شذرات بيئية وتنموية.. معادلة الأرض ورثاء ومنافسة وجنين ومعلمون
خاص بآفاق البيئة والتنمية
إتلاف محصول الخيار عام 2018 لتدني أسعاره
بدأ اهتمامي الإعلامي بالشأن الزراعي منذ عام 1996، وكانت بدايتي في النشر بجريدة" الفجر" حول هموم مزارعي البرتقال عام 1988، قبل أن تجف أو تقتلع هذه الحقول.
تواصلتُ مع وزراء الزراعة - منذ عهد السلطة الوطنية - كلهم، وغالبية الوكلاء، وتتّبعت الكساد الكبير وإتلاف أطنان عديدة من الخيار، والبطيخ، والبندورة، والقرنبيط (الزهرة بلغتنا)، والكوسا، والشمام، وغيرها من المحاصيل.
وكنت شاهد عيان على التخلص من حقول في ذروة موسمها، وتقديمها طعامًا للماشية؛ لتدني أسعارها (مثلاً بيع صندوق الباذنجان في بعض المواسم بأقل من 5 شواقل، ولم تجد البندورة من يقدم على شرائها في السوق المركزي، وكان سعر البطاطا بأقل من التكلفة).
دون إطالة، ومن أجل إنصاف حراس الأرض، والمستهلكين، والوزارة، لم تعد الزراعة مهنة مجزية لكبار الفلاحين، وهي بالكاد توفر حياة كريمة لمن يشتغل مع أفراد عائلته في أرضه، وثمة معضلة في الأيدي العاملة، وأسعار البذور والأسمدة والأدوية باهظة جدًا (ارتفعت أسعار بعض المدخلات أكثر من 100% في وقت قياسي، وهناك أدوية بأكثر من500 شيقل للتر الواحد).
ويتضرر الفلاح بالحر الشديد، والبرد القارس، وبالرياح العاتية، والأعياد، والمواسم، ومزاج الأيدي العاملة، وبالأمطار في وفرتها، وشحها، وانحباسها، وتأخرها، وزيادتها، وتوقيتها.
تعاني الزراعة غياب التخطيط والرقابة، وهشاشة الاتحادات الزراعية، وعدم قدرة الوزارة على تدخل يساوي دور هذا القطاع وحيويته، وفوضى التسويق، ولأنها مهنة مكشوفة تطاردها العيون والآلات الحاسبة، بعكس التجارة والمهن التي تعقد صفقاتها في الظل.
هاكم مثالًا: حتى تصل حبة البندورة (حديث الناس اليوم) تدخل سلسلة طويلة، هناك ضريبة من السوق المركزي، وتكلفة نقل، ويأتي تجار التجزئة لتسويقها، فيشترون مثلاً صندوق البندورة بثلاثين شيقلًا، ويضع بعضهم هامش ربح 100% فيه نظير تسويقه (أي أنه يربح أحيانًا أكثر من المزارع أو يتساوى معه في الربح).
بعضهم يطرح شعار التسوق المباشر (من المنتج للمستهلك) لكن الأمر يجري على نطاق ضيق، وموسمي، ويستوعب كميات صغيرة.
بالمناسبة، أسعار مستعمرة (رامي ليفي) ليس كما جرى تداوله، صحيح أن السعر بأقل من 2 شيقل لكيلو البندورة، لكنه مرتبط بعرض تجاري آخر، وبالشراء بمبلغ، وكيلو واحد لكل متسوق.
ختامًا، اقترحتُ على غالبية الوزراء والوكلاء التحرر من السوق المفتوح الذي نضع أنفسنا به، وفرض تسعيرة موحدة لكل المنتجات (منصفة لحارس الارض والمستهلك)، أسوة بالسجائر والمشروبات الغازية وحفّاضات الأطفال والدواء وكل شيء، هذا إذا أردنا عدم توجيه ضربة قاضية أخرى لمزارعينا ومستهلكينا.
