خاص بآفاق البيئة والتنمية
مفهوم الزراعة يعني لدى معظمنا خيرات الأرض، كالخضراوات والفواكه بمختلف أنواعها. وإذا تأملنا في المصطلح أكثر وما تعنيه لنا الزراعة فإننا نستذكر مواسم السنة الأربعة والأصناف الخاصة بكل موسم، وحاجتها إلى عوامل مختلفة تدعم نموها باختلاف الموسم كالمياه والشمس والرطوبة والعديد من العوامل الأخرى. لكن ثمة أمر جوهري يرتبط بالزراعة، يخفى على أولئك الذين لم تطأ أرجلهم التربة قط ولم تمتزج أيديهم بها سواء بقصد الزراعة أم الحصاد أم لمجرد الجلوس بأقدامنا العارية على هذه الأرض كما خلقها الله من دون أي حواجز بيننا وبينها. هذا المقال يناقش أهمية الحدائق والطبيعة لصحة الإنسان، إذ يعالج العديد من الأعراض المرضية، ويبين لنا آثار الجماليات البيئية على مجموعة من الناس الرازحين تحت ضغط نفسي كبير.
|
ماذا يتوارد إلى ذهننا عندما نسمع بالزراعة والبستنة؟
حين يسمع معظمنا بمصطلح الزراعة، سرعان ما يخطر ببالنا الطعام الذي نأكله من خيرات الأرض، كالخضراوات والفواكه بمختلف أنواعها، وإذا تأملَّنا في المصطلح أكثر وما تعنيه لنا الزراعة نستذكر مواسم السنة الأربعة والأصناف الخاصة بكل موسم، وحاجتها إلى عوامل مختلفة تدعم نموها باختلاف الموسم كالمياه والشمس والرطوبة والعديد من العوامل الأخرى.
ولا ننسى أيضاً فلاحي هذه الأرض الذين يعملون بشكل متواصل على مدار السنة ومعرفتهم الخاصة والمميزة بها التي لا يتسنى للجميع التعمق بها والشعور بعظمتها.
هذا بشكلٍ عام، ما يتوارد إلى فكر معظم الناس عند ذكر الزراعة، لكن ثمة أمر جوهري يرتبط بها، يخفى على أولئك الذين لم تطأ أرجلهم التربة قط ولم تمتزج أيديهم بها سواء بقصد الزراعة أم الحصاد أم لمجرد الجلوس بأقدامنا العارية على هذه الأرض كما خلقها الله من دون أي حواجز بيننا وبينها.
قد يستغرب بعضٌ مما سيقرأه في هذه المقالة، وأرجو أن تكون المعلومات التالية مجرد تذكير لنا جميعاً بإنسانيتنا وأننا خلقنا من هذه الأرض، وهذا ليس بمحض الصدفة، فكلما ابتعدنا عن الأرض، ابتعدنا عن جوهر خلقنا وأخذنا النسيان بعيداً عن أهمية كسر الحواجز التي بدأ يبني فيها الإنسان منذ عصر التكنولوجيا لينسى أصله ويعيش حياة سريعة لا يكاد يتذكر فيها نفسه.
بدايات الوعي لأهمية الطبيعة العلاجية
من أوائل الأشخاص الذين اعتقدوا بأهمية الحدائق والطبيعة لصحة الإنسان هو عالم النفس البيئي روجر ألريخ، الذي درس آثار الجماليات البيئية على مجموعة من الناس الذين يقعون تحت ضغط نفسي كبير، فكانت عينة دراسته مجموعة من المرضى في مستشفى وكان هذا في أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
كانت دراسته من أولى الدراسات العلمية البحتة التي تندرج تحت هذا الموضوع، وشملت مجموعتين من المرضى الذين أجروا عمليات جراحية للمرارة.
المجموعة الأولى وُضع أفرادها في فترة تعافيهم في سرير ملاصق لشباك يُطل على أشجار خضراء وطبيعة، والمجموعة الثانية وُضع أفرادها في سرير ملاصق لشباك يطل على حائط إسمنتي.
