خاص بآفاق البيئة والتنمية
حياة جدّتي لم تكن سهلة، لم يكن لديها إمكانية للدخول إلى موقع Ebay وشراء أي سلعة من الصين بثمن بخس واستلامها بعد أيام في البريد أو حتى على عتبة البيت بكل بساطة، كان لا بُد من التفكير بشكل أعمق في كُل عمليّة "شراء" بل وكل عمليّة "استهلاك"، ويكفيك أن تجلس لتناول البطيخ مع جدّتي لتطلب منك ألا تُلقي البقيّة في القمامة، لأنها ستصنع منه مُخللاً "زكيّاً"، والحقيقة أنني كُلما أبديت انبهاري من "مخلل البطيخ" أكدت لي جدّتي أنهم في الماضي كانوا يستغلون كُل شيء تقريباً، فكانوا يصنعون من ورق الموز السلال التي كانت تدوم معهم العمر كُله، كما أنها كانت تصنع بعض ألبسة أبنائها من أثوابها التي لم تعد تستطيع ارتداءها، بل إنها كانت تصنع منها أغطية للوسائد تُزيّن بها بيتها.
كُل هذه الافكار لا يُمكن أن تكون مُجرد تراث، بل يُمكن ان تصحبنا نحو استراتيجية واعدة للتخلص من اكوام النفايات في بلادنا ولهذا نُسلط الضوء عليها.
سلة ورق الموز
صناعة السلال
لشراء سلّة، لست بحاجة أكثر من النزول إلى السوق او حتى فتح صفحة على الإنترنت والبحث عن "سلة" على أحد مواقع التسوق الالكتروني، وقد يُفكر الواحد منّا كثيراً بالسعر والشكل و"الماركة" ولكن من منّا يُبالي بالمادة التي تُصنع منها السلّة؟
بالنسبة لجدّتي، فإن الحديث عن اختيار السلّة "الصحيحة"، يبدأ بمقدمة حول صناعة السلال، تشمل مصطلحات ليست سهلة تحتاج إلى وقت لاستيعابها، كحديثها "اللجن" تارة و"الجونة" تارة أخرى وهي مرادفات للسلال والصواني، ثم تتحول للحديث عن "الميبرة" و"المسلّة" وهي أداة الحياكة التي تُساعد في صناعة السلال.
سلة موز
بعد هذه المقدمة، تنتقل هي للحديث عن انبهارها بـ"صواني الموز" إلى جانب ذكرها لأصناف اخرى من الصواني كانت تُصنع من قش القمح او من سعف النخيل او حتى من نبتة تُعرف باسم "الزبيبة"، وهي نبتة شبيهة جداً بالقصب وتنمو في المناطق التي تُعرف بالـ"بصّة" التي تكون قرب الانهار والوديان.
اما صواني الموز او جُونة الموز فهي وبحسب جدّتي من أفضل انواع الصواني، بل إنها أفضل من الصواني التي كانت تُحضر إلى بلادنا قديماً وكانت من الحديد أو "الزينكو"، فالصواني المصنوعة من الحديد لم تكن تُعمّر طويلاً وكانت تهترئ بفعل الصدأ اما تلك المصنوعة من ورق الموز فكانت اطول عمراً.
وتؤكد جدّتي أن "جونة الموز" كانت لها القدرة على حِمل ما لا يقل عن 30 كيلو قمح او عدس، وكانت الناس تهتم بهذا الصنف بشكل خاص حتى تجعلها بألوان مُختلفة وتزينها حتى "تبقى مزوّكة وشلبية" بمعنى حتى تكون غاية في الزينة والجمال، وكانوا يرسمون في داخلها صوراً كصورة عروس مثلاً!
من الجدير بالذكر أن هذه السلال لم تصنع في فلسطين فقط، فهي تصنع في اندونيسيا، والكثير من بلاد افريقيا وامريكيا اللاتينية حيث يكثر الموز، بل ويمكن شراء سلال الموز المصنوعة يدوياً على الانترنت بأسعار تتراوح بين 20 إلى 50 دولاراً امريكي من خلال مواقع كثيرة مثل
Lydia.
استخدام ملابس قديمة
استخدام الملابس القديمة
في بداية حياتها، تؤكد جدتي أن حياتها لم تكن سهلة من الناحية المادية، فقد كانت الاوضاع الاقتصادية صعبة وكانت تضطر لابتكار طرق وافكار توفّر من تكاليف الحياة ومصاريف أطفالها العشرة، ولعل أعجب هذه الأفكار هي فكرة إعادة استخدامها للملابس القديمة البالية في صناعة ملابس جديدة او اغطية للوسائد.
"بقيت اشتغل، والثوب كان ينهري، وبديّش البس ثوب مرقّع، لما الثوب ينهري، بقيت افصل منه أواعي لأولادي" بهذه الجُملة تلخص جدتي اهم مبادئ إدارة النفايات المتبعة عالمياً، فهي بداية تُقلل من نفاياتها، لأن الملابس البالية لن تستقر في القمامة، بل تؤخذ ويصنع منها سلعة جديدة بجودة جيدة نسبياً دُون جهد كبير.
