خاص بآفاق البيئة والتنمية
يرحل الاستثنائيون – والاستثنائيات أيضًأ- عادة من غير سابق إنذار. هي رسالة الموت الحق، لكنها في حالة جوهرة حيفا وسيدة طوباس ( رابعة رشيد ابو يونس- الزعبي) مغايرة تماماً. يقولون: إن الكلمات تعجز عن نحت لوحة وفاء وذكرى وعهد، لكن الغرس الطيب يكبر إلى أن يصير كموج البحر بالعطاء، أو هو مثل السنابل، التي إن ماتت بشرت بحياة أخرى...
لقد غفلنا عن تكريم سيدتنا وهي بيننا، حين راحت تقص لنا بلهجتها الحيفاوية ووفائها لطوباس- مدينة الضياء- ونرسم اليوم رثاءً دائم الدموع لأم الناجي، فنبطل الآن لغة الكلام، لنشاهد ونقرأ مقتطفات من سيرة الفقيدة ومسيرتها.
شهادات
قبل خمس سنوات، كنت أجمع شهادات حية عن حارسات الذاكرة، واللائي عشن مر النكبة. وحين وصلنا إلى أم الناجي، رسمت لنا حيفا: البحر والكرمل والحليصة والهادار ووادي الصليب. كنا نظن أنها ستتوقف عند هذا الحد، لكنها أذهلتنا بأنها لم تكتف بالدموع، وأصرت النهوض ليس بذاتها، بل سعت إلى غرس الأمل هنا في طوباس.
بدأت القصة مبكرًا حين خاضت غمار العمل الخيري والتطوع، إلى أن شيدت أولى ملامح الحلم قبل النكسة بعام واحد.
في إحدى زياراتي لأم الناجي، روت لي كيف أن جدها شيّد مسجدّا باسمه، ثم أخذت تقص حكاية المذياع الخشبي الكبير، وكفاح والدتها مريم الشخشير، بعد رحيل والدها. قالت رحمها الله بلهجة صانت رسالة حيفا وكلامها: ولدت مرتين: الأولى في 13 تشرين الثاني 1933، والثانية في طوباس بعد عودتي من الكويت عام 1966. لقد زرعت أم الناجي ألف سنبلة وسنبلة هنا.
مهمة الرثاء ستكون صعبة، وسترشحنا جميعًا للحظة مزدوجة: دموع في جانبها الأيمن، ورسالة في يسراها. بدأت أم الناجي في بناء أضلاع الحلم، لم تلتفت إلى التعليقات السلبية، التي وضعت في أحسن الأحوال العصي في الدواليب، وأصرت أن تنتفض لوداع البيت الخشبي الصغير والغرفة اليتيمة التي عجزت عن حماية أطفال طوباس وزهراتها من القوارض. ثم شكلت مع صديقة عبد الرحمن، ونوال العمري، وسعدة مبسلط، ورحاب خضيري، ورضية الحج سعد، وسعاد القني، أول هيئة إدارية للجمعية. تجولن وجمعن التبرعات شرقاً وغرباً، وبدأن في هندسة أحلام طوباس: محو أمية، مدرسة، روضة، صالون لتعليم فنون التجمييل، مخيطة، أمومة وطفولة، سوق ، العاب أطفال..
خلال تأبين أبو يونس -الزعبي، قال محافظ طوباس والأغوار الشمالية اللواء ربيح الخندقي إن تتبع سيرة الراحلة يثبت إصرار المرأة الفلسطينية على النهوض من تحت الرماد، ويبرهن قدرتها على التحدي والإبداع.
وأضاف: "رغم النكبة التي أقصت الراحلة عن بيتها ومسقط رأسها في حيفا، إلا أنها حلقت بطوباس، وأصرت على أن تفعل شيئًا عامًا ينتشر أثره الإيجابي لنساء المحافظة، وحرصت وزميلاتها على عدم حصر الجمعية بالنشاط النسوي، بل تعدته إلى العمل المجتمعي."
صورة حارسة حيفا وسيدة التطوع رابعة أبو يونس
دموع
وأكد الخندقجي أن ( أم الناجي) استطاعت أن تنتزع بجدارة لقب الاسم الحركي للمرأة الفلسطينية في مدينتها، وظل الحنين لحيفا يراودها حتى أيامها الأخيرة.
واختتم: "صحيح أنني لم أعاصر نجاحات أم الناجي، لكنني لمست أثر ما صنعته، وتابعت الكثير من سيرتها الحافلة، التي يجب أن ننقلها للأجيال الشابة لاستلهام الدروس والعبر منها."
ومما باحت به مقاطع مرئية من سيرة الراحلة، شملها عرض لفيلم وثائقي قصير أنتجته وزارة الإعلام ضمن حلقات (ذاكرة لا تصدأ) باحت الزعبي بمفاصل الخروج الأليم من حيفا خلال نكبة عام 1948 السوداء.
ومما أوردته الراحلة: "ولدت في حي الحلّيصة بحيفا، يوم 13 تشرين ثاني 1933، ولا أنسى المدرسة والمسجد والسوق وانتقالي للعيش في منزل جدتي بوادي الصليب بعد رحيل والدي، وأتذكر سيرة جدي عبد الله، الذي طارده الاحتلال البريطاني، وعشت قرب البحر والهادار والكرمل، وشعرت بأنها كلها جنة الله على أرضه."
واستعرض شريط مصور آخر أعمال الراحلة الاجتماعية، ونشاطها النسوي الذي توج بتدشين الجمعية قبل نكسة 1967 بعام واحد.
