خاص بآفاق البيئة والتنمية
المبالغة في الوزن الممنوح للتغير المناخي في حدوث الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، قد يصرف الأنظار عن مشاكل بيئية أخرى تحتاج إلى معالجة. في الواقع، يمكننا القول بأن أربعة أسباب رئيسية تقف خلف اندلاع الصراعات، ألا وهي انخفاض مستويات التنمية الاجتماعية-الاقتصادية، الافتقار إلى الحوكمة، وانعدام المساواة بين الشرائح والطبقات الاجتماعية، والتاريخ المعاصر للنزاعات المسلحة. فعلى الرغم من أن لتغير المناخ بعض التأثير، إلا أنه محدود ولا يشكل عاملاً مركزيًا. ومن الأمثلة البارزة على ذلك استغلال الموارد المائية في تركيا على حساب جارتها الجنوبية (سوريا)، ما تسبب في أزمة زراعية عانى ويعاني منها الفلاحون السوريون. وكانت نتيجة الأزمة هجرة آلاف السوريين إلى المدن الكبرى؛ هذا الاستنتاج تحديدًا يتناقض مع ادعاء العديد من الباحثين في السنوات الأخيرة، والذي مفاده أن أزمة الزراعة السورية جاءت نتيجة جفاف طويل الأمد مرتبط بتغير المناخ.
|
 |
بحيرة أتاتورك في تركيا |
أضحت أزمة المناخ في السنوات الأخيرة مركزية في جدول الأعمال العالمي، وهناك اتجاه لربطها بمجموعة متنوعة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك الصراعات العنيفة التي اندلعت في أعقاب أزمات المياه والغذاء.
إلا أن بعض التقارير والدراسات العلمية الحديثة تصف واقعًا أكثر تعقيدًا، يُعد فيه المناخ مجرد عامل واحد بين العديد من العوامل المسببة للأزمات، وفي حال عدم الالتزام العلمي الموضوعي بالبحث عن العلاقة السببية الصحيحة، فقد تصبح مصداقية البيانات والتقارير الخاصة بأزمة المناخ، في مستوى الوعي المجتمعي؛ عُرضة للتصدع.
والخطر الآخر هو أن المبالغة في الوزن الممنوح للتغير المناخي في حدوث الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، قد يصرف الأنظار عن مشاكل بيئية أخرى تحتاج إلى معالجة.
في يونيو/ حزيران 2019، نشرت مجلة Nature العلمية مقالاً بعنوان "المناخ عامل خطر في الصراعات العنيفة"، يستعرض رأي فريق من الخبراء في حقول مختلفة، طُلب منهم تقييم مدى وجود علاقة سببية بين الصراعات المسلحة داخل البلدان والتغير المناخي.
واستند التقييم إلى تحليل خصائص المؤثرات المختلفة المتعلقة بالمناخ، المؤثرات التي دُرست لم تكن فقط حول أسباب اندلاع الصراعات فحسب، بل شملت أيضًا مدتها وشدتها.
وخلص الخبراء إلى أن الأسباب الأربعة الرئيسية لاندلاع الصراعات يكمن في انخفاض مستويات التنمية الاجتماعية-الاقتصادية، الافتقار إلى الحوكمة، وانعدام المساواة بين الشرائح والطبقات الاجتماعية، والتاريخ المعاصر للنزاعات المسلحة. وباعتقادهم، على الرغم من أن لتغير المناخ بعض التأثير، إلا أنه محدود ولا يشكل عاملاً مركزيًا.
يذهب العديد من الخبراء إلى أن ارتفاع متوسط درجة حرارة الأرض بمقدار درجتين مئويتين، قد يزيد بشكل كبير تأثير تغير المناخ ليكون عاملًا في تطور الصراعات الاجتماعية. لكن حتى الآن، هناك درجة عالية من عدم اليقين بسبب متغيرات غير معروفة مثل وتيرة التنمية الاقتصادية، أو مدى الجهوزية للتعامل مع التغير المناخي.
وفي ذات السياق، تسبب استغلال الموارد المائية في تركيا على حساب جارتها الجنوبية (سوريا) في أزمة زراعية. وكانت نتيجة الأزمة هجرة آلاف السوريين إلى المدن الكبرى؛ هذا الاستنتاج تحديدًا يتناقض مع ادعاء العديد من الباحثين في السنوات الأخيرة، والذي مفاده أن أزمة الزراعة السورية جاءت نتيجة جفاف طويل الأمد مرتبط بتغير المناخ.