المرحومة لطيفة حمدان سيدة الاكتفاء الذاتي
سيدة الاكتفاء الذاتي
غيَّب الأجل المحتوم صباح 6 نيسان، الخالة لطيفة محمود حمدان (أم طالب)، عرفت الجارة الطيبة عن قرب، بحكم تلاصقنا في البيوت ومعظم البساتين والحقول.
كانت المنازل ضيقة والقلوب واسعة، ولم تمضِ ساعة إلا واجتمع الجيران في لقاءات وعمل وتزاور وتواد ومواساة، فكانوا يتشاطرون الفرح، ويتقاسمون الحزن، ويتضامنون في كل محنة.
تشترك المرحومة بالكنية نفسها مع زوجة عمي عبد العزيز خلف، وكانتا تشتركان في طابون واحد، في طرف بيدر جيراننا دار أبو جابر، كنت أرافق زوجة العم، وأشاهد إعداد الخبز الشهي، وأقراص الحلبة، التي كانت تضيف بشاشة المرحومتين إليهما سرًا خاصاً.
لا أذكر أنني رأيتها بوجه طَلق، وكنت في الطفولة لا أفرق بينها وبين زوجة عمي، وأرى فيها أمي.
في ذهابنا وإيابنا من المدرسة، كنا نسلك طريقًا مختصرًا من أمام منزل العم المرحوم عبد الله حمدان (أبو طالب)، ونلقي تحية الصباح والمساء على الخالة الباسمة، فتطلب منا أن نسلم على أمنا.
عملنا في الصبا في البطيخ والشمام مع أبناء الفقيدة، وكانت ترافقنا وتشجعنا، ولا ننسى عباراتها الشهيرة: من (عيّنهم، جيب يا سفيان عصا ولينهم)، ثم تضحك وتقدم لنا برتقالًا من حقلها، وتعمل ببراعة وخفة أسرع منا، فنتشجع، ولاحقًا أسميتها (سيدة الاكتفاء الذاتي).
كانت تُحضر لنا ولجيران الحي الحمضيات، وتضعه في حرجها (طرف ثوبها الفلاحي الأصيل)، والأهم أنها تبتسم، وأصرت يوم زواج ابنها أيمن إرسال صحن (ردة الإجر) في جوف الليل، وهي العادة التي لا يعرفها كثيرون من جيل اليوم.
سألت والدتي مرارًا عنها، وأخبرتني أنها حزنت كثيرًا على أختها اللصيقة الحاجة لطفية يوم رحلت، وآثرت البقاء في المنزل من فرط الوفاء.
لم نكن ندرك أيام الصبا سر الصورة الوردية للأمهات، وقوة حضورهن، وقدراتهن العالية في تدبير المنزل والاكتفاء الذاتي، وعجزنا عن تفسير ابتسامتهن رغم شظف العيش وتشعب التزامات العمل في البيت، ولم نُحِط بقدرتهن على رعاية الأبناء ومساندة رفيق الدرب في حراسة الأرض بقوة.
نشعر بخسارة فادحة لحارسة أخرى لذكرياتنا وحسن جوارنا، ونـتألم على هذا الغياب، وليس لنا إلا أن نختزل وجعنا بالدموع والدعاء والحزن. وسلام على روح خالتنا وجارتنا الطيبة.
أكبر طبق مجدرة
رقم قياسي
المثير للاستغراب في أكبر طبق مجدرة أُعدّ في أريحا، لماذا نذهب دائمًا إلى فكرة الأكبر؟ فقد كان بوسعنا المنافسة على "غنيتس" بأصغر طبق في الكون لهذه الوجبة الشعبية. لو فعلنا ذلك لوفرنا على أنفسنا كل هذا الطيش والجنون والنقد.
