"حمايةً للبيئة".. الإسلام شرَّع العقوبات الرادعة بما يتناسب مع حجم الاعتداء
أولت الشريعة الإسلامية اهتمامًا كبيرًا للبيئة، وخلق الله تعالى الإنسان ليكون خليفته في الأرض. يقول الله تعالى:" "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"(البقرة:30).
وخلافة الإنسان في الأرض تتطلب منه الإعمار والمحافظة على البيئة التي سخرها الله عز وجل؛ لتعينه على الإعمار والإصلاح، يقول الله عز وجل:" وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا..." (الجاثية:13).
ويتطلب هذا التسخير من الإنسان الامتناع عن الفساد وعلى رأسه الاعتداء وإلحاق الأذى بالبيئة بكل مكوناتها، يقول عز وجل:" وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ"(البقرة:205).
لقد جاءت الأحكام الشرعية في الإسلام عند إقرارها للعقوبة ليس من أجل إلحاق الأذى بالإنسان؛ إنما لتكون زاجرة ورادعة ولتدفع بهذه العقوبة ما هو أكبر من هذا الألم المتمثل في حماية البيئة التي يعيش بها الناس.
وعندما نتأمل في هذا الكون العظيم، نجد أن كل واحد منا عليه التحلي بالمسؤولية من أجل الحفاظ على بهاء الأرض الخضراء، وصفاء المياه، ونقاء الهواء، وحماية الكائنات الحية من أي أذى.
الاستخلاف منوط بالأرض
|
الزهراء أبو الكاس |
عمدَ بعض الباحثين إلى دراسة اهتمام الشريعة الإسلامية بالبيئة ومنع الاعتداء عليها، ومنهم الباحثة الزهراء أبو الكاس؛ التي أعدَّت مؤخرًا بحثًا بعنوان:" تصرّف الإمام في حماية البيئة بضابط المصلحة وتطبيقاته المعاصرة".
تقول لــ "آفاق البيئة والتنمية": "البيئة هي ملاذ الكائنات الحية يؤثرون ويتأثرون بها؛ في علاقةٍ تكاملية وتفاعلية بين عناصرها ومكوناتها، فحماية البيئة من الفساد والانتهاك أصبحت من أبرز قضايا العصر الحديث واهتماماته".
واستندت دراسة الباحثة الزهراء إلى قاعدة عظيمة من قواعد الفقه الكلية وهي: "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة وعلاقاتها وتطبيقاتها في المجال البيئي، بما يحقق النفع للأمة".
ونالت الباحثة المذكورة درجة الماجستير من كلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية بغزة، بعد مناقشتها رسالتها هذا العام (2021).
وتؤكد في حديثها أنه بتطبيق هذه القاعدة تُصان حقوق الرعية بأفضل الطرق وأنفعها، إذ أن أعمال وتصرفات الولاة تكون نافذة على الرعية وسلطانهم قائمٌ عليها، بناءً على تحقيقها لمصلحة الجماعة، أي أن تلك القاعدة ترسم حدودًا شرعية للولاة، وبينت دور الإسلام ووجهه الحضاري والمشرق في الحفاظ على البيئة وصونه وحمايته لها.
وتشير أبو الكاس، إلى أن الإسلام دين الشمول والإحسان، فهو رسالةٌ ربانية تشمل الدين والدنيا، صالح لكل وقت وزمان، وللحياة البشرية جمعاء.
وتضيف: "يقوم مبدأ حماية الإسلام للبيئة على عدة ثوابت ومنها الخلافة، بما أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد المُستخلف في هذه الأرض، فعلاقته بها ليست تملكًا، إنما هي علاقة استئمان على الأمانة التي بين يديه".
وتمضي في حديثها قائلةً:"من هنا جاء التقدير الإلهي للإنسان، وقد ورد الاستخلاف في القرآن الكريم مقروناً بالأرض والاستقرار والتوطن فيها، وبالتالي الاستخلاف منوط ٌبهذه الأرض وبما فيها من مكونات طبيعية مختلفة لقيام حياة إنسانية متوازنة عليها، ونجاحه في الاستخلاف يتوقف على حسن تدبيره ورعايته لما في الأرض وما عليها من عناصر".