ميشيل، وهي فتاة مُهتمة بإعادة التدوير، قامت بفكرة بديعة جعلت من
مدونتها فائقة الشهرة، والفكرة بكل بساطة هي أنها أخذت بنطال "جينس" قد "أكل عليه الدهر وشرب" وقررت ان تأخذ جيوبه لتُزيّن بها دفتر مذكراتها، كما أمكنها ذلك من أن تضع أقلامها في هذا الجيب الصغير بشكل جذاب، كما يُمكن ان نرى في الصورة التالية:
الفرق بين جدتي وبين "ميشيل"، أن ميشيل كانت تفعل كُل ذلك من دوافع تسلية او دوافع بيئية في احسن الحالات، اما جدّتي فكانت تلجأ إلى تحويل الملابس البالية إلى اغطية وسائد او حتى ملابس لأطفالها الصغار، وهي ليست إلا فكرة بسيطة من بين افكار كثيرة كانت تتبعها في الادارة المنزلية، وهذه الافكار نفسها ساعدتها بلا شك في تحسين احوالها المعيشية لاحقاً.
لو كان "العالم" مثل جدّتي؟
لعلّ أفضل دليل على نجاعة أفكار اجدادنا هي التقارير المتخصصة في مجال إدارة النفايات والتي تؤكّد أن النسبة الاكبر من مُجمل النفايات الصادرة في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 هي "النفايات العضوية" وتبلغ نسبتها 60% تقريباً كما يؤكد تقرير
للمؤسسة الألمانية للتعاون الفني ومصادر اخرى.
النفايات العضوية تشمل عموم النفايات الناتجة من مصدر حيواني او نباتي، كبقايا الطعام على سبيل المثال لا الحصر، وهي قابلة للتحلل بواسطة الكائنات الحية الدقيقة كأصناف البكتيريا والفطريات المختلفة وبالتالي يُمكن تحويلها إلى سماد عضوي أو حتى إلى "بيوغاز" عن طريقة تخميرها وهي كُلها طرق تدوير سهلة وغير مُكلفة نسبياً وهو ما يؤكده الباحث
جُورج كرزم والذي يقترح
تقسيم حاويات النفايات في المنشآت والمنازل والأحياء إلى قسمين: الأول حاويات للنفايات الرطبة فقط (بقايا الطعام والمطبخ وما إلى ذلك)، والثاني للنفايات الجافة مثل الورق والكرتون والبلاستيك والزجاج
. وذلك لأن "معظم النفايات الصلبة المتولدة في الضفة الغربية وقطاع غزة عبارة عن نفايات رطبة وعضوية".

بالنسبة لجدّتي، فلم تكن تحتاج إلى حاوية خاصة بالنفايات العضوية لأنها لم تكن تُتنج من النفايات العضوية الكثير، ففكرة إلقاء الطعام في القمامة بالنسبة لها "حرام" أصلاً، وبالتالي فالأصل في الطعام ان يكون للتغذية وليس للنفايات، لدرجة انها كانت تستفيد من قشور البطيخ الخضراء في صناعة المخلل، كما كانت تستفيد من روث البقر في إيقاد الطابون، هذا غير انها كانت تصنع المُربى من الفاكهة الفائضة عن حاجتها قبل ان تتعفن، وبالتالي تحفظ هذه النعمة بتحويلها إلى "نعمة" مرّة اخرى وليس مُجرد نفايات.
الأكيد انه مهماً بلغ الانسان من فكر بيئي واع فيما يخص التقليل من النفايات العضوية فإن الوصول إلى حالة "مُعاذة العنبرية" ليست مهمة سهلة حتى بالنسبة لجدّتي، فمعاذة حظيت بإعجاب الجاحظ فكتب عنها في كتاب البُخلاء وكيف كانت تستغل كُل ما في ذبيحتها حتى الدم والقرون، ولهذا ليس من السهل ان نُطالب انفسنا بأن نكون مثل "معاذة" ولكن لجدّتي طُرقها الخاصة في معالجة النفايات العضوية، أما الألبان والاجبان التي يُشك في امرها يُمكن ان تكون طعاماً للقطط، هذا غير ان لدى جدّتي من البط والدجاج والحمام الكثير ويُمكنه ان يلتهم أي كميّة من الرز والخضار تضعها له.
اخيراً، لا شك أن جدّتي ليست وحدها، فقد رأيت في المانيا بيتاً للعجزة يقوم بتقديم فائض الطعام المتبقى من المطعم لحظيرة تربي الخنازير، وكان صاحب الحظيرة يفرح بذلك فهو يحصل على "طعام مجاني" لخنازيره. ثم بإمكان أي متصفح للإنترنت ان يبحر ليكتشف كمّا ضخماً من المدونات والتقارير التي ستُرشده في كيفية استغلال بقايا الطعام، كهذه المدونة المميزة على
موقع سوبر ماما.
في الختام، فإن الاستراتيجية الانفع والأنجع في معالجة مشكلة النفايات العضوية، هي الالتزام بقواعد جدّتي البسيطة بأن "ع قد لحافك مد رجيلك" و"اكل واحد بيكفي اثنين" وأخيرا "كب الأكل حرام"!