ومن أبرز الجهات "العلمية" التي روجت للزعم الأخير بخصوص القطر السوري تحديدا، ننوه هنا إلى ما نشره في حينه المعهد الدولي للتنمية المستدامة (IISD) الكائن في كندا والذي يعكف على بحث العديد من الجوانب ذات الصلة بمسألة تغير المناخ – نشر معطيات سوداوية جدا؛ مفادها أن نحو 160 قرية سورية هجرها سكانها خلال السنتين 2007 – 2008 بسبب الجفاف المتواصل وشح المياه اللذين لم تعرفهما المنطقة من قبل. فشح المياه ضرب القدرة المعيشية لأهالي هذه القرى المتواجدة بمعظمها في شمال سوريا؛ ما دفعهم إلى نقل مكان سكنهم، طلبا للبقاء. وتجاهل التقرير تماما، السبب الأساسي المباشر في شح المياه، ألا وهو استيلاء السلطات التركية على مياه الفرات وتحكمها بها، وبالتالي تعطيش المزارعين السوريين.
الجفاف واندلاع الحروب
خلال السنوات الأخيرة، كُتِبَت مقالات وتقارير كثيرة حول العلاقة بين حالات الجفاف القاسية التي ضربت سوريا في الفترة 2006-2009 تحديدا، واندلاع الحرب الدموية هناك!
وزعمت تلك النصوص بأن النظام السوري فشل في معالجة أزمة المياه الحادة الناجمة عن الجفاف. إلا أن تلك الأدبيات شطبت عمدا حقيقة الدور التركي في شح المياه والجفاف الذي عانى ويعاني منه المزارعون السوريون. والنتيجة كانت خسارة أكثر من مليون مزارع سوري لمصدر رزقهم، فأجبروا على هجر منازلهم في قراهم، بحثًا عن مصدر رزق جديد في المدن. وبسبب ذلك، عانت مدينة درعا في الجنوب السوري، على سبيل المثال، من تضخم سكاني غير متحكم به، وبالتالي تفاقم الفقر وشحت المياه. وفي عام 2011 تحولت درعا إلى بؤرة الحراك الشعبي الأولي ضد النظام السوري.
بعدئذ، اختُرِق ذلك الحراك من قبل القوى الأجنبية المعادية لسوريا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، إلى جانب أدوات الاستعمار في الخليج العربي، التي دعمت وموّلت وسلّحت العصابات الأجنبية والسلفية الوحشية التي غزت سوريا، فعاثت فيها دمارا وخرابا وتفتيتا. العصابات الغازية استخدمت وتستخدم المياه سلاحًا ضاغطًا أثناء القتال المتواصل منذ عشر سنوات.
ففي عام 2013، على سبيل المثال، سيطرت داعش على سد الفرات (أو سد الطبقة) المقام على بحيرة الأسد، والذي يُعد أكبر سد للمياه في سوريا يقع على نهر الفرات في محافظة الرقة، وهددت (داعش) بإغراق الأراضي المحيطة بمدينة الرقة.

بحيرة الأسد في سوريا
انهيار الزراعة واندلاع الحرب
وفيما إذا كان انهيار الزراعة في سوريا هو المسؤول عن التوتر الاجتماعي والسياسي الذي أدى إلى اندلاع الحرب، فلا يزال الباحثون منقسمون حول الموضوع، لكن بعضهم يعتقد أن كان له تأثير كبير.
إلا أن المسألة الأساسية هنا أن نقص هطول الأمطار خلال السنوات التي سبقت الحرب، أعاق قدرة المزارعين السوريين على التعامل مع السياسة التركية اللئيمة؛ علمًا أن سوريا تحصل على نحو 60٪ من مياهها من نهر الفرات الذي تتدفق مياهه من تركيا، ويُعد النهر كذلك بالنسبة للأتراك مصدرًا هاما للمياه.
وفي ذات السياق، يمكننا ملاحظة الاختلافات الكبيرة في حالة المحاصيل الزراعية في كل من سوريا وتركيا، الأمر الذي يتصل باستخدام مياه الفرات.
ولتحليل حالة المحاصيل الزراعية، استخدم الباحثون مؤشرًا يُسمى NDVI (مؤشر التغيرات في النبات) يعتمد على صور الأقمار الصناعية. أظهر التحليل بأنه في كلا البلدين كانت هناك زيادة مستمرة في نمو النباتات التي رُويت، وذلك حتى حوالي سنة واحدة قبل اندلاع الحرب. بعدئذ، طرأت زيادة كبيرة في الجانب التركي، مقارنة بانخفاض كبير في الجانب السوري.