المسؤولية الفردية والجماعية
ما بين المسؤولية الفردية والجماعية نحافظ على البيئة، وتُعدُّ مسؤولية الفرد أساساً مهمًّا نابعًا من الوازع الديني لديه من أجل أن تتحقق الرقابة الذاتية على نفسه، لتبدأ بحمايته لممتلكاته ومحافظته على النظافة الشخصية، ونظافة الأماكن من حوله، وفقًا لقول الباحثة.
وفيما يخص المسؤولية الجماعية؛ تستشهد أبو الكاس بالآية الكريمة: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..." (المائدة:2).
وتردف بالقول: "القرآن الكريم يخاطب الجميع في كثير من التوجيهات والإرشادات، وإذا سادت روح الجماعة قطفنا ثمرة المسؤولية التي تفرض السلوك القويم وتردع الانحراف بالوقاية والعلاج، وتعزز مصلحة الأمة؛ لأنها مسؤولية مشتركة لا تنحصر بفئة معينة، وبموجبها تسير الخطط التنموية والاقتصادية والاجتماعية قدمًا، لحماية مناطق التنوع البيولوجي والمحميات الطبيعية، ورعاية البيئة والإبقاء عليها في حالة طبيعية متوازنة".
منع الاعتداء
تذكر الباحثة الغزية أن الشريعة الإسلامية حثت على أهمية الحفاظ على البيئة في العديد من الآيات الكريمة ومنها:" كُلوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ"(البقرة:60)، كما أنها نهت صراحةً عن الفساد بكل أنواعه وأحجامه، وحذرّت من كونه مخالفة لشرع الله تعالى.
كما أن الإسلام ركزَّ على قانون التوازن، فعند وقوع أي ضررٍ على عنصر من عناصر البيئة فإنه بذلك يودي إلى خللٍ في التوازن واضطراب يهدد البيئة وما تشمله.
وتلفت أبو الكاس، إلى اهتمام السنة النبوية بالتشجير والزراعة، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه سلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ".
ومن جهة أخرى دعا الإسلام الحنيف إلى عدم التعرض للحيوانات بالأذى، حيث قال عليه أفضل الصلاة والسلام:" دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ".
صور الاعتداء
التلوث واختلال التوازن البيئي من أبرز المشكلات التي تُمثل خطرًا على البيئة، وقد تطرَّق إليها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه: "رعاية البيئة في شريعة الإسلام" والذي اطلعت عليه الباحثة.
ويقول القرضاوي إن من وجوه الاعتداء على البيئة استنزاف موارد البيئة وسوء استهلاكها، أو عدم الانتفاع بها، موضحًا: "الإسلام نظر إلى هذه الموارد بأنها أمانة ائتمن الله تعالى عليها الإنسان، وأمره بحفظها وبالتالي لا يجوز التفريط فيها".
مضيفًا: "خلق الله تعالى الأرض وما عليها وما يتصل بها- البيئة الطبيعية للإنسان- طاهرة نظيفة لا تحمل أي نوع من التلوث؛ متوازنة لا خلل فيها؛ إلا أن سلوكياته أدت إلى إلحاق الضرر بالبيئة وتلويثها".
ويبين، أن من أشكال التلوث، تلوث المياه الذي يُعرف بأنه تلف أو إفساد لنوعيتها؛ مما يؤدي إلى حدوث خلل في نظامها الأيكولوجي بصورة أو بأخرى؛ ما يقلل قدرتها على أداء دورها، وبالتالي تصبح غير صالحة للإنسان أو الحيوان أو النباتات أو الأحياء التي تعيش في المسطحات المائية.
وبحسب ما ورد في كتاب القرضاوي، تتلوث المياه عن طريق المخلفات الإنسانية، أو الحيوانية أو المعدنية والصناعية أو الكيميائية التي تُلقى فيها؛ أما المياه الجوفية فإنها تتلوث نتيجة لتسرب مياه المجاري والتصريف إليها بما فيها من بكتيريا ومركبات كيميائية، واستخدام المبيدات الحشرية وغسل الآليات في المياه، وإلقاء المواد البلاستيكية الأمر الذي يؤدي إلى قتل الأسماك وغيرها من الكائنات".