نتيجة الدراسة خلاصتها أن المجموعة الأولى كانت فترة تعافيها أسرع من الثانية، وكانت مضاعفات العملية عليهم أقل تأثيرا، إضافة إلى أنهم كانوا بحاجة إلى جرعات أقل من الدواء المخدر للألم بعد العملية.
وكان انطباع الممرضين والأطباء بالنسبة لتعامل المرضى من المجموعة الأولى معهم بعد العملية إيجابي، إذ كانوا في مزاج جيد، أما المجموعة الثانية تعاملت بصورة سلبية وكانوا في مزاج سيء، ويحتاجون إلى التشجيع المتواصل من أجل اجتياز هذه المرحلة.
لقد أصبح الوعي أخيراً بأهمية المساحات الخضراء والزراعة والعمل في الأرض أكبر من ذي قبل، وبالأخص في المؤسسات الصحية، ذلك أن تعريض المرضى لتأثيرات البيئة الإيجابية يساعد في تسريع فترة علاجهم، وبالتالي هذا يعني فترة إقامة أقل في المستشفيات وبالتالي يخفف الكثير من الأعباء المادية عليهم.
ليس ذلك فحسب، بل في كثير من الأحيان فإن الأعراض الجانبية التي تُحدثها الأدوية التي توصف للمرضى تجعل تناولها موضع تردد لكثير من الناس، بالأخص أن الكثير منها لا يعالج كليًا أو بالأحرى أنه لا يعالج المشكلة من جذورها.

في دراسة أميركية حديثة، كان أساسها مشكلة متفاقمة في الولايات المتحدة الأمريكية ألا وهي تزايد نسب الأمراض المزمنة لدى السكان مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري والسمنة المفرطة، إضافة إلى الاضطرابات المزاجية كالاكتئاب، وقد خلصت إلى وجود نسب عالية لدى البالغين من الاكتئاب والسمنة والسكري، لكن ما هو أسوأ من ذلك هو تضاعف نسبة الأطفال المتأثرين بهذه الأمراض في وقتنا الحالي مقارنة بتسعينيات القرن الماضي.
وعندما نفكر في سبب هذه النسب الكبيرة، سنجد أن طبيعة الحياة في عصرنا هذا تختلف كثيراً عن طبيعة الحياة في العصر السابق، إذ تشير الأرقام إلى أن متوسط الوقت الذي يقضيه الأطفال في أميركا وراء شاشة هو تقريباً 8 ساعات يومياً، وهذه الساعات الكثيرة هي سبب مباشر للكسل المنتشر بين أطفال هذا الجيل، الكسل بحد ذاته هو مسبب للعديد من الأمراض والمشاكل الصحية مثل أمراض القلب والأوعية الدموية.
إن انتشار هذه الأمراض المزمنة ليس أمراً خاصاً بأميركا فقط، فنحن نراه في دولنا العربية بكثرة ونرى الكم الهائل من الساعات الذي يقضيه أطفالنا وراء شاشات التلفاز والهواتف الذكية، لأسباب نحن لسنا بصدد مناقشتها في هذا المقال ولكن هي مشكلة كبيرة يجب التعامل معها بأسرع وقت ممكن، من أجل إنقاذ الجيل القادم من تداعيات الحياة الرقمية السريعة وما تفعله بأجسامنا على المدى البعيد.
ما هو دور الخروج إلى الطبيعة في حل هذه المشاكل الصحية أو محاولة تجنبها من الأساس؟
أصبحت العلاجات التي تتضمن الخروج إلى الطبيعة والفعاليات المرتبطة بها شائعة في العديد من الأماكن، وصارت وصفة يصفها الأطباء حلاً للعديد من المشاكل الصحية.
ولعل الهدف الأساسي منها هو تعزيز النشاط البدني للمريض، هذه البرامج التي تصف الطبيعة علاجاً، تُحفّز في الوقت نفسه الأشخاص للخروج إلى الحدائق والأماكن الخضراء بشكل عام والاستفادة من هذه المرافق، خصوصًا في الدول التي تبدي اهتمامًا بتوفير مساحات من هذا النوع.
