المياه حق وليس سلعة.. فهل تعود إلى مجاريها؟

حبيب معلوف
ليست برودة الطقس ولا زيادة الجفاف ولا زيادات المتساقطات أو قلّتها مؤشرات حاسمة على أن المناخ قد تغيّر.
كشفت دراسة لعميد كلية الهندسة السابق في الجامعة اليسوعية الدكتور وجدي نجم، عرضها أخيرًا في وزارة البيئة، أن متوسط المتساقطات من مياه الأمطار منذ بداية قياسها في بيروت (محطة المطار) لم تتغير.
وذكر د.نجم أن مساحات هطول الثلوج على المرتفعات، بحسب قياسات الأقمار الصناعية، لم تتغير أيضاً، كذلك الأمر بالنسبة إلى قياسات مستويات الأنهار التي بدأت منذ عام 1930، لم تتغير.. ما الذي تغيّر إذن لكي نتحدث عن تغير المناخ؟
التغيرات "المفاجئة" في الدراسة، تكمن في معدل ارتفاع درجات الحرارة. فبحسب القياسات لدرجات الحرارة منذ عام 1965، فإنها ارتفعت 3 درجات مئوية حتى عام 2021.
بالمقارنة مع أرقام التقرير الدولي الأخير (2021) الذي تحدّث عن ارتفاع درجات حرارة الأرض 1.1 درجة منذ الثورة الصناعية، يُعد ارتفاع الحرارة 3 درجات في منطقتنا مؤشراً على تغيّرات هائلة ستطال كل شيء وكلّ أنواع الحياة وأنظمتها.
كما يُعد ارتفاع درجة الحرارة في بلد يتمتع بنظام إيكولوجي متجدّد مثل لبنان، مؤشراً خطيراً جداً يفترض أن يُعاد على أساسه النظر بكل السياسات التي عرفها لبنان منذ أكثر من نصف قرن، ولا سيّما سياساته المائية وطرق حماية التنوع البيولوجي عامة.
الورشة التي شارك فيها كبار الأكاديميّين والإداريين والخبراء والمدافعين عن الشأن المائي في لبنان، أوصت بضرورة احترام النظم الإيكولوجية في مشاريع المياه باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان وليست سلعة.
كما طالبت بضرورة توحيد المعطيات والقياسات لإنشاء قاعدة معلومات تكون متاحة للجميع، وأن يكون مركز جمعها في وزارة الطاقة وإدارة الإحصاء المركزي، وأن تُنشر على منصة معلومات مفتوحة.
كما طالبت بمسح الآبار الجوفية وخصوصاً غير الشرعية