خاص بآفاق البيئة والتنمية
حتى شهر مايو/ أيار الفائت ظل مرضى مجمع الشفاء الطبي لسنوات في حالة استياء من رائحة الدخان الكريهة التي تصل إلى غرفهم من محرقة عمرها عشرون عاماً تقع خلف الــ "الشفاء" ولم تكن تقتصر على إحراق النفايات الطبية الخاصة به بل أيضاً الواردة من المستشفيات الأخرى.
وبقدر لا بأس به "فُرجت أخيرًا" ، فقد حُلّت "جزئياً" مشكلة التلوث الناجمة عن إحراق هذه النفايات كما يؤكد م. عبد الرحيم أبو القمبز المدير التنفيذي لمجلس الخدمات المشترك لإدارة النفايات الصلبة في محافظتي غزة والشمال، وذلك بواسطة جهاز تقطيع وتعقيم النفايات " المايكرويف، وفي هذا التقرير نسلط الضوء على تقنية التعقيم الحراري التي أفلحت في التغلب على تلوث ضاق به الجميع ذرعاً.
إذ ليس المرضى فقط من كانوا يعانون "المكرهة الصحية والبيئية" المتمثلة في رائحة دخان لطالما رأوا فيه "عذاباً يومياً"، بل أيضاً السكان القاطنين في محيط المستشفى والعاملين في محال تجارية بجواره.
محرقة النفايات في مستشفى الشفاء الطبي
على سبيل المثال باسمة شرف - إحدى مريضات "الفشل الكلوي"- كانت شاهدة على هذه الحقبة، فقد بقيت مجبرة على زيارة المستشفى لمرات عديدة أسبوعياً على مدار سنوات، حتى أنها لا تنسى أول يوم لدخولها قسم "غسيل الكلى" حين تفاجأت بدخان كثيف رائحته سيئة يجتاح أرجاء المكان، "ويا له من هم ثقيل يُضاف إلى هم المرض" حسب تعبيرها.
إلى درجة أن ثمة سبب آخر غير الوقاية من عدوى "كورونا" أو الأمراض الفيروسية عموماً، دفع أطباء هذا المستشفى الصامد للالتزام بكماماتهم، وهو تجنب الدخان الأسود المنبعث من "المحرقة" التي عملت بكفاءة منخفضة وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية.
ففي مدينة تُعد الأشد اكتظاظاً بالسكان، مضت كل تلك السنوات والأضرار الصحية البالغة جراء الانبعاثات تلَحق بالآلاف ممن تقع منازلهم أو مصالحهم التجارية بالقرب من مجمع الشفاء. لقد تنفسوا كل يوم غازات الحريق، وحُرموا من أبسط رغبة وهي فتح النوافذ، وكم يصبح الأمر قاسياً في فصل الصيف على السكان والمرضى على حدٍ سواء.
محرقة النفايات في مستشفى الشفاء الطبي بمدينة غزة
"ديوكسين".. الغاز القاتل
في تقارير صحفية سابقة، صرَّحت إدارة مجمع الشفاء أن المحرقة في بداية عملها كانت مطابقة للمواصفات العالمية لشروط الإحراق، وبمرور الزمن فقدت الكثير من كفاءتها.
وطالبت في حينه، بضرورة تأهيلها ونقل مكانها إلى آخرٍ مفتوح يكون فيه عدد السكان أقل، علّه يكون حلاً بــ "أقل الأضرار".
وبالرجوع إلى تلك التقارير، فإن إدارة المستشفى بدت في وضع لا تُحسد عليه بعد تسلمها مهامها في ظروف سياسية وإدارية ومالية بالغة التعقيد، والتي ساءت أكثر جراء الحصار المطبق على القطاع، مما زاد من العراقيل التي حالت دون تطوير مرافق المستشفى، وأهمها المحرقة، وكان المسؤولون فيه قد وصفوا موقعها بـــ "غير المنطقي" وأكدوا أن إعادة تهيئتها تتطلب منهم توفير مواد ذات خصوصية، من شأنها أن تؤثر على منشأة صحية لها طبيعتها الحساسة".
وبحسب ما تفيد به الدراسات البيئية حول مخلفات حرق النفايات، فإن من أهم الغازات التي تنفثها أفران محرقة المستشفى غاز "ديوكسين" "Dioxin"؛ إذ أن لترا واحدا من هذا الغاز القذر أو السم الأصفر، يكفي لإبادة مليون شخص في الحال وإصابة مليون آخر بالأمراض والإعاقات، وفق بحثٍ علمي نشرته جامعة دمشق عن إدارة النفايات الصلبة في عام 2001.
فيما الكثير من هذا الغاز القاتل، والناتج عن حرق المواد البلاستيكية بشكلٍ جزئي نتيجة خلل في ضبط حرارة الاحتراق اللازمة وفق المعايير الدولية، يهدد صحة الحوامل، وقد يؤدي إلى الإجهاض، كما أنه يُهيّج العيون.
