المعمل المركزي للمناخ الزراعي/ مركز البحوث الزراعية
منذ ظهور واكتشاف فيروس Covid-19في الصين وإعلانهِ كجَائحة من قِبل مُنظمة الصحة العالمية (WHO)، تم اتخاذ تَدابير مُختلفة في بلدانٍ مُختلفة في جميع أنحاء العالم لاحتواء هذا الفيروس وانتشاره.
وطَرحَت الحكومات على جميع المستويات أفكاراً مُختلفة للحدِ من إنتشار الفيروس منها (الحَظر) الإغلاق الجزئي أو الكامل (البقاء في المنزل) والذي تم تَصنيفه من قِبل مُنظمة الصحة العالمية بأنه الإجراء الوقائي الأكثر فعالية حتى الآن. وتَمَثَلت الوسائل الْاِحْتِرازِيَّة الأخرى في التَباعد الاجتماعي وتَقييد السَفر والعزلة والنظافة الجيدة لليدين (غسل اليدين جيداً لمدة عشرين ثانية على الأقل) وتَجنب الأماكن العامة أو المُزدحمة، وكذلك ارتداء أقنعة الوجه والقفازات احادية الإستخدام والتي يَسهُل التَخلص منها مُباشرةً بعد إستخدامها.
وعلى الرغمِ من أن أقنعة الوجه التي تُستخدم لمرة واحدة تم تَصنيعها بشكلٍ أساسي لحماية العاملين في مجالِ الرعاية الصحية من المخاطر المهنية؛ إلا أن كثيراً من الناس من خارج المجال الطبي اعتمدوا استخدام أقنعة الوجه أثناء تَفشي العدوى الفيروسية السارس (Severe Acute Respiratory Syndrome) في عام 2003 وفيروس H1N1(إنفلونزا الخنازير) في عام 2009.
وأوصت الكثير من الحكومات بنفس النهج (إستخدام أقنعة الوجه الطبية) للجماهير عند ظهور جائحة Covid-19 لوقف انتشار هذه الفيروسات، وحتى يَتَفهم الإطباء طريقة إنتقال الفيروس والطريقة المُثلى للتَعامل معه.
فانقسم العُلماء الى فريقين يَدعو الاول منهما إلى عدم استخدام اقنعة الوجه الا للفرق الطبية فقط، وزعم الفريق الثاني أن أقنعة الوجه يُمكنها أن تُساعد في تَقليل عَدد المرات التي يَلمس فيها الشخص الوجه/ الفم/ الأنف بأيدي غير مغسولة مما قد يُقلل بشكلٍ كبيرٍ من فرصةِ الإصابة. كما أثبتت بعض الدراسات الأخرى فَاعلية إستخدام أقنعة الوجه في الوقاية من عدوى الجهاز التنفسي أثناء مواسم الحج السابقة.
أقنعة الوجه والتلوث
وفقاً لتَقديرات النَماذج المُستَخدمة من قبل مُنظمة الصحة العالمية كانت هناك حَاجة إلى ما يَقرب من 89 مليون قناع طبي و76 مليون قفاز لـمجابهة Covid-19 كل شهر، ولتلبية الطلب العالمي المُتزايد تُوصِي مُنظمة الصحة العالمية بزيادة نسب التَصنيع بنحو 40 في المائة عن الوضع الحالي.
أدَى هذا الطلب المُتزايد إلى زيادة غير مَسبوقة في الإنتاج العالمي لأقنعة الوجه التي يَتم إنتاجها بإستخدام مواد بوليمرية ومن ثَم قَامَ اللاعبون الرئيسيون في إنتاج أقنعة الوجه بزيادة إنتاجهم، فعلى سَبيل المثال اِزْدَادَ الإنتاج اليومي من الأقنعة الطبية في الصين إلى 14.8 مليون قناع طبي اعتباراً من فبراير 2020.
