رحلة مع اللوز.. من البحر الميت إلى القدس والجليل
خاص بآفاق البيئة والتنمية
في كُل موسم لوز، تبدأ رحلة استكشاف أشجار اللوز بحثًا عن "لوزة" حُلوة ومميزة. ولعلّ الفخر كل الفخر يكون من نصيب من يأتي بأول حفنة لوز في الموسم، فيظهر وكأنه الخبير بالمنطقة وباللوز. ومع هذه "الرحلة" نسمع أحيانًا بمسميات وأصناف اللوز التي بدأت تختفي أصلًا ولم تعد تُذكر إلا نادرًا. وسوف نحاول في رحلتنا هذه أن نغوص في بعض من حكاياتها لحفظ شيءٍ من هذه المعرفة البيئية التقليدية التي قد تنقرض يومًا.
|
في كل موسم لوز، تبدأ رحلة استكشاف أشجار اللوز بحثًا عن "لوزة" حُلوة ومميزة، ولعل الفخر كل الفخر يكون من نصيب من يأتي بأول حفنة لوز في الموسم، فيظهر وكأنه الخبير بالمنطقة وباللوز.
ومع هذه "الرحلة" نسمع أحيانًا بمسميات وأصناف اللوز التي بدأت تختفي أصلًا ولم تعد تُذكر إلا نادرًا، وسوف نحاول في رحلتنا هذه أن نغوص في بعض من حكاياتها لحفظ شيء من هذه المعرفة البيئية التقليدية التي قد تنقرض يومًا.

فتاة تجمع اللوز في أراضي قرية خريش المُهجرة بين كفر برا وجلجولية - تصوير عمر عاصي
الحقيقة أن الحديث عن "الانقراض" لا يطال "المسميات" فحسب. يشير الباحث سامح جرار في دراسة له حول التنوع الحيوي إلى أخطار كبيرة تواجه اللوز البلدي (اليابس) والبرّي، وذلك لأن " الكثير من تلك الأنواع فُقدت نتيجة هِرم الأشجار وضعف إنتاجيتها دون أن تُكثر وتُزرع مره أخرى من قبل المزارع، أو نتيجة الزحف العمراني، أو بسبب استبدالها بأنواع أخرى مدخلة غير متأقلمة مع البيئة المحلية، إضافة إلى عدم وجود هيئة حكومية أو غير حكومية مهتمة بدراسة وحفظ تلك الأنواع من خطر الانقراض.
علمًا أن ثمة أنواع عالية الجودة يمكن الاستفادة منها جيدًا على المستوى الاقتصادي، عدا عن الأمراض التي أصابت الأشجار وأدت إلى اختفاء بعضها مما يتطلب اهتمامًا وطنيًا لحمايتها.
ويضيف جرار: "الخطورة تزداد بالنسبة للوز البري، لأنه يتواجد في المناطق الهامشية والرعوية، ما يجعله عُرضة للتحطيب والرعي الجائر لعدم إدراك أهميتها، وهو ما يهدد التنوع النباتي في المنطقة".
نبدأ جولتنا من منطقة البحر الميت، حيث يوجد "اللوز العربي Amygdalus Arabica" وهو من أصناف اللوز التي تتواجد في المناطق الجنوبية الصحراوية والبحر الميت، إذ لا يزيد معدل الأمطار عن 150 ملم، ويُعد من أكثر الأنواع تحملًا للجفاف، وهو من الأصناف المهددة بالخطر، ويتميز بنواته القاسية جدًا وطعمه المر.