دليلٌ إضافي على حدوث تغير مُرتبط بكمية مياه الري هو حالة محصول القطن الذي يُعد من أهم المحاصيل للاقتصاد السوري، ويعتمد بشكل كبير على الري وليس مياه الأمطار. منذ عام 2011، انخفض حجم نمو القطن واختفى تقريبًا بعد خمس سنوات.

نهر الفرات في سوريا
تحويل مياه نهر الفرات ونظرية مالتوس الفاشية
نتائج التغيرات في حجم المحاصيل الزراعية تتوافق أيضًا مع التغيرات الحاصلة في استغلال الموارد المائية بتركيا. وفي التفاصيل، بحيرة أتاتورك التي تعد أكبر خزان للمياه في تركيا، حيث تصلها مياه نهر الفرات، تعاظمت مياهها بشكل كبير عام 2010، بينما تقلص حجم المياه في بحيرة الأسد التي تعد أكبر خزان للمياه في سوريا، وذلك بسبب قيام تركيا بتحويل مياه النهر، في انتهاك صارخ للاتفاقية المبرمة مع سوريا.
خلاصة القول، تغير المناخ يؤثر فعلًا على كمية الأمطار في بلاد الشام بشكل عام، وفي سوريا وتركيا بشكل خاص؛ إلا أن دراسة ما حدث قبل الحرب العدوانية على سوريا، والتي شاركت بها تركيا بقوة؛ يقودنا إلى الاستنتاج بأن التخلي عن الزراعة في الشمال السوري حدث بسبب تحويل كميات ضخمة من مياه الفرات لصالح الاستخدامات في تركيا، في خرق فاضح للاتفاق المبرم بين البلدين حول استغلال مياه النهر.
لذا، لا يمكننا الاستنتاج بأن عدم الاستقرار السياسي في سوريا آنذاك، كان مرتبطًا ظرفيا بالجفاف.

توماس مالتوس
ومع ذلك، يمكننا الافتراض أن قلة هطول الأمطار في السنوات التي سبقت الحرب أعاقت قدرة المزارعين السوريين على التعامل مع السياسة التركية. لكن، قلة هطول الأمطار لم ولا تتسبب بالضرورة في اندلاع صراعات مثل الحرب الدموية والاضطرابات الاجتماعية. ومع ذلك، يمكننا التقدير بأنه كلما تفاقمت أزمة المناخ، كلما ازداد دورها أهمية.
وفيما يتصل بـ"إسرائيل" التي تُعد ناهبًا رئيسيًا لكميات هائلة من مصادر المياه العربية في فلسطين التاريخية والمنطقة إجمالًا (نهب أحواض المياه الرئيسية في فلسطين، المياه السطحية، نهر الأردن وبحيرة طبريا، المياه اللبنانية والسورية في الجولان المحتل...)، المفارقة أن "إسرائيل"، فرضت نفسها باعتبارها "قطرا شقيقا" يعاني من شح المياه تماما كما ضحاياها العرب والفلسطينيين الذين نهبت مياههم.

هل من علاقة بين التغير المناخي والصراع المسلح في سوريا؟
والمؤسف أن "إسرائيل" تمكنت، من خلال أصدقائها الفلسطينيين والعرب، من تمييع جوهر الأزمة المائية الكامنة ليس فقط في ضربات الجفاف التي تضرب منطقتنا، بل وأساسًا، في حقيقة الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية ومواردها المائية والطبيعية. لهذا، ومن باب "الديماغوجيا" وتزوير الواقع والتاريخ، فهم يركزون على مسألة التضخم السكاني، بقولهم إنه "في سنة 2050 سيعيش في الشرق الأوسط حوالي 634 مليون نسمة، أي أكثر من ضعف العدد الحالي، بينما مصادر المياه ستزداد جفافًا، وكمية المتساقطات ستتناقص، والاحترار العالمي سيتواصل"! وهذا يذكرنا بنظرية توماس مالتوس السكانية الفاشية حول تزايد السكان والموارد الطبيعية والغذائية، والتي تبنتها لاحقًا النظم الاستعمارية والنازية بهدف تبرير إبادة الشعوب التي احتلتها، ومفادها أن الموارد الغذائية تزداد بمتوالية حسابية، وبالتالي لا تستطيع تغطية احتياجات جميع سكان الأرض الذين يزدادون بمتوالية هندسية؛ لذا، ولإعادة التوازن بين نمو السكان، من ناحية، ونمو الموارد الطبيعية من ناحية أخرى، يجب تدخل "عوامل خارجية" مثل الحروب والمجاعات والأوبئة!