بشير الصوص يحافظ على ارث العائلة مواجهاً الاستيطان
 |
 |
|
الأرض والزراعة تستحوذان على جل وقت وحياة المزارع بشير الصوص |
خاص بآفاق البيئة والتنمية
في الارض ذكريات لا تنسى...، قصص الاستيقاظ باكراً لقطف الثمار وجدّ الزيتون، والتجمع لتناول الفطور في كنف الطبيعة حيث تُشاهد الغزلان تتقافز بين التلال وتتوارى الزواحف بين الصخور، وتحط الطيور والعصافير على اشجار المشمش والزعرور والأجاص في تناغم طبيعي مع التلال الممتدة بلا حدود أو جدران. المشهد اليوم يبدو أكثر "وحشة" مع هجران الكثير من اصحاب الاراضي لأراضيهم بعد تصنيفها منطقة جـ وفق اتفاق اوسلو اواسط التسعينيات، وذلك بسبب القيود المجحفة على اصحاب الأراضي بمنع البناء أو شق الطرق أو مد المياه أو الكهرباء، ولكن في ذات الوقت هناك عشراتٌ من قصص التحدي للاحتلال ومجاهدة النفس والمال لإنعاش الارض وحمايتها من المصادرة عبر السلاح المنتج "الزراعة"، نعيشها مع قصة المزارع بشير الصوص:
كان أبي مزارعاً عاشقاً للأرض، كان يشتري مما يجنيه من تربية المواشي أراضٍ في وادي المخرور، فترك لنا إرثاً ثميناً "80 دونماً" زرعها بمختلف أنواع الأشجار المثمرة والزيتون وذكريات سترافقنا للأبد". يقول الخمسيني بشير وهو يتنقل برشاقة "ابن الأرض" من حاكورة لأخرى في أرضه الموشاة بألوان الخريف الصفراء وخضرة الزيتون الدائمة.
بشير يجسّد "الحب الموروث" للأرض من والده رفائيل والذي زيد على اهتمامه بها ترأسه لجمعيتين زراعتين في بيت جالا "جمعية عصر الزيتون"، و"جمعية دعم المزارعين".
 |
|
الشارع الاستعماري الذي جزأ بيت جالا إلى قطعتين |
المزارع بشير الصوص بجوار شارع المستعمرة والجدار العنصري الذي يسد الأفق الطبيعي لبيت جالا |
المخرور...كنز طبيعي مهدد
تتألف المخرور من أراضٍ زراعية تابعة لوادي المخرور غربي مدينة بيت لحم بالقرب من بيت جالا، والتي تبدأ من دير الكريمزان وتمتد إلى قرية بتير. للمنطقة ينابيع مياه عذبة تمر من وسط أشجار قديمة. تعتبر المنطقة "محمية طيور" لبعض الأنواع مثل الصقر العسلي، الطائر ذو الأذنين السوداويين، طائر الشمس الفلسطيني والحجل. بالإضافة إلى أنواع مختلفة من الحشرات والقوارض الموجودة في المنطقة.
"سمي وادي المخرور بهذا الاسم بسبب انسياب مياه الشتاء من أعلى التلال الى القاع فتنساب " تخر" باللغة العامية كالنهر الذي يستمر طوال اشهر الشتاء منعشاً الأرض" قال بشير وهو يجاور قصره "المنطار" الذي هو عبارة عن بناء اسطواني الشكل، ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار، وقطره أيضا ثلاثة أمتار، وفوقه، كان المزارع يضع عريشة من الحطب، والهدف من بناء المنطار، أن يمكث فيه المزارع بجانب كرمه، ويمكن، أن يراقب منه أيضا الكروم المجاورة ( المصدر: موقع مؤسسة فلسطين للثقافة ).
"أذكر رحمة جدي وجدتي، والأوقات التي كنا نقضيها برفقتهم في بيت الأرض وخاصة في ليالي الصيف، حيث ننام على السطح بعد أن نسهر لأكثر من منتصف الليل ونحن نغني الأغاني والأهازيج، وبعد الفجر نستيقظ متثاقلين بأمر من والدي لقطف ثمار المشمش، وكلما تذكرت تلك الأوقات اقشعر جسمي من برد الصباح الحاد، ولكننا بلا شك كنا نشهد منظر الشروق الساحر الذي ينكشف من خلف التلال". يتذكر بشير.
