد فشل الاحتلال في جذب أعداد كبيرة من المستعمرين إلى الأغوار.
غطاء فلسطيني "رسمي" للنهب الإسرائيلي
وتعد منطقة الأغوار غنية بالموارد المائية الطبيعية. إلا أن اتفاقيات أوسلو ثبتّت وكرّست الهيمنة الإسرائيلية المطلقة على مصادر المياه في الضفة الغربية، إذ أقرت تلك الاتفاقيات للاحتلال تحكمه الكامل بسقف المياه "المسموح" للفلسطينيين؛ فهو يرفض مطلقا ليس فقط "السماح" للفلسطينيين بحفر آبار مياه جديدة، بل يرفض أيضا "منح" تصاريح لترميم الآبار المتهالكة. والجدير بالتنويه، أن معظم الحفريات الإسرائيلية لآبار المياه في الضفة الغربية، أي نحو 69% منها، تتم في الأغوار الفلسطينية. المياه المستخرجة من تلك الآبار تنقل بالكامل إلى مستعمرات الأغوار، وينقل الجزء الهامشي من تلك المياه إلى بعض القرى الفلسطينية في الأغوار الشمالية والوسطى، والتي تسببت الحفريات الإسرائيلية في جفاف كامل لآبارها، وبالتالي تشتري تلك القرى من شركة "مكوروت" الاستعمارية سقفا منخفضا من المياه، يواصل ارتفاعه بالهبوط سنويا.
وبحسب تقرير منظمة "بيتسيلم" الإسرائيلية لعام 2011، خصص الاحتلال لنحو عشرة آلاف مستعمر في مستعمرات الأغوار وشمال البحر الميت 44.8 مليون متر مكعب من المياه، خصص 97.5% منها (أي 43.7 مليون متر مكعب) للزراعة. 70% من تلك المياه مصدرها حفريات شركة "مكوروت"، والباقي من مصادر المياه السطحية؛ أي من جمع مياه الأمطار والمجاري المائية والمياه العادمة المعالجة.
وفي المقابل، تفيد معطيات سلطة المياه الفلسطينية، بأن كمية المياه المتاحة لسكان الضفة الغربية (أي حوالي 2.5 مليون نسمة) تقدر بنحو 150 مليون متر مكعب لجميع الاستعمالات، أي للاستهلاك المنزلي والصناعي والزراعي. أي أن حوالي عشرة آلاف مستعمر يتمتعون بنحو ثلث كمية المياه المتاحة لنحو 2.5 مليون نسمة.
السؤال الوجيه هو: كيف ارتضت جماعة أوسلو الفلسطينية، وبإسم "الشرعية"، أن تشكل غطاء "رسميا" لترسيخ هذا النهب الإسرائيلي المريع للمياه الفلسطينية؟! وهل يحق لها أن "تلوم" أو "تُخَوِّن" المزارعين الفلسطينيين الذين "يستأجرون" الأراضي المسروقة و"يشترون" المياه المنهوبة من المستعمرين؟