الموت... من دون رائحة

مع الزيادة غير المتناهية بالإصابات في الأمراض السرطانية على أنواعها، تفترض إعادة النظر بطرق البحث عن الأسباب. فعلى عكس ما يظن البعض الذين انزعجوا مؤخراً من رائحة النفايات، بعد تركها تتراكم وتتخمر ثمانية أشهر، من قلة مسؤولية الدولة والمجتمع، فإن الأمراض السرطانية هي نتيجة تراكم عوامل أكثر خطورة من النفايات، وليس لها رائحة. لا بل يمكن أن تكون الأسباب من مواد ذات رائحة جميلة كما في مواد التجميل والتعطير. واذ بتنا نعيش في غابة من المواد الكيميائية التي تدخل في نسيج حياتنا اليومية، ما عدنا نعرف من أين تأتي الامراض وفي طليعتها السرطان على أنواعه.
كان أبو الطب إبن سينا يقول "شخّص الداء وعالج بالماء"، بمعنى أن التشخيص ومعرفة أسباب العلة هو الأصل وبعدها يصبح العلاج سهلاً. ولعل ذلك ما يفسر اليوم سبب تزايد المرض مع صعوبات مواجهته.
في كتابه عن "يوميات السرطان" الصادر في نيويورك العام 2013 يعود الكاتب العلمي جورج جونسون في بحثه عن السرطان إلى العصور الجو راسية، مستنداً بشكل رئيسي على دراسات وأبحاث "الجمعية الأميركية لأبحاث السرطان" والتي بينت أن السرطان كان عاملاً مسبباً لانقراض العديد من الأنواع. فقد تم الاشتباه في وجود أورام خبيثة في جاموس قديم ووعل قديم وفي مومياء لقرد، بالإضافة إلى الحديث والجدل الشهير حول سبب انقراض الديناصورات. إلا أن معظم الأبحاث اكدت ان السرطان كان نادراً جداً قبل ان يبدأ البشر في العبث بالأرض وموارد الطبيعة. اما الاستنتاج الأبرز في هذه الأبحاث فقد أكد ان ليس هناك أي فئة مستثناة من السرطان في مملكة الحيوانات، وان الثدييات تصاب بعدد أكبر من السرطانات بالمقارنة مع الزواحف والأسماك، وان البشر يصابون بأكبر عدد من السرطانات من بين جميع الكائنات الحية.
تتعقد الأمور أكثر كلما بحثنا في جغرافية المرض. لطالما تحدثت التقارير عن إمكانية الإصابة بالسرطان للذين يعيشون بالقرب من مناطق تحتوي على تربة غرانيتية وحيث ينبعث غاز الرادون... إلا أن تقدم الأبحاث بعد ذلك أثبت أن 90% من الأمراض السرطانية ناجمة عن عوامل بيئية، قبل أن تكون وراثية. كما وجهت أصابع الاتهام، بالإضافة إلى النظام الغذائي الحديث والى السمنة والتدخين وقلة الرياضة... الى الكثير من المواد الكيميائية الموجودة في حياتنا اليومية، لاسيما المضافات الغذائية والمبيدات الحشرية والمنظفات المنزلية على أنواعها ومواد البناء والتجميل... وهي مواد تحتوي على مواد كيميائية باتت لا تُحصى ولا تُعد. وبالرغم من أنها صغيرة الحجم نسبياً ولا رائحة لها، إلا أنها ذات طبيعة تراكمية لأننا نتعرض لها باستمرار في حياتنا اليومية. امام كل ذلك يصبح الحديث عن مطامر النفايات بوصفها مسرطنة، كما يتم الترويج في الفترة الأخيرة مضحكاً كثيراً، في ظل هذه الغابة من المسرطنات التي نعيش فيها!
الاتجاهات الغالبة في محاربة السرطان في العالم تتمحور مؤخراً على جبهتين، جبهة علم الجينات وجبهة علم المناعة. ما يوحي أن المجتمع العلمي قد استسلم في رحلة البحث عن الأسباب، بعد أن طرأت تغيرات هائلة على الطبيعة بفعل التصنيع والاستهلاك والتلوث وبعد بداية تعامل الانسان مع آلاف المواد الكيميائية التي تدخل في حياتنا اليومية والتي يصنف معظمها في خانة المسرطنة فعلاً أو المشكوك في أمرها. وهو اتجاه لا يوحي بالاطمئنان الى مصير البشرية والنوع الإنساني على الإطلاق، بعكس ما تروج الكثير من المدارس الفكرية والعلمية التي تراهن على الهندسة الجينية. فسيناريو تعديل الجينات باستمرار لتحاشي الأمراض، يمكن أن يساهم في توحيد جينات البشر، بعد أن كان تنوعها سبباً في استمرارها وديمومتها، ويمكن بالتالي أن يسهل على اي مرض فتاك كالسرطان ان يقضي على النوع البشري ويتسبب بانقراضه أسوة بالكثير من الأنواع الثديية التي انقرضت.
فهل نعود إلى ابن سينا في رحلة بحثه عن الأسباب (البيئية) ومعالجتها أم نغامر في مغامراتنا الأخيرة؟