وبالرجوع إلى المشهد القاتم ما قبل حل المشكلة، فإن محمد أبو نصر (40 عاماً) الذي يعمل في أحد المحال المقابلة لــ " الشفاء"، كان يضطر إلى إغلاق متجره معظم الوقت بسبب الرائحة التي لا تُطاق المنبعثة من المحارق الآلية.
أما فتحي العطل (65 عاماً) وهو صاحب بسطة للمأكولات السريعة، فلا يذكر عدد المرات التي شكا فيها من تأثير الأدخنة على كسب عيشه، بسبب تراجع إقبال الزبائن على شراء الساندويتشات والمشروبات، خصوصاً في فترات تصاعد الأدخنة.
وقال العطل وقتئذ: "بَسطتي هي مصدر رزقي منذ عقود، بت أشعر أن كل جزء فيها مشبعًا بالأدخنة".
تقنية التعقيم الحراري - المايكرويف في مستشفى الشفاء
المنقذ "جهازان من المايكرويف"
يشرح م. عبد الرحيم أبو القمبز لمراسلة "آفاق البيئة والتنمية" الطريقة التي أنقذت ولو بقدر معين كلَ هؤلاء من مشكلة تصاعد أدخنة النفايات، قائلاً: "كانت الخطوة الأولى أننا قمنا بصيانة المحرقة بمجمع الشفاء في غزة ومجمع ناصر الطبي في خانيونس، بجهود مشتركة بين مجلس الخدمات المشترك في المحافظات الجنوبية ووكالة اليابان للتعاون الدولي (جايكا) وذلك في عامي 2019 و2020".
وأضاف أبو القمبز أن نفايات قسم "غسيل الكلى" نُقلت من "الشفاء" إلى خانيونس حيث أنشئت محطة لمعالجة النفايات الطبية بتقنية (الأوتوكلاف)، وحينها ظهرت بعض التحديات مما دفع البلدية وصناع القرار إلى التفكير في حلول أكثر جدوى واستدامة.
وفي عام 2020 ومع بداية انتشار فيروس كورونا، اُعتمدت تقنية المايكرويف والتي تُعد ثاني أفضل تقنية للتخلص من النفايات الطبية، كما يقول.
ويواصل المدير التنفيذي لمجلس الخدمات المشترك لإدارة النفايات الصلبة في محافظتي غزة والشمال حديثه: "في شهر مايو من العام الجاري تمكن المجلس من حل مشكلة التلوث الناجمة عن إحراق النفايات الطبية في مستشفى الشفاء بنقلها والتخلص منها بواسطة جهاز تقطيع وتعقيم النفايات " المايكرويف"، بعد توفير جهازين منه بجهود مشتركة قام بها المجلس وبلدية غزة، وبتعاونٍ مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبتمويل من مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة".
جهاز المايكرويف الأول كان لمدينة غزة وشمال القطاع، وُوضع بجوار مكب النفايات بمنطقة جحر الديك، والثاني يخدم جنوب القطاع ومجلس الخدمات المشترك، "والذي كان كافياً لأن تُوقف وزارة الصحة جميع المحارق الخاصة بمعالجة النفايات الطبية في المستشفيات الحكومية كافة" يقول أبو القمبز.
وبموجب هذه العملية يذكر أن النفايات الطبية المُعدية تُجمع من أكثر من (60) مؤسسة صحية وطبية تابعة للحكومة، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، والمؤسسات الأهلية، لتُنقل إلى وحدة معالجة النفايات الطبية الواقعة بجوار مكب النفايات بــ"جحر الديك" شرق غزة.
تقنية التعقيم الحراري - المايكرويف
وعن كيفية التعامل مع هذه النفايات بعد نقلها يوضح بالقول: "تُعالج بتقنية التعقيم الحراري، فتُقطع النفايات وتُنقل آلياً بخط سير وتمر عبر جهاز (المايكرويف)، وبعد ذلك تصل إلى جهاز تعقيم حراري تصل درجة حرارة المركز فيه إلى نحو 150 درجة مئوية، ودرجة حرارة الجدار لنحو 240 درجة مئوية، وتستمر مدة التعقيم 60 دقيقة، لتخرج بعدها خالية من أي ملوثات، وتُعامل معاملة النفايات العادية، وأخيراً يمكن التخلص منها في المكب الصحي".
الجهاز المذكور يعالج قرابة (850) كيلو جرام يومياً من النفايات الطبية، منها 250 كيلو جرام من مجمع الشفاء الطبي، وتبلغ قدرته الاستيعابية حوالي 1500 كيلو جرام من النفايات الطبية يومياً.
عملية المعالجة لا يعيقها سوى الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، حسب إفادة أبو القمبز، مردفاً حديثه: "قريباً سيُمدّد خط كهرباء لمدة 24 ساعة لتغذية الوحدة".
وأعرب عن أمله في أن تموّل جهة مانحة محطة توليد الكهرباء للتقليل من تكاليف تشغيل محطة معالجة النفايات وضمان استمرارية عملها.