"جباريس": الجمال المنسي...
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أطلال جباريس
شقَّت مركبة الدفع الرباعي للمهندس الزراعي عبد الله العمري طريقها نحو خربة صغيرة ومنسية في الأغوار الشمالية، بعد جولة أمطار متأخرة، نهاية آذار.
كانت وجهة الفريق البحثي إلى جباريس، والذي ضم كلاً من المصور المختص بتوثيق الحياة البرية المهندس عماد دواس، والباحث الشغوف بالتنوع الحيوي والمسارات خالد أبو علي، والصحافي عبد الباسط خلف.
تبعد القرية التي هجَّر الاحتلال أهلها إبان نكسة 1967، نحو 14 كم شرق طوباس، وتفصلها طرق وعرة وممرات في حواف التلال المكسوة بالتنوع الحيوي. لكن مركبتنا علقت في منتصف المسير، بسبب إتلاف دبابات الاحتلال للطرق الصعبة، واحتجنا وقتًا للخروج من الوحل، فيما أرشدنا شاب يسكن منطقة قريبة، ويعتاش في الربيع من جمع نباتات العكوب الشوكية إلى طريق بديل صلب.
في الأفق القريب يمكن مشاهدة الجبال الأردنية، والطريق المؤدي إلى بيسان، ومستعمرة مقامة على قمم جبال جنين تشتهر بطاقة الرياح، وحقول فقيرة مهملة، وأخرى معهودة، وقطعان أبقار وماشية،.
|
|
اطلالة جباريس على جبال الاردن |
الباحث خالد ابو علي |
تنوّع في عين النار
طوال الطريق المتعرجة، وبعد خربة إبزيق، التي تتحول كثيرًا إلى ساحات رماية بالذخيرة الحياة لجنود الاحتلال، يمكن مشاهدة طيور كالبومة، والعويسق، والحوام طويل الساق، والحجل، فيما تتنافس نباتات عديدة على منح الأرض ثوبًا ربيعيًا متناسقًا.
أخبرني الصديق عماد دواس عن فيديو أنتجه قبل عامين عن الخربة الجميلة، ووصفها بـ"صيدلية" طبيعية، وقبل ذلك لجأ إلى محركات البحث طمعًا في معرفة ما كُتب عنها، لكنه صُدم وخرج خالي الوفاض، وشاهد النتائج عن مدينة باريس!
شعر بالأسف بعد أن وجد المعلومات شحيحة، ولا تعكس أهمية الموقع السياسية حيث يقع في قلب المنطقة الفاصلة بين نهر الأردن والأجزاء المأهولة من طوباس والأغوار الشمالية، ولا تعطيه ما يليق بقيمته التراثية والحضارية، كون المنطقة تضم واحدة من أجمل القرى المهجرة بعد عام 1967.
|
|
الطريق إلى جباريس |
المصور المختص بتوثيق الحياة البرية المهندس عماد دواس |
زوايا خضراء
ذهب كل واحد فينا إلى زاويته، وأمضى المصور عماد وقتًا طويلًا برفقة عدسته الثقيلة ومعداته في توثيق عصفور الشمس، اتخذ من شجرة خروب باسقة موئلًا، والتقط في ربوة مكسوة بالرتم والقندول مشاهد تكاثر السلاحف، وصورًا أخرى لأعشاش الحجل، وكان يأمل في لقطة لغزال الجبل الفلسطيني، لكنه عاد بصور للعويسق، والبومة، والطائر الوطني لفلسطين (عصفور الشمس).
فيما انكّب المهندس العمري على جمع أغصانٍ غضة من زيتون المنطقة لينقلها إلى مقر عمله في مركز البحوث الزراعية، كون هذه الأشجار نادرة، وهي أصل الزيتون البري، الذي يُقدر عمره بآلاف السنين، لكنه يا للأسف صار عرضة للقطع الجائر، وفي السابق كان وجهة للباحثين لتحسين كرومهم من الشجرة المباركة، من مناطق بعيدة.
وتابع العمري البحث عن اللوز المر، وهو عُرضة للتهديد، فوجد شجيرات منه، تجود ببعض ثمارها، وضرب معها موعدًا للعودة في مسار صيفي، آملًا في الحصول على ثمارها الجافة، وزراعتها، وتكثيرها.
وبدوره أكد أن اللوز مختلف عن الصنف الشائع، فأشجاره أقل ارتفاعًا، وورقه قليل العرض، وثماره أكثر استدارة، وطعمه مر، ولكنه مستساغ.
جباريس
فيما توزعت اهتمامات أبو علي على جبهتي التنوع الحيوي والآثار المعمارية، فالتقط الكثير من الصور لسوسنة الشفا النادرة والمهددة، وللبطم الفلسطيني، والكلخ، والأقحوان، والسوسن الشبكي، وكعب الغزال، والقريص، والخروب، والسريس، وأمضى وقتًا في تفحّص حجارة خربة جباريس، مؤكدًا أنها رومانية، من طريقة العمران، وتكوينات الفخار والآبار، التي كانت تُجمع فيها المياه والنبيذ بكثرة.
واقتنص أجزاء من الحجارة والفخار، فيما حاول البحث عن الفسيفساء التي تقول بعض الروايات الشفوية ومعلومات الأهالي إنها موجودة، لكن الغطاء النباتي الكثيف والمتشابك، والإهمال حالا دون الوصول إلى الهدف المنشود.
وأشار أبو علي إلى أن السير في جباريس يكشف للمرء مدى التنافس بين النباتات الأجمل، حيث تتبارى في تقديم رحيقها، وتتفاخر بألوانها، بين الأصفر كالقندول، والأبيض كالرتم، والبنفسجي كالكتان، والأحمر كشقائق النعمان، والنادر مثل سوسنة الشفا.
|
|
المهندس الزراعي عبد الله العمري |
فريق البحث في جباريس |
تاريخ ومقاومة
وفق ما جمعناه من روايات ومعطيات من مواطنين كمصطفى فقهاء، الرئيس السابق لمجلس عين البيضاء، فإن الخربة أقيمت على جبال بين بزيق وبردلا وترتفع 300 متر عن سطح البحر، وكان يعمل سكانها بالرعي والزراعة، لكن الاحتلال قصفها بقذائف المدفعية، كما اقتحمتها الدوريات العسكرية وأخلت المواطنين بالقوة، وكانت أرض معركة حامية الوطيس.
ويربط كثيرون بين الخربة والمهندس مازن جودت أبو غزالة، أو (سيد حجاب) الذي ارتقى في معركة جباريس عام 1967، بعد رفضه الاستمرار في العمل مفوضًا سياسيًا لـحركة "فتح" في دمشق.
وقال وقتها:" انتهى دور القلم، وجاء دور الرصاص"، وترك الهندسة وفنونها، وجاء للخربة الصغيرة، فيما حاولت فعاليات وطنية إعادة الوصول إلى مكان ارتقاء أبو غزالة، ووضع نصب تذكاري قبل 3 أعوام، إلا أن الاحتلال منعهم من الوصول، على مشارف إبزيق، كما أكد أحمد أسعد، نائب محافظ طوباس والأغوار الشمالية.
|
|
في أكناف جباريس |
قرية جباربس المهجرة |