وأَدت زيادة إنتاج واستهلاك أقنعة الوجه في جميع أنحاء العالم لمُجابهة هذا الوباء إلى ظهور تَحَدّ بيئي جديد يُضاف إلى النفايات البلاستيكية والجُسيمات البلاستيكية الضخمة في البيئة، حيث تَتَسرب معدات الحماية الشخصية ذات الاستخدام الواحد (Personal Protective Equipment) في المجاري المائية وتَصل إلى المياه العذبة والبيئة البحرية مما يَزيد من وجود البلاستيك في الوسط المائي، وهو ما له تَأثير ضار على البيئة البحرية.
فعلى سبيل المثال ذَكرت مُنظمة OCEANSASIA(وهي مُنظمة مُلتزمة بالدعوةِ والبحثِ في مجال التلوث البحري والتحقيق في الجرائم البحرية)، أن هناك أقنعة وجه طبية من أنواعٍ وألوانٍ مُختلفةٍ في المنطقة من المحيط الهادي المطلة على هونج كونج في فبراير 2020.
ويُمثل هذا الظهور الجَديد لأقنعة الوجه الطبية الوجه القبيح للقمامة البيئية في كل من البيئة البرية والمائية، وهو دليل على أنَّ الوباء العالمي لم يُقلِل بأي حالٍ من التحدي المُتَمثل في زيادة التلوث البلاستيكي في البيئة.
وقبل ظهور هذا الوباء في أواخر العام الماضي كانت مواد التَعبئة والتغليف البلاستيكية وزجاجات الشرب وحاويات الوجبات السريعة مصادر رئيسية للتَلوث البلاستيكي الدقيق على مستوى العالم، وبالمثل يُمكن أن تَكون أقنعة الوجه الطبية التي تُستخدم لمرة واحدة (الاستخدام الفردي) والتي تَصل إلى البيئة عن طريق (التخلص منها في مكبات النفايات أو مقالب القمامة أو المياه العذبة أو المحيطات أو القمامة في الأماكن العامة)؛ مصدراً جديداً للجسيمات البلاستيكية الدقيقة، حَيثُ يُمكن أن تَتَفتت أو تَتَحلل إلى قطع صغيرة للغاية(يَقل حجمها عن 5 مم) والمعروفة باسم اللدائن الدقيقة في البيئات البحرية.
ومن الآثار الأخرى لهذه الأقنعة التي يَتم التَخلص منها عشوائياً في البيئة إمكانية العمل كوسيط لتفشي المرض، حيثُ تُعرف جزيئات البلاستيك بإنتشار الميكروبات مثل العوامل الممرضة الغازية.
التلوث من البلاستيك
وأغلب هذه الأقنعة تَحتوي أو مصنوعة من مادة البولي بروبيلين والتي لا تَتَحلل بسرعة، ويُعد التلوث البحري بالبلاستيك مشكلة خطيرة فتُشير التَقديرات إلى أن أكثر من ثمانية ملايين طن من البلاستيك تَدخل محيطاتنا كل عام، ولا يختفي هذا البلاستيك ولكنه يَتَحلل ببطء إلى بلاستيك دقيق يَدخل في سلاسلِ الغذاء ويكون له تأثير مدمر.
تُشير التقديرات إلى أنَّ أكثر من مائة ألف من الثدييات والسلاحف البحرية وأكثر من مليون طائر بحري تَموت سنوياً بسبب التلوث البحري بالبلاستيك، حيث يَمتص البلاستيك من مياه البحر مُلوثات عضوية مثل ثنائيات الفنيل المتعددة الكلورة، مما يُؤدي إلى تَسَمم الكائنات البحرية التي تَتَناوله عن طريق الخطأ.