https://www.wildflowers.co.il/hebrew/picture.asp?ID=17108
ومع أن ذكر اللوز يرتبط غالبًا بجبال القدس والجليل، إلا أن للوز في غزة حكايته، فقد بلغت مساحة الأراضي المزروعة بأشجار اللوز الأخضر عام 2016 بحسب تقرير لصحيفة الحياة الجديدة حوالي 1000 دونم.
ثم نجد تقريرًا نُشر في عام 2018 للكاتب نائل حمودة، يذكر بأن المساحة أصبحت 800 دونم، وأن اللوز مهدد بالانقراض على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة وتحديدًا في منطقة القرارة شرق خان يونس.
وأفاد بأن السبب هي التوغلات الاحتلالية والمبيدات الحشرية التي تساهم في انقراض هذا الصنف، ثم في عام 2022 نشر موقع فلسطين أون لاين تقريرًا يشير إلى أن مساحة اللوز في غزة تقلّصت لتصبح 365 دونمًا، كُل دونم يُزرع فيه 40 شجرة بالمعدل، ويكون معدل إنتاجها طنًا وربعًا.
ويُعد الصنف البلدي من أشهر الأصناف في غزة نظرًا لقدرته على التأقلم مع الظروف المناخية، وإلى جانبه يزرع "اللوز الأميركي" لحبته الكبيرة.
نترك قطاع غزة، إلى جبال القدس والخليل حيث نجد اللوز حاضرًا وبقوة، خاصة أن اللوز يُعد من الأشجار المطرية، وتكثر الأمطار في هذه المناطق الجبلية، إذ تصل كمية الأمطار في بعض المناطق إلى 700 ملم، وقد تزيد لتصل إلى أكثر من ذلك في بعض المواسم المطرية.
ولو بحثنا في معجم فلسطين الجغرافي المفهرس (المعروف بـ Palestine Index Gazetteer) سنجد عددًا من المواقع ارتبطت تسميتها باللوز موجودة في هذه المنطقة الجغرافية، مثل "دير أبو اللوز" و"جُرن اللوزة" و"خربة اللوز" "وخربة أم اللوز" وحوالي 20 تسمية ترتبط باللوز، هذا غير بعض التسميات التي لم تُذكر في الفهرس مثل عين اللوز في سلوان ولو بحثنا أكثر سنجد المزيد.
لعل أشهر هذه القرى، هي "خربة اللوز" القرية المهجرة في قضاء القدس والتي ما زال فيها عددًا كبيرًا من أشجار اللوز، تمامًا كما هو الحال مع قرية صطاف القريبة والمتميزة بمدرجاتها الزراعية التي كانت تزُرع بعلًا أو جنانها التي كانت تُزرع بالاعتماد على مياه الينابيع والعيون الكثيرة في المنطقة.
وقد ورد في دراسة حول المشهد الطبيعي في القرية، أن أشجار اللوز كانت منتشرة في أنحاء القرية كافة (وين ما كان في لوزيّات)، بينما الرُمان مثلًا، انحصر حول مصادر المياه.
بالاتجاه شمالًا، نتوقف قليلًا في "خربة قيس" في محافظة سلفيت التي اشتهرت كذلك بكثرة أشجار اللوز فيها، وتحديدًا الصنف الذي يُسمى "حامي حاله" ويتميّز بطعمه شديد المرار، عندما يكون أخضرًا بينما يصبح حلو المذاق وذا نكهة ممتازة عندما يجف كما أخبرنا نجيب الداهوكي من مجموعة حكي القرايا.
إذا ما انطلقنا نحو الشمال أكثر، نجد قرية قُرب نابلس تدعى "طلوزة" والتي تعود تسميتها إلى "تل اللوز" أصلًا، لكثرة أشجار اللوز فيها.
ومن الجدير بالذكر أن هناك خلافات حول تفسير "التسمية"، من جانبه يرى الكاتب علي أبو زريق أن التسمية جاءت من كلمة آرامية قديمة هي "طروشة" ومعناها الطين اللزج الناجم عن غزارة الماء والتربة الطينية، حيث كان موقع طلوزة الأول، منطقة رأس الفارعة.
وما دمنا في سيرة الطين واللوز، فلا بد من الإشارة إلى أن "ترب النزاز" كلمة عربية تشير إلى طبقة من التربة والصخور الطينية التـي لا تسـمح إلا بكميات قليلة جداً من الماء بالخروج منها.
وتعد أشجار اللوز البرية من الأشجار السائدة فيها إلى جانب الكينا والأكاسيا والصنوبر الحلبي والسرو، كما ذكر الباحث رسمي العمري في دراسته حول "الحدود البيومناخية للنبات الطبيعي في فلسطين".
نبقى في بلاد نابلس، ولكن في قرية دير شرف، فنجد "محمد فقهاء" من مجموعة حكي القرايا يُخبرنا عن صنف "قرن الغزال" الذي يصفه بأنه "أزكى" الأصناف ويتميز بحبته الطويلة وحلاوته.
هذا الصنف يعيدنا إلى تسميات بديعة أخرى لنفس الصنف مثل "قرن الموز" أو "لوز موازي"، وقد أطلقت هذه التسميات على هذا الصنف لتشابهه مع قرن الموز.
في نفس المضمار، نجد تسمية "فقوسي" تُطلق على لوز "عوجا" أو "عواجي" وهو من أشهر الأصناف في فلسطين وبلاد الشام وتكثر التسميات فنجد كذلك "اللوز البُندقي" ونجد لوز "بوز العجل".
ومن أشهر الأصناف في فلسطين، اللوز المُخملي، وعنه تقول هيفاء زيتون من "حكي القرايا": "أعشق هذه الشجرة بكل مواسمها نوار وورق وحمل لذيذ، أحب النوع المخملي الأخضر اللذيذ، وأحبه بعد انتهاء الموسم بعد ذبول القشرة الخضراء وسهل التقشير طيب أبيض لذيذ، وفي آخر حالاته عندما تقسى اللوزة ويصبح لونها بنياً ونسميه "لوز فريك" سهل التقشير".

لوز مخملي - من صفحة جنين
بعد هذه الوقفة، ننتقل إلى طوباس، حيث نجد اللوز الطوباسي في قرية عقابا التي كانت تلّقب "سيّدة اللوز"، وقد بلغت مساحة الأراضي المزروعة باللوز فيها 3000 دونم، ولكن الزراعة تراجعت أخيرًا، كما أوضح لنا المهندس الزراعي نور الدين اشتية وذلك بسبب بعض الأمراض التي أصابت الأشجار.

لوز عواجي - من صفحة اخبار كفرعوان
إلى الغرب منها نجد أن قرى علار ودير الغصون من قرى محافظة طولكرم تشتهر بالأصناف مبكرة الإنتاج والتي تبيع اللوز في بداية الموسم بأسعار لا تقل عن 70 شيقلًا للكيلو.

لوز جلاطي ديراوي من دير الغصون قضاء طولكرم - من صفحة طارق عطوه
نتجه شمالًا مرة أخرى، لنصل إلى أم الفحم، وهي بلد الصنف التجاري الأكثر شهرة، وهو المعروف بصنف أم الفحم وله تسمية أخرى هي "حسن الأسعد"، وقد بلغت الشهرة بهذا الصنف أن زُرع في أقطار عربية عديدة منها مصر وتحديدًا في منطقة برج العرب قرب الإسكندرية، كونه من أصناف اللوز الخصبة ذاتياً، حيث ينجح التلقيح والإخصاب في نفس الصنف، هذا غير أنه يعد من الأصناف ذات العوائد الاقتصادية الجيدة.

من دليل زراعة اللوز المروي: https://www.maan-ctr.org/https://www.maan-ctr.org/magazine/files/server/Publications/Agenda/Almond-Brochure.pdf
أما حكاية هذا الصنف، فبحسب موقع شركة تلس المُختصة بالصناعات الغذائية في أم الفحم، فإن أصل هذه الشجرة من سوريا، أحضرها الى فلسطين شخص يدعى حسن الأسعد من أم الفحم، وذلك في أيام الدولة العثمانية وبعد زراعة عدة أشجار من هذا الصنف لاحظ الفلاحون جودة نوعيتها مقارنة بالنوع البلدي المعروف لديهم يومها (النوع البلدي ذو القشرة الصلبة الخشابة بنوعيه المر والحلو) فأخذ الفلاحون يأخذون التراكيب الزراعية منها لتحويل أشجارهم الى هذا الصنف الجيد، وأخذوا ينسبون هذه الشجرة إلى صاحبها الأول (حسن الأسعد).
رغم اشتهار أم الفحم باللوز، إلا أن قرية طيرة حيفا الواقعة شمال غرب أم الفحم وتحديدًا على المنحدرات الغربية لجبل الكرمل، قد اشتهرت بكثرة أشجار اللوز حتى صارت تُسمى "طيرة اللوز" وطيرة حيفا كانت من أكبر قرى قضاء حيفا بل وقرى فلسطين عامة، فقد بلغ عدد سكانها عام 1948 أكثر من 6000 نسمة، وقد هُجر معظمهم من فلسطين إلا أن ثلة من أهلها صمدت في القرية لعام 1970 قبل أن يُهجّروا وما زال عدد قليل من أهلها في أراضي القرية حتى اليوم، كما ما زال بالإمكان التجول في أراضيها قرب وادي العين وعين المغارة والاستمتاع ببعض ما تبّقى من اللوز فيها، ولعله هو الصنف الذي اشتهر بين أجدادنا بـ"الفرك الحيفاوي".
عندما نتجه إلى الشمال أكثر فأكثر، في مناطق مدينة صفد المُحتلة في الجليل الأعلى، نجد نوعًا من أنواع اللوز النادرة في فلسطين، يكثر في المناطق الصخرية هناك، ويسمى اللوز الشرقي Amygdalus orientalis وأكثر ما يميزه أن هذا النوع يتحمل الجفاف تماماً والبرودة. كما أنه يستطيع أن يعيش على الأتربة الكلسية، وكان يُستخدم سياجًا للحقول الزراعية بسبب كثافة الأشواك الموجودة في أغصانه، كذلك يُستخرج من بذوره الصموغ وبعض المواد الكيميائية الأخرى لاستخدامها في الصناعات التجميلية، كما أورد الباحث سامح جرار.

https://www.jungledragon.com/image/117169/amygdalus_orientalis.html
وبما أننا قد وصلنا أقصى شمال فلسطين، فلا بد أن نذكر اللوز الشامي الذي يُسمى في فلسطين جلاطي أيضًا، وهو من الأصناف المميزة الذي يتميز بالطراوة وشيء من الحموضة، وهو ما يعطيه طعمًا مميزًا مقارنة بالصنف البلدي ولذلك نجده يُباع بسعر أغلى.
ومع ذِكر الشام لا بُد أن نذكر بأن محافظة حمص التي يزرع فيها عدد من الأصناف مثل "عوجا" و"ضفادعي" الذي يستهلك "أخضرًا" ولكن "تكاليفه التسويقية عالية، بينما الصنف الفرنساوي يُعد هناك من الأصناف ذات الكفاءة الاقتصادية الأعلى، أما الصنف البلدي فهو من الأصناف ذات التكلفة الأدنى، كما جاء في دراسة تحليلية لتكاليف إنتاج وتسويق اللوز البعل في محافظة حمص.
ختامًا، كُل هذه التسميات والحكايات تؤكد ما تذكره الكاتبة رضوى عاشور في روايتها الشهيرة "الطنطورية"، حيث تقول: "وحدها شجرة اللوز تتسيّد ربيع البلاد، ملكةً بلا منازع" وحقًا هي "سيدة الربيع" كما أن العنب "سيد الصيف" وكما أن الزيتون "سيد الخريف"، وهي تضفي جمالًا على الحيز، كما أن الاهتمام بها لا يزال حاضرًا وبقوة بين الأجيال الشابة، رغم كُل محاولات تغريبهم عن بلادهم وخيراتها.