أما الاعتداء على البيئة في حالة تلوث الهواء، يحدث عند تغير صفات الهواء الفيزيائية أو الكيميائية؛ أي عندما يحمل أيّ مادة أو عنصر غريب لا يوجد في مكونات الهواء النظيف، فمن صور الاعتداء عليه الاحتراق الناتج عن دخان المصانع، والسيارات وغيرها من مصادر التلوث.
أما الاعتداء على التربة فقد ذكر د.القرضاوي أنه يحدث عند استخدام المبيدات الحشرية، وري التربة بمياه الصرف الصحي وغيرها من الأسباب.
لجنة التحكيم في الجامعة الإسلامية
العقوبات للردع والحماية
اعتنت الشريعة الإسلامية بالبيئة بكافة جوانبها، فتارة بالتأكيد على أهمية الحفاظ عليها، وتارة أخرى بالعقوبات بهدف دفع الضرر والمفسدة، لتزجر كل من تسوّل له نفسه إلحاق الضرر بالبيئة والتسببّ بالأذى للبشر والكائنات عمومًا.
وتبيَّن الباحثة أبو الكاس، أن الشريعة الإسلامية لم تأمر بعقوبة محددة لمن يعتدي على البيئة بالإفساد والتخريب، لكنها أعطت للولي أو الحاكم سلطة لتنفيذ العقوبة المناسبة للاعتداء الحاصل، بالزجر والردع حفاظًا على البيئة وحمايتها.
وتشدد في بحثها أن على الولي فرض غرامات مالية وعقوبات تعزيرية؛ لمن يتسبب بالصيد الجائر للكائنات الحية المهددة بالانقراض ولمن يدمر المحميات الطبيعية البرية حفاظاً عليها.
وتتابع في حديثها: "على الحاكم وضع قوانين لتنظيم الرعي الجائر في مراعي الأعشاب والنباتات الخضراء، والتوعية عبر وسائل الإعلام المختلفة، وإذا لم يجد التنبيه نفعاً يلجأ إلى التغليظ في العقوبة كالحبس والضرب والغرامة المالية، وقد يصل الحكم بالنفي أو القتل لمن يتسبَّب بضرر أو أذى لمكونات البيئة وعناصرها المختلفة".
وتخبرنا الزهراء أبو الكاس، أن القصاص قد يكون جزاءً لمن يعتدي على الإنسان؛ لأنه العنصر الأهم في البيئة وهو من يقوم عليها بالرعاية والاهتمام والحفاظ، وأي أذى يُلحق بالإنسان من شأنه أن يترتب عليه إخلال بتوازن بالبيئة وبمن يقوم على رعايتها.
وفي السياق نفسه، تذكر أن الشريعة الإسلامية حرمت السرقة وفرضت عقوبة على السارق، وكل من يجرم في حق البيئة سواء بالسرقة أو التخريب أو التدمير أو نهب الموارد الطبيعية بغير وجه حق، فإن ذلك يلزمه العقوبة التي تتناسب مع ردعه.
التربية البيئية
ومن توصيات الباحثة أبو الكاس، الاهتمام بالتربية البيئية "موقفاً وقائياً مستقبلياً استبصاراً واستنارةً بالتوفيق بين متطلبات الماضي والحاضر"، واستخدام منهجية التعلم الفعال لتنمية اتجاهات الأفراد وتغيير أنماط سلوكهم إيجاباً لزيادة الوعي البيئي لديهم.
كما توصي في بحثها بضرورة تناول القضايا البيئية بأساليب علمية ترتكز على المعلومات والبيانات الصحيحة، على أن تكون نابعة من الرؤى والأفكار السليمة للمساعدة في اتخاذ القرار الذي يخدم البيئة بشكل ملائم ولائق ومتوازن، وفق نظرة كلية شاملة لجميع عناصرها ومكوناتها.