-1-
(البيئة الطبيعية والثقافة)
إن الذين يزعمون أن البلاد العربية لا يمكن أن تتوحد من الوجهة الثقافية، يحاولون البرهنة على صحة زعمهم هذا – قبل كل شيء – يالإشارة إلى اختلاف البيئات الطبيعية، فإنهم يقولون: إن البلاد العربية تختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا من وجهة الأحوال الطبيعية، وهذه الأحوال تؤثر تأثيرا عميقا في الأوضاع القومية والثقافية، فلا تترك مجالا لوحدة ثقافية.
غير أني أعتقد أن هؤلاء يغالون مغالاة كبيرة في أمر "تأثير البيئة الطبيعية في الأحوال البشرية"، ويخطئون خطأً فادحا عندما يزعمون أن اختلاف البيئات يؤدي – حتما – إلى اختلاف الثقافات. فيجب علينا أن نلاحظ، أولا الإنسان المتقدم، فإنه يتحرر من إسار البيئة بفضل علومه وصنائعه المختلفة؛ لأنه يكافح تأثيرات البيئة الطبيعية، وكثيرا ما يتغلب عليها، ويستفيد منها في قضاء حاجاته المتنوعة.
كما يجب علينا أن نلاحظ - بعد ذلك – أن " تجانس البيئة الطبيعية " مما لا يتحقق إلا بالنسبة إلى العشائر الصغيرة والأقوام البدائية. وأما الدول الكبيرة – والأمم العظيمة التي تؤلف تلك الدول – فإنها تعيش بوجه عام على مساحات فسيحة من الأرض؛ وهذه المساحات الفسيحة تشتمل - بطبيعتها – على كثير من البيئات والأقاليم المتنوعة. وكل ما نعرفه عن أحوال الأمم، يدل دلالة قاطعة على أن هذا التنوع لا يحول دون التوحد بوجه من الوجوه؛ ونستطيع أن نقول: إن الامة كلما كانت عظيمة، والدولة كلما كانت كبيرة، كانت البيئات الطبيعية التي تعيش فيها وتسيطر عليها أكثر تنوعا، وأشد تخالفا بطبيعة الحال.
هذا، ومما تجب ملاحظته بهذا الصدد أن البيئات الطبيعية المتنوعة قد تتمم ويكمل بعضها بعضا؛ ولهذا السبب، فهي لا تعرقل الوحدة، بل بعكس ذلك قد تستوجبها، وقد تزيد قوة وصلابة... وأما الذين يدعون أن توحيد الثقافة بين مختلف البلاد العربية، يضر بمصالح البلاد المذكورة، ويحول دون تقدمها، فإنهم يحاولون البرهنة على صحة مدعاهم هذا بقولهم: "إن التعليم يجب أن يختلف باختلاف البيئات، ومعاهد التعليم يجب أن تتنوع بتنوع الحاجات."
غير أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء يخلطون – خلال ملاحظاتهم هذه – بين الثقافة والتعليم؛ كما أنهم لا يميزون بين مواد التعليم وتفرعاته، وبين نظم التعليم وأهدافه. في حين أنه من الأمور التي يجب ألا تغرب عن البال في هذا المضمار، أن وحدة التعليم شيء، ووحدة الثقافة شيء آخر؛ وأن تنوع معاهد التعليم لا يعني تنوع الثقافة بوجه من الوجوه.
إن " توحيد الثقافة " لدى أمة من الأمم، لا يعني حمل الناس على تعلم أشياء متماثلة تمام التماثل...إنما يعني تنسيق أفكار الناس وعواطفهم تنسيقا يؤدي إلى وحدة معنوية سامية " مثل الوحدة التي تتكون من توافق وتلاحق عشرات الأصوات والأنغام الصادرة من عشرات الآلات المتنوعة والحناجر المختلفة..."، [ أما الدروس فيجب ] " أن تختلف ليس من قطر إلى قطر فحسب، بل من إقليم إلى إقليم، ومن مدينة إلى مدينة، داخل القطر الواحد أيضا؛ لأن الدراسة – لا سيما في المدارس الابتدائية – يجب أن تستند إلى ملاحظات الأطفال ومشاهداتهم المباشرة؛ وجميع الدروس...يجب أن تبدأ بملاحظة ما هو مشاهد ومألوف في البيئة التي يعيش فيها الطلاب، ويجب أن تستمد قوة من من ملاحظة البيئة المحلية على الدوام
(آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة، ص ص. 89- 93)
- 2-
( التكنولوجيا والبيئة المحلية )
عندما كنت معلماً للعلوم الطبيعية في إحدى ولايات البلقان التي أصبحت الآن جزءا من بلاد اليونان، كنت أكثر من التجوال في الربى والوديان، والحقول والبساتين، بغية درس الحيوانات والنباتات وجمع نماذج الحشائش والحشرات. وقد ذهبت مرة خلال هذه الجولات، إلى مزرعة رجل من رجال المعارف هناك. وعندما رأيت آلات الحرث البدائية المستعملة فيها، اقترحت على صاحب المزرعة أن يجلب الآلات الزراعية الحديثة، وقلت بنزوة الشاب الذي ينتهز الفرص لتطبيق ما لديه من معلومات: لا يجوز لك أن تستمر على الزراعة بهذه الأساليب القديمة والوسائط البدائية، وأنت من رجال المعارف في هذه البلاد.
ابتسم الرجل من كلامي هذا ابتسامة ساخرة، وقال:
- لقد جربت ذلك يا سيدي، جربته فعلا. غير أني ندمت على ما فعلت، وعدلت عنه تماما.
قال ذلك بأداء التحسر والتألم. وأخذ يسير معي نحو سقيفة كبيرة .. وهناك أراني المكائن الضخمة المهملة والمهجورة منذ مدة، قائلا:
- ها هي المكائن التي جلبتها، وخسرت من أجلها خسائر فادحة.
وفهمت عندئذ كل ما حدث، بكل وضوح وجلاء: قرر الرجل أن يزود مزرعته بالمكائن الزراعية الحديثة، وراجع لأجل ذلك مفتش الزراعة، راجيا منه التوسط لجلب المكائن اللازمة. والمفتش الذي كان – مثلي – حديث التخرج من المدرسة، أخذ يبحث في الكتب والفهارس التي بين يديه، عن أرقى المكائن وأكملها؛ ولما عثر على ضالته المنشودة – في الكتب والفهارس المذكورة – أسرع إلى جلب المكائن التي اختارها، دون أن يفكر فيما إذا كانت الخيول الموجودة في البلاد تستطيع أن تجرها، وأن تتحمل أثقالها؛ إذ من المعلوم أنه توجد في أوروبا أجناس خاصة من الخيول، تمتاز بقوة العضلات وقدرة الجر، فتستطيع أن تجر أضعاف ما تستطيع أن تجره أقوى الخيول الموجودة في هذه البلاد.
وأظن أنكم تستطيعون أن تتصوروا بسهولة، ماذا حدث بعد ذلك: وصلت المكائن الفخمة، وبدأت المحاولات لأجل استعمالها. وأدت هذه المحاولات إلى موت حصان واحد، ثم ثان، ثم ثالث...وعندما رأى صاحب المزرعة هذه النتائج الأليمة، أدرك أنه من الخير له أن يوقف الخسارة عند حدها، فترك المكائن جانبا، ورجع إلى آلاته القديمة، وصار يصم آذانه عن كل ما يقال عن الزراعة الحديثة!
وهكذا، إن تقصير الخبير الزراعي في بحث القضية من جميع وجوهها المختلفة، وعدم تفكيره في الأحوال المحلية أدى إلى أضرار عديدة. فإنه أوقع بصاحب المزرعة خسائر فادحة، وفضلا عن ذلك أساء إلى سمعة الزراعة الحديثة، وصار سببا لتأخر الإصلاح الزراعي في تلك الجهات سنوات طويلة، فقد استمرت الزراعة هناك تعتمد على الآلات القديمة، إلى أن يأتي أناس يجمعون بين العلم النظري وبين التفكير العملي، فيجلبون مكائن صغيرة، متناسبة مع قوة الخيول الموجودة، وإن كانت دون ماكينات المفتش بكثير، من حيث الرقي والكمال والحداثة!
إن هذه الملاحظة أثرت في نفسي تأثيرا عميقا، وزودتني بدرس ثمين، استفدت منه طول حياتي، في جميع أعمالي، الإنشائية والإصلاحية، استفادة كبيرة جدا.
( آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة ، ص ص. 60- 62)