جنين
وصف مدينة
تستلقي كجوهرة في أطراف مرج شاسع، وتحرسها جبال شامخات من جهاتها الأربع. تجمع بين جيرة "بيسان" الجنة، وتلمع في أفقها ناصرة البشارة، وتلوح أطراف الكرمل وحيفا في مداها بمنديل يعبق بنسيم البحر، وتؤلف بين قلبي جبل النار وأغوار الضياء.
استعصت سيدتنا الجميلة على الغزاة، وكان موقعها سببًا في استهدافها المتكرر.
كنت أنسج لجنين في الطفولة خيالًا خصبًا لنسر ضخم في أوجّ شبابه تغطي أجنحته كامل مرج ابن عامر، ويحميها من طائرات الغزاة، والريح، والحر، ويسحب لها الغيم من بعيد.
كبرت المدينة واتسعت أمام ناظري، كنت أمكث كل الصيف في صباي بسهلها البهي.
أتخيل كل ضوء فيها نجمة تهبط لتكريم المدينة من السماء، ثم تعود أول الفجر.
ولطالما سألت نفسي، لماذا لا تسرح الغزلان الرشيقة في مروجها الخضراء، قبل أن يزحف إليها الإسمنت الوقح؟ وكيف لنا أن نرى جنين في جولة بطائرة عمودية تحمل علمنا الوطني؟
تحتضن المدينة المخيم، وبدأت تذوب فواصل الجغرافيا بينهما، وأصبحت البيوت متلاصقة، بخلاف المسافة التي كنا نراها في الطفولة، أما البلدات والقرى فتنتشر في 71 تجمعًا.
لا يعرف كثيرون أن جنين خسرت 14 قرية في نكبتها، ولم يتخيلوا يومًا أن ابنتها أم الفحم تضخمت وصارت تكبر أمها.
في المدينة شريانان سهليان يربطانها بحيفا والناصرة، وآخران جبليان ينقلانها إلى نابلس والأغوار، وفيها من التاريخ ما يفوق الأرض والأبنية والماء والشجر والأهل.
في المائة سنة الأخيرة، وفي التاريخ كله أيضًا، انقلبت جنين على غزاتها، وعطر أرضها الدم السوري القسامي والعراقي والأردني، وقبلهم مسك فلسطيني خالص مشتق من غار إجزم، وخروب أم الزينات، ونعناع صبارين، ودحنون زرعين، وأزهار نورس، ونرجس المزار، وسحر أم الشوف، وبريكي، واللجون، والمنسي، والغبيتين، وأبو زريق، وأخواتها.
تسكننا جنين، ونكحل عيوننا بسوسن فقوعة، وزعتر قباطية، وسنابل برقين، وهندباء عرابة، وأقحوان اليامون، وشقائق نعمان السيلتين، ولبيدة أم التوت، وطيّون الزبابدة، وسريس ميثلون، وبلوط يعبد.
ستبقين شوكة فولاذ ملتهبة في حلق لص دخيل.
طلاب مدارس
فرص ضائعة
لست ضد مطالب المعلمين العادلة وإنصافهم، وحزين لعدم سماع مجلس الوزراء لصوتكم، ولكن لو نفترض أن 700 ألف طالب من بين 747 ألفًا (مجموع طلبة الضفة الغربية) يخسرون 4 حصص يوميًا بسبب الإضراب، فذلك يعني ضياع 2 مليون و800 ألف حصة يوميًا.
السؤال، من سيعوضهم؟ ولو استمرت الحكومة بإدارة ظهرها لكم، فمن سينتصر للاتحاد؟
بالمناسبة، المعلم -وهو برأييّ أهم من القاضي والجنرال- الذي يٌعلّق العمل 4 حصص أو 3 أو حصة واحدة، يدفع كامل بدل تنقله بمجرد وصوله لمدرسته ومغادرته لها، وبذلك يتكبد الأعباء الاقتصادية، فضلًا عن عدم صرف كامل لراتبه، بالتزامن مع شهر رمضان وعيد الفطر، وجنون الأسعار.