العلاج عن طريق البستنة أو ما يطلق عليه باللغة الإنجليزية Horticulture therapy هو بكل بساطة علم يعتمد على استخدام النباتات والعالم الطبيعي من أجل تحسين الحالة النفسية والاجتماعية، الجسدية والعقلية الخاصة بالأفراد المشاركين بهذا النوع من العلاج.
هناك ثلاثة أنواع من البرامج التي تعتمد على العلاج من خلال البستنة: المهنية والعلاجية والاجتماعية.
برامج العلاج المهنية تهدف إلى تطوير قدرات ومهارات تساعد في التوظيف، وقد تتضمن عملية إعادة التأهيل، بالأخص في الحالات التي تمر بمرحلة التعافي من إصابة أو مرض أو عجز معين.
البرامج العلاجية مُصممة لتساعد في عملية التعافي الشامل والمتكامل للفرد، أما بالنسبة للبرامج الاجتماعية فهي تركز على البستنة وسيلة لدعم الحالة العامة الخاصة بالفرد، وتكون الهواية المفضلة ليمارسها في أوقات فراغه.
الأمر الجميل في العلاج بواسطة البستنة هو عدم الحاجة لوجود مساحات خضراء خارجية فقط لإتمام هذا النوع من العلاج، بل من الممكن القيام به سواء في الخارج أم في الداخل، سواء بتمهيد التربة والأرض للزراعة في الخارج أم بالجلوس على مقعد في الحديقة أو عن طريق الزراعة في قوارير في المساحات المغلقة، أو عن طريق المشي في الغابة والأمثلة على الأنشطة التي يمكن للإنسان ممارستها في سبيل تحقيق نتائج مرضية لهذا النوع من العلاج كثيرة.
بالإمكان أيضاً تبني هذه النشاطات باختلاف الأشخاص واحتياجاتهم وقدراتهم، وممكن أن تكون فردية أو في مجموعات.
فعاليات خضراء
أقترح بعض الأمثلة على نشاطات معينة تُستخدم في العلاج بواسطة البستنة مع توضيح الهدف من كل نشاط.
قد تكون النشاطات بسيطة جداً كالحفر في التربة وبأدوات بسيطة مثل الفأس، وليختار الفرد الأداة التي يفضلها.
في أثناء عملية الحفر بالإمكان مناقشة مشاعر الشخص، أو ماذا يرى في التربة ومكوناتها ويُفضل أن يُترك على سجيته بحيث لا يُفرض عليه طريقة معينة للحفر أو ما شابه.
الهدف من هذا النشاط أو الفعل العلاجي يكمن في عدة نواحي، مثل التعرف على التربة، والتقليل من السلوك العدائي أو النشاط المفرط وإعادة توجيهه، والتقليل من التوتر والقلق، والقيام بنشاط جسدي، إضافة إلى عملية التنسيق بين اليد والعين.
هذا النشاط قد يفيد العديد من الفئات، ولكن أثبتَ نجاحه خصوصا مع الأشخاص الذين يعانون التوحد واضطراب نقص الانتباه مع النشاط المفرط.
من الفعاليات الأخرى التي يمكن تنفيذها، هي البحث عن كنز الطبيعة وملائمة للمجموعات وفي فصول مختلفة من السنة، بحيث يقوم المشرف على الفعالية بالتقاط صور لبعض النباتات الموجودة في الحديقة قبل الفعالية، ومن ثم يطبعها ويغلّفها بلاصق شفاف، وفي أثناء الفعالية يوزعها على المشاركين ويشجع كل مشارك أن يجد رفيقاً له في هذه المهمة. ثم ينطلق الباحثون عن الكنز في مهمتهم للبحث عن النباتات التي يرونها في البطاقات التي وزعت عليهم وفي هذه المهمة قد يجدون هذه النباتات وقد يجدون نباتات أخرى أو اكتشافات جديدة تثير اهتمامهم.
وفي جميع الأحوال، يُحفز المشرف المشاركين على الحديث عن تجربتهم وملاحظاتهم فيما يخص النباتات، وتهدف هذه الفعالية إلى تعريف المشاركين على النباتات المختلفة التي تنمو في محيطهم، وتحفيز العمل الجماعي، والنشاط الجسدي ولفت الانتباه إلى تغير الفصول وما يعنيه ذلك في عالم النباتات.