وأشار مدير عام وزارة الداخلية بالمحافظة عائد صبيح إلى أن الراحلة استطاعت بناء "طوباس الخيرية" وصارت واحدة من أنجح الجمعيات، وأكثرها قدرة على العطاء والتطوع.
وأكد أن أهالي المحافظة يشعرون بالفخر مما أنجزته الراحلة الزعبي، التي ارتبط اسمها بالعمل المجتمعي وتثقيف النساء وتمكينهن الاقتصادي، إضافة إلى النضال الاجتماعي والعمل الوطني.
انجاز
ورثت فاطمة عبد الرازق رفيقة دربها في الجمعية بالقول: "بدأت المرحومة في العمل الخيري والتطوع عام 1966، وتشاركنا معًا في بناء جمعية طوباس الخيرية، بعد نكسة عام 1967 بثلاث سنوات، وقتها كانت روضة الجمعية بيتاً خشبياً، وغرفة واحدة وحمامًا صغيرًا، وفيها 35 طفلاً، وكانت الفئران تنزل على الأطفال من السقف."
وأضافت: "نتذكر أول هيئة إدارية للجمعية رأستها صديقة عبد الرحمن، والسيدات رضية الحج سعد، ونوال العمري، وسعدة المبسلط، ورحاب خضيري، وإقبال المبسلط، وسعاد القني. وأجرينا اتصالات مع الاتحاد العام للجمعيات الخيرية، والشؤون الاجتماعية، وسافرنا إلى الأردن، وجمعنا التبرعات من محافظات الوطن، واتصلنا بالبلدية للحصول على قطعة أرض، وبدأنا بالبناء عام 1971. وانتخبنا المرحومة عام 1970 رئيسة للجمعية، وبقيت في هذا المنصب حتى عام 1996، وفي تلك الفترة أسسننا برنامج محو الأمية، وروضة أطفال، ومدرسة، وصالون تجميل لتعليم الفتيات، ومخيطة، ومركز رعاية أمومة وطفولة. وواصلت مساعيها لتوسيع مقر الجمعية، وبدأنا بإضافة دور ثانٍ، وافتتحنا سوقاً للجمعية، وألعاباً للأطفال، ومشغلاً لتعليم الفتيات الغزل والنسيج، ونقلنا نشاطاتنا، وبخاصة في حقلي الخياطة ورعاية الأمومة والطفولة وتثقيف النساء، إلى عقابا وطمون وتياسير المجاورة، فيما استفاد المئات من الأطفال والنساء من خدمات الجمعية ومبادراتها."
ورثى ناجي الزعبي والدته في كلمات مؤثرة، استردت الطفولة والكفاح والشتات والتطوع، ومشاهد البيت الكبير في حيفا، وجد الراحلة الذي أقام مسجداً باسمه. وجده الذي كان يعمل أمامًا وخطيبًا ومعلمًا ومؤذنًا أيضًا. وجدته مريم محمد الشخشير، التي ذاقت مرارة النكبة، وأصرت على تعليم بناتها.
وقال: "كان جد والدتي من رفاق الشيخ عز الدين القسّام، وقد تعرض لملاحقة الإنجليز، الذين اعتقلوا ابنه (جدي) عام 1943، وأعلنوا أنهم لن يفرجوا عنه إلا بتسليم جدنا نفسه، واستمر احتجاز جدي ستة أشهر، فمرض في السجن، ثم رحل وعمره 37 سنة، بينما فر جد والدتي إلى الشام، وتوفي هناك بعد عام تقريباً."
وأكمل ناجي: "حافظت أمي على عادات حيفا وتقاليدها، واحتفظت بصورة جدنا النادرة، وبعض المقتنيات القديمة منها، فيما تحوّل منزل عائلتها المبني من الحجارة للمستوطنين، وقد زارته والدتي قبل سنوات، وشعرت بالمرارة على ضياعه."
ومما قاله، إن أمه ترشحت للانتخابات البلدية عام 1976، وشجعها والده لتكون أول سيدة تفعل ذلك في جنين ونابلس، ولم يعجب قرارها الكثير من الرجال، غير أنها حصلت على نحو 100 صوت، في وقت لم تكن تخرج النساء من بيوتهن.
إلهام
وأشارت رئيسة جمعية طوباس الخيرية مها دراغمة إلى أن أم الناجي كانت المعلمة والملهمة وصاحبة الجميل، "فهي التي تكرمنا حتى في مماتها، ولولا كفاحها هي ورفيقات دربها ما وصلنا إلى هذه المرحلة، ولماتت فكرة الجمعية في مهدها".
وأضافت: "لنا أن نتخيل كيف تحدت الزعبي الظروف القاسية، وتنقلت من بلد لآخر بوسائل صعبة، وفي زمن لم تنتشر فيه وسائل التواصل السريعة، ولم تهتم بالعصي التي وضعت في دواليب مسيرتها، وناضلت إلى أن غيرت واقع النساء في طوباس."
وأكدت أن قاعة الجمعية تحولت منذ وفاة معلمتنا الأولى لتخلد اسم رابعة الزعبي، ولتمنح الأجيال الجديدة رسالة أمل وإصرار لإكمال مسيرة العمل التطوعي والخيري والوطني.
وقالت دراغمة إن الجمعية ووزارة الإعلام ومؤسسات أخرى ستطلق خلال أيار القادم تكريمًا لمبدعات ومبدعين ومتطوعين ومبادرين أحياء في المحافظة، في تقليد حافل بالدلالات لتكريم الحرس القديم قبل غيابه.
وكانت "آفاق" قد فردت مساحة لمبادرة الراحلة قبل وفاتها، في العدد (47) خلال أيلول 2012.
aabdkh@yahoo.com