خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعتبر الاتفاق الذي تمت صياغته في كانون أول 2014 في المؤتمر العالمي السنوي للتغير المناخي بمدينة ليما (عاصمة جمهورية البيرو) "اختراقا" معينا في المفاوضات الدائرة خلال العقدين الأخيرين حول انبعاث الغازات الملوثة. إذ، وللمرة الأولى، يفترض في إطار الاتفاق، أن تلتزم كل دولة، سواء متقدمة أو نامية، بالعمل على تقليص انبعاثاتها من غازات الدفيئة. لكن ، رغم ذلك، لا تزال الكثير من العقبات الجوهرية التي تحول دون حل أزمة المناخ التي تؤثر على مستقبل الجنس البشري.
فأولا، تعد التفاهمات التي صيغت في ليما، خطوة تمهيدية نحو مؤتمر المناخ الذي سيعقد في باريس خلال العام الحالي، والذي سيتخذ قرارات ملزمة فعليا للدول المختلفة. ولغاية انعقاد ذلك المؤتمر، ينبغي على كل دولة أن تعلن عن هدفها الأدنى الذي ستلتزم به لتقليل انبعاثاتها. وبالطبع، سيصاغ الهدف وفقا للمصالح والقيود الخاصة بالدول المشاركة. ويمكننا التقدير بدرجة عالية من اليقين، أن أهداف الدول المختلفة للحد من الانبعاثات لن تقترب (في حسبتها الإجمالية) من المستوى المطلوب الذي يوصي به العلماء. ووفقا لهذه التوصيات، يفترض الوصول إلى وضع لا يزيد فيه متوسط الارتفاع في درجة حرارة الأرض أكثر من درجتين مئويتين، قياسا بدرجات حرارة الأرض التي كانت سائدة قبل العصر الصناعي. هذا الهدف، قد يعتبر من الناحية العلمية تعسفيا، إذ من الواضح أن ليس كل انحراف عنه سيشكل كارثة بالضرورة؛ إلا أن مثل هذه الانحراف سيرفع بالتأكيد احتمال تفاقم الآثار الجانبية للتغير المناخي.
وثانيا، يمنح الاتفاق دول العالم، وبخاصة الدول الغربية الرأسمالية، مساحة لا نهائية تقريبا للمناورة، بحيث تستطيع من خلالها ملاءمة أهداف انبعاثاتها لاحتياجاتها ومصالحها الخاصة. فهو لم يحدد السنة المستهدفة التي سيتم فيها احتساب الانبعاثات؛ كما لم يضع معايير واضحة من شأنها السماح باحتساب ورصد معدل خفض الانبعاثات. وقد تبدو هذه التفاصيل تقنية، لكنها هي بالذات التي ستقرر، إلى حد كبير، الفرق بين التصريحات اللفظية والإنجازات الفعلية للأهداف، وبخاصة أن هناك فجوة كبيرة بين الكلام والواقع.
كما لا تزال قضايا جدية إضافية غير واضحة، وقد تخلق صعوبات كبيرة تحول دون التوقيع على اتفاق فعال في باريس. ومن أصعب تلك القضايا المساعدات التي ستقدمها البلدان الغنية إلى البلدان النامية، كي تتمكن الأخيرة من التكيف مع واقع التغيرات المناخية. فالبلدان النامية، وبمصداقية كبيرة، تطالب الدول الغنية التي أشبعت الغلاف الجوي بالغازات المسببة للاحتباس الحراري (غازات الدفيئة) على مدى السنوات المائة وخمسين الماضية- تطالبها بمساعدتها ماليا وتكنولوجيا، كي تنجز الهدف المشترك. وينبغي أن تتضمن تلك المساعدة دعما لتطوير مشاريع مثل توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة، كي تتمكن البلدان النامية من تقليل انبعاث غازات الدفيئة، وفي ذات الوقت توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها مثل المياه والكهرباء.
لكن، التحدي الأكبر الذي يواجه المفاوضات الدولية هو واقع سوق الطاقة؛ إذ أن استخدام الغاز والنفط آخذ في الازدياد في جميع أنحاء العالم، وفي ذات الوقت، أسعار النفط آخذة في الانخفاض. في مثل هذا الواقع، من الصعب أن نرى كيف ستعكس دول العالم الاتجاه، بحيث تبدأ في خفض انبعاثاتها الغازية في السنوات المقبلة.
في المحصلة، يمكننا القول بأنه وفقا لمفاهيم الأمم المتحدة، يعتبر الاتفاق الذي وقع في ليما في كانون أول الأخير "تقدما"؛ لكن، عندما يتعلق الأمر بالواقع على الأرض، فالحديث يدور عن وعود غامضة فرص تحققها ليست مرتفعة.
وهنا، من المفيد التنويه إلى بعض الدراسات الأممية الأخيرة التي أشارت إلى أن سرعة انبعاثات ثاني اكسيد الكربون تضاعفت وتجاوزت 3% سنويا خلال العقد الأخير؛ بل إن غازات الاحتباس الحراري سجلت في الأعوام الأخيرة مستويات قياسية جديدة.
وقد تؤدي هذه الانبعاثات الى ارتفاع في حرارة الكرة الأرضية بأكثر من 5 درجات مئوية حتى عام 2100؛ أي أكثر بثلاث درجات مئوية عن الحد الأقصى (درجتين مئويتين) الذي حدده العلماء قبل أن تبدأ فوضى مناخية. وخلال ذات الفترة، ازدادت الظواهر المناخية المتطرفة مثل الأمطار الغزيرة وموجات الحر، ويقدر الخبراء بـأن هذه الأحداث المناخية ستزداد خلال القرن الحالي.
دور الرأسمالية الأميركية و"مليارديرات الكربون" في تخريب النظام المناخي
في تقريره الذي نشر عام 2012، كشف المنتدى الدولي للعولمة عن الوجوه الرأسمالية الأميركية التي تقف خلف أزمة المناخ العالمية، وتجعل من الولايات المتحدة أكبر العقبات التي تحول دون تثبيت التزامات دولية متعددة الأطراف لتقليص الانبعاثات الغازية الخطرة المتسببة في تخريب النظام المناخي، علما أن الولايات المتحدة تعد من أكبر ملوثي الغلاف الجوي في العالم. وبين التقرير دور أبرز الرأسماليين الأميركيين الذين أسماهم "مليارديرات الكربون"، أمثال الأخوين شارلز ودفيد كوخ- في شل السياسة المناخية الأميركية التي أوصلت مفاوضات المناخ، في إطار الأمم المتحدة، إلى طريق مسدود.
وقد دأب أولئك الرأسماليون الذين يستثمرون أموالا هائلة في الوقود الأحفوري، إلى جانب شركات النفط الضخمة، مثل "إكسون"، على قتل أي احتمال لسن تشريعات أميركية خاصة بالمناخ، من خلال حملات التأثير المكثفة على المشرعين في الكونغرس ومجلس الشيوخ، وتمويل الأبحاث العلمية الهادفة مسبقا إلى إنكار وجود تغير مناخي سببه العنصر البشري، ومهاجمة قوانين الهواء النظيف، ومنع إزالة الدعم على الطاقة الأحفورية، وهجوم منظم ضد حق الوكالة الأميركية لحماية البيئة في تنظيم الانبعاثات الكربونية، ناهيك عن إعاقة عملية وضع معايير أقوى لمنشآت الطاقة الأميركية، ونشاطات أخرى تهدف إلى التأثير السلبي على السياسة المناخية. واعتبر المنتدى أن المفاوضين الأميركيين في محادثات المناخ يمثلون رأسماليي شركات النفط، ولا يمثلون الشعب الأميركي.
وفي الحقيقة، الدوافع الأميركية الأساسية للتفتيش عن بدائل للطاقة النفطية، ليست بيئية تهدف إلى الحد من الانبعاثات الكربونية، بل تجارية-اقتصادية-سياسية بالدرجة الأولى، نابعة من التخوف الأميركي من أي تغيرات أو انقلابات سياسية جذرية تطيح بالأنظمة الخليجية النفطية الحالية الحليفة للولايات المتحدة. لذا، الحسابات الأميركية هي تجارية – سياسية في المقام الأول.
بيت القصيد
بالرغم من كثرة المؤتمرات الدولية المختصة بالمناخ والتي عقدت في السنوات الأخيرة، إلا أنها لم تتوصل، لغاية الآن، إلى اتفاقات حقيقية مؤثرة، بل ما نلمسه هو مواصلة التسويف والتأجيل المتكرر من قبل الدول الإمبريالية للمشاكل المناخية الخطيرة.
فقد تميز نص اتفاق ليما بالكلام العمومي الفضفاض الذي لا يحمل الدول الصناعية الغربية المسئولية الأساسية في الانبعاثات الغازية، وبالتالي إجبارها على الالتزام بتخفيض الانبعاثات بنسب كمية كبيرة واضحة تتناسب مع الحقائق العلمية.
والأهم من ذلك، لم يساهم المؤتمر في تسهيل عملية تعميم المعلومات العلمية والتكنولوجية الخاصة بالسلع البيئية، وبالتالي، التعهد الغربي، في أي اتفاق مستقبلي، بكسر احتكار المعرفة العلمية والتقنية الخاصة بالمنتجات البيئية، والالتزام بتقديم المعلومات عن التكنولوجيا النظيفة.
مرة أخرى، جسد مؤتمر ليما تجسيدا واضحا المصالح السياسية المحلية الضيقة للعديد من الدول، وبخاصة الولايات المتحدة التي تعارض بقوة إبرام اتفاقية مناخية عالمية جديدة تفرض أهدافا محددة، بذريعة أنها تؤيد بلورة نظام مرن يترك المجال للدول المختلفة بأن تحدد بنفسها سقف مساهماتها!
كما لم نلمس أي "إنصاف" في توزيع جهود التحكم بسخونة الأرض بين دول الشمال والجنوب؛ علما أن الدول الأخيرة تعتبر، وبحق، أن الدول الأولى تتحمل المسؤولية التاريخية في اختلال التوازن المناخي، وبالتالي يجب أن يتاح لدول الجنوب ممارسة حقها في التنمية.
والحقيقة أن مبادرات الدول المختلفة لتخفيض مستوى انبعاثاتها الغازية لم تحقق اي نتائج ملموسة حتى الآن، من ناحية منع الارتفاع المتوقع لدرجة حرارة الأرض واحتوائه في إطار الدرجتين مئويتين اللتين حددهما العلماء قياسا بمستوى ما قبل العصر الصناعي؛ علما أن تجاوز هذا السقف سيخلخل بدرجة عالية النظام المناخي العالمي، وسيؤدي إلى مزيد من الفيضانات وارتفاع مستوى سطح البحار، وموجات الحر والجفاف.