من الفعاليات البسيطة جداً ولكنها ذات أهمية كبيرة، الخروج بمجموعة من المشاركين إلى مساحة خارجية ملائمة، بحيث يختار كل شخص مكانا مريحا ليجلس فيه ويغمض عينيه، ومن ثم نطلب منهم الاستماع بتركيز إلى جميع الأصوات من حولهم، وبعد فترة معينة يرسموا كل شيء سمعوه، سواء كان طائر أم صوت ماء أم سيارة أم قطة...إلخ. ويساعد هذا النشاط في عملية التركيز، والإبداع والاستماع بعمق لما يدور حولهم.
عملية التأريض Earthing/ Grounding
من أهم وأبسط النشاطات التي قد يقوم بها الإنسان من أجل نفسه وصحته، هي أن يخرج إلى مساحة فيها تربة ويخلع حذائه، ويدع قدماه تلامسان الأرض-التربة فيما يسمى بعملية التأريض.
التأريض هو العملية التي يحصل فيها تلامس بين جسده وشحنات الأرض الكهربائية، ولهذا التلامس العديد من الفوائد الصحية.
يساعد هذا التلامس في حفظ التوازن الخاص بأعضاء الجسم على مستوى عميق جداً، ويقلل من الالتهاب والألم والإجهاد، ويحسن من تدفق الدم والطاقة ويساعد في نوم أعمق، مما يخلق حالة متجددة من الصحة العامة.
الأثر الذي تخلقه عملية التأريض عميق ومنهجي وغالباً ما يتطور بسرعة. لا تنحصر عملية التأريض بوجود تربة فقط، بل يمكن أن تتم على أي سطح طبيعي من خلق الله مثل الحشيش، والحصمة، والحجر، والرمل.
ومن الممكن أيضاً القيام بذلك داخلياً بأدوات تأريض معينة كالحصائر أو الوسادات الموصلة للطاقة التي يستطيع أن يضعها الشخص وهو نائم أو جالس.
بشكل عام فإن التأريض يُعيد لغة تواصل قديمة للإنسان مع الأرض، لغة قد نسيها الإنسان المعاصر الغارق في أسلوب الحياة الجديد، وتُعد هذه الممارسة البسيطة مهمة في علاج العديد من المشاكل، التي يُعتقد علمياً بأن سبب وجودها يعود بشكل أو بآخر لنقص في الإلكترونات في جسم الإنسان، وهذا موضوع كبير بحد ذاته وقد نتطرق له في مقالة خاصة لاحقاً.
في النهاية، جسدنا وصحتنا هم أغلى ما نملك، ومن المهم الحفاظ عليهما حتى يستمر هذا الجسد العظيم بإعطائنا تجربة الحياة العظيمة.
هي أمور بسيطة نستطيع القيام بها يومياً: الإنصات لأصوات الطبيعة من حولنا، الخروج للمشي بين الأشجار، ملامستنا للتربة، أمور بسيطة لكن تأثيرها على صحتنا الجسدية والنفسية والاجتماعية أكبر بكثير مما نتخيل.
References:
Kondo, M., Oyekanmi, K., Gibson, A., South, E., Bocaro, J., Hip, J. 2020. Nature prescriptions for health: A review of evidence and research opportunities. Int J Environ Public Res Health. https://dx.doi.org/10.3390%2Fijerph17124213
Marcus, c., Sachs, N. 2013. Therapeutic landscapes: An evidence based approach to designing healing gardens and restorative outdoor spaces. Wiley and sons Inc.
Menigoz, W., Latz, T., Ely, R., Kamei, C., Melvin, G. Sinatra, D. 2020. Integrative lifestyle medicine strategies should include earthing (grounding): Review of research evidence and clinical observations. Science direct 16(3).
Stewart, M. 2016. Horticulture therapy workbook. Antioch University. New England.
Thompson, R. 2018. Gardening for health: a regular dose of gardening. Clinical medicine. https://dx.doi.org/10.7861%2Fclinmedicine.18-3-201