ووفقاً للتقرير الصَادر عن الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) في عام 2018 يُعَد البحر المُتوسط الذي تَطل عليه جمهورية مصر العربية بساحل يبلغ طوله نحو995 كيلومتراً من أكثر البيئات البحرية تَأثراً بالتَلوث الناجم عن ذلك النوع من النفايات؛ فالبحر الأبيض المتوسط هو بحر شبه مغلق ليس له إلا منفذ واحد ضيق هو مَضيق جبل طارق الذي يَربطه بالمحيط الأطلنطي. وتَتَخلص خَمس دول من معظم مُخلفاتها البلاستيكية في البحرِ المتوسط وهي بالترتيب: تركيا (144 طنّاً/ يوم) وإسبانيا (126 طنّاً/ يوم) وإيطاليا (90 طنّاً/ يوم) ومصر (77 طنّاً/ يوم) تليها فرنسا (66 طنّاً/ يوم).
أدى الحظر الكلي المفروض نتيجة لفيروس Covid-19 في جميع أنحاء العالم إلى انخفاض كبير في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 5% وفقاً لتَقديرات مُؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD ، ولكن هَيْهَاتَ إذ لم يكن لجميع التدابير الْاِحْتِرازِيَّة المفروضة لاحتواء الوباء تَأثير إيجابي على البيئة، حيثُ تَعرضت شوارعنا وشواطئنا ومحيطاتنا لموجة غير مسبوقة من نفايات COVID-19 ، بما في ذلك أقنعة الوجه البلاستيكية والقفازات وزجاجات مُعقمات اليدين وتَغليف المواد الغذائية إلخ.
ارتفعت المبيعات العالمية لأقنعة الوجه التي تُستخدم لمرة واحدة وحدها من 800 مليون دولار في عام 2019، إلى 166 مليار دولار في عام 2020 وفقاً لشركة استشارات الأعمال (Grand View Research).
ولكن هذا ليس سوى جزء من المُعضلةِ، فأدى التَباعد الاجتماعي إلى تَوجه الناس إلى التسوق عبر الإنترنت وخدمات الوجبات السريعة وهو ما سَبّبّ تَدفق المُنتجات التي يَتم تَسليمها يَومياً إلى المنازل مُغلّفة في عددٍ كبير من العبوات البلاستيكية، مما نَتَجَ عنه انفايات بلاستيكية هائلة.
فعلى سبيل المثال خلال إغلاق دولة سنغافورة لمدة ثمانية أسابيع والذي تم تَخفيفه في الأول من يونيو، تَخَلصَ سكان سنغافورة البالغ عددهم نحو 5.7 مليون نسمة من 1470 طناً إضافياً من النفايات البلاستيكية الناجم عن تَغليف الوجبات السريعة وتَوصيل الطعام فقط، كما وتُخبرنا البيانات التاريخية أن نحو 75% من البلاستيك الناجم عن COVID-19 ، من المُرجح أن يَتحول إلى نفايات تَسُد مكبات النفايات وتَطفو في البحار وهو ما يَنتج عنه ارتفاع كبير في تَكاليف الإصلاح.
ولا تَقتصر مُشكلة البلاستيك على التَخلص منه عشوائياً إذ أن حَجم الإنتاج العَالمي من البلاستيك يَزداد سنوياً، وتَمتلك البُلدان النامية حصةً كبيرة في اقتصاد البلاستيك العَالمي حيثُ بلغت حصتهم من إنتاج البلاستيك العالمي 43.5% في عام 2009 وإزداد الإنتاج العالمي للدول النامية من البلاستيك إلى 58% في عام 2018 ، اي بزيادة تعادل نحو 15% عما كانت عليه في عام 2009.
وفي الختام يَتحتم على حكومات العالم أجمع وضع التَشريعات والقوانين والتي من شأنها تَنظيم إنتاج واستهلاك المواد البلاستيكية، علاوةً على تَحديد بدائل البلاستيك من المواد المُتوفرة والمواد غير السامة والقابلة للتحلل أو القابلة لإعادة التدوير بسهولة، والتي يُمكن أن تَحل مَحل البلاستيك من العديد من المواد المعروفة، مثل الزجاج والسيراميك والألياف الطبيعية والورق والكرتون وقشر الأرز والمطاط الطبيعي والبروتينات الحيوانية وخلافه.