ويكمل بشير ذكريات ما قبل 30 عاماً، ويتحدث كيف كان يصيبهم الحنق من تسلل الغزلان خفية والتهامها لمحصول الخضراوات من فقوس وخيار وكوسا، فيلجأون لغرس الفزاعات في ارجاء الارض وتدعيم الأسيجة.
 |
|
المزارع بشير الصوص بجوار قصر المنطار القديم في أرضه الزراعية |
المزارع بشير الصوص لا يستطيع إضافة حجر واحد على منزله في بيت جالا لأنه يقع في ما يسمى منطقة ج حسب تقسيمات أوسلو الاستعمارية |
غريب في أرضي
"لم يكن هناك ذكر أو وجود لشارع 60 والاستيطان المكمل له، كان الوجود الاسرائيلي شبه معدوم، اليوم انتشر الاستيطان كالنار بالهشيم وصرنا نحن الغرباء في أرضنا" يتحدث بشير من أمام بيته الصغير الذي لا يقدر على ترميمه أو توسيعه.
ومن الهام ذكره، اقتطاع شارع النفق الاستيطاني والذي قسم اراضي بيت جالا الى قسمين لـ 4 دونمات من أرض بشير، كما صادر عشرات الدونمات من منطقة وادي المخرور والتي يهددها أيضاً مخطط لإقامة جدار حدودي آخر.
ونقلاً عن موقع "مؤسسة أريج" فيعد وادي المخرور مكاناً مستهدفاً من الاحتلال لموقعه الاستراتيجي الرائع، حيث يحده من الشرق الطريق الالتفافي المؤدي إلى النفق وبيت جالا، ومن الشمال قرية الولجة، ومن الغرب قرى العرقوب "حوسان وبتير" ومن الجنوب قرية الخضر، وتبلغ مساحته الإجمالية 3500 دونم، مزروعة بأشجار اللوزيات والزيتون، وتعود هذه الأراضي لمعظم أهالي بيت جالا.
 |
|
المزارع بشير الصوص يؤمن بأن الزراعة هي سلاحنا للدفاع عن أرضنا |
بشير الصوص وأعشابه الطبية |
زوار طبيعة لا يحترمونها
في أرض عائلة بشير الواسعة والتي تنتهي عند حدود الشارع الاستيطاني 60 تنتشر هنا وهناك مخلفات الاستهلاك البشري من علب الغذاء المصنع وقناني شراب وأكياس بلاستيكية، حولها يقول: " للأسف كثير من الشباب يأتون للسهر في هذه الارض مستغلين عدم نومنا فيها، فيقتحمون الارض دون استئذان ويقومون بشرب الخمور وفوق كل ذلك يتركون نفاياتهم وراءهم، عدا عن إشعالهم للنار وجلوسهم حولها ما يشكل خطراً على الزرع في حال لم يتم اطفاءها".
كما أن مشهد اشجار المشمش المقطعة في بداية حدود أرض بشير تثير التساؤل عن سبب قطعها، يجيب عن ذلك بحسرة: " لست انا من بقطع شجرة مثمرة تسبح ربها وفيها من رائحة أبي الذي زرعها ورعاها، ... هذه الفعلة من شبان غير محترمين انتقموا مني حين نهرتهم عن دخول ارضي بغرض الشرب بأنني سأبلغ الأمن الفلسطيني، فانتقموا مني بقطع شجر عمره أمتد لعشرات السنين".
يرحب بشير بزيارة مجموعات من طلبة الجامعات لأرضه لقضاء أوقات تعليمية وترفيهية وسط الطبيعة، كما يستقبل المتطوعين الاجانب لمساعدته في جد الزيتون، وفي ذات الوقت التعرف على عادات الشعب الفلسطيني وتقاليده وواقع حياته العسيرة في ظل الاحتلال.
 |
|
بشير الصوص يعتني بالقرنبيط في أرضه |
بيارات أسرة الصوص الممتدة على مساحة 80 دونما في وادي المخرور ببلدة بيت جالا |
الزراعة رغم المياه الممنوعة
في الشتوية يزرع بشير الذي أخذته شؤون الأرض ومزرعة الماشية من أمور كثيرة: الملفوف، الزهر، السبانخ، البصل، الثوم...، الأعشاب الطبية، وفي الصيف البندورة والكوسا والخيار والفقوس، لغرض الاستخدام العائلي وما يزيد عن الحاجة يبيعه للسوق، ولكن تبقى المشكلة الحقيقية في اراضي وادي المخرور هي نقص الماء بسبب قيود الاحتلال على تلك المنطقة.
"يمنع حفر الآبار أو تمديد المياه وما يحدث من قبل المزارعين هي خطوط تمد عن طريق الخفاء، القصد ابعادنا عن أرضنا وبالتالي هجرانها فيسهل مصادرتها واقامة المستوطنات عليها" يؤكد بشير.
يستخدم المزارع -الذي تبدو عليه علامات الحياة الكادحة لتواجده كثيراً في الارض وتحت اشعة الشمس- السماد العضوي من مخلفات حظيرة الماشية التي تملكها اسرته حيث يقوم بوضعها حول الشجرة ومن ثم طمرها، وينتظر سقوط الامطار حيث يتغلغل السماد في الارض فيقتل البكتيريا الضارة والأمراض، كما يستخدم مصائد الذباب خاصةً "ذبابة البحر المتوسط" التي تصيب حبة الزيتون وتقلل من انتاج الزيت.
يرأس بشير اليوم جمعية بيت جالا لدعم مزارعي اراضي (وادي المخرور وواد أحمد والكريميزان)، من حيث توزيع بذور وأشتال وتنظيم ورشات زراعية وتأمين منح لترميم القصور والجدران الاستنادية وتعزيز صمودهم في أرضهم وتسويق منتجاتهم، فيما تختص الجمعية الثانية في الذهب الأخضر أي (الزيت والزيتون) من خيرات أراضي المحافظة".
زارت آفاق المعصرة ولاحظت خطوات عمل عصر الزيتون من غسل الثمر ومن ثم هرسه وعجنه، وبعد ذلك عصر الخليط المهروس وفصله ثم انزال الزيت وما يسمى بالجفت، وبعد الفصل يتم ضخ الزيت الى المصفاة الاخيرة حيث يتم اضافة الماء الساخن مع الزيت لغسله وفصل الاوساخ والترسبات من الزيت، ويصب الزيت في عبوات خاصة، فيما يتم الاستفادة من مخلفات العصر " الجفت" في انتاج وقود للماكنات ما يقلل من تكلفة الانتاج ويحافظ على البيئة عبر تدوير مخلفات صناعة الزيتون.
 |
|
تصنيع الكمبوست في مزرعة عائلة الصوص ببلدة بيت جالا |
حقل المزارع بشير الصوص الجميل والغني بأشجار المشمش والزعرور والفاكهة والزيتون |
انتاج الجفت خطوة صديقة للبيئة
"كان تصنيع الجفت في الماضي ملوثاً جدا للبيئة حيث يلقى على الارض الزراعية وتتغلغل مادته الى اعماق الارض فتحرق جذور النبات"، لكن يلفت بشير إلى ان الحال تغير اليوم للأفضل، فمنذ 10 سنوات يتم اعادة استخدامه عبر ضغطه في ماكينات وبيعه على شكل قوالب اسطوانية.
وحسب موسم الزيتون تختلف الكمية، لكن في العام الماضي على سبيل المثال، تم انتاج 150 طناً بيعت كلها في فترة الشتاء، حيث يستخدم كبديل طبيعي للوقود في المدافئ، كما تستخدمه المعصرة في افران تسخين المياه، الأمر الذي وفر كثيراً على الجمعية من تكلفة استهلاك الوقود من 100 الف شيقل سنوياً الى خُمس التكلفة.
 |
|
زيت عائلة الصوص في معصرة بيت جالا |
عائلة الصوص في بيت جالا تستخدم جفت الزيتون للتدفئة بدلا من خشب الأشجار |
لماذا لا نرى مشاريع تنموية تستهدف مزارعي بيت جالا؟؟
يلفت بشير إلى أن مستقبل المزارعين في بيت لحم لا يبشر بالخير، نحن نطلب من السلطة ووزارة الزراعة ان تلتفت لمنطقتنا في بيت لحم بجدية وتدعمنا بكافة الوسائل للحفاظ على الأرض، وصدقا لو تم دعم منطقة بيت جالا وأراضي مناطق وادي المخرور والكريميزان وواد أحمد، لتضاعف الانتاج وانتعش الاقتصاد الفلسطيني بإنتاج سنوي يصل الى 40 طن من كل صنف، ما سيدحر المنتج الاسرائيلي بعيداً عن أسواقنا.
ويتساءل بشير: "ألاحظ ان كل الدعم لقرى فلسطين باستثناء مناطق بيت جالا وبيت لحم، مع ان المزارع في تلك المناطق هو بأمس الحاجة للدعم الحكومي والمنح لتعزيز صموده في أرضه المهددة بالمصادرة".
وختم: "اريد ان افتح مشروعاً صغيراً في منزلي الصغير في وادي المخرور لبيع منتجات غذائية من ارضي للزوار السائرين في مسار بتير، مع استراحة تحت الشجر وتأمل بين أكناف الطبيعة وللأسف في ذات الوقت رؤية الأفق المحجوب بالجدار الاستيطاني".
 |
 |
عصر زيتون عائلة الصوص في معصرة الجمعية التعاونية لعصر الزيتون في بيت جالا |
وادي المخرور كما يبدو من شباك منطار حقل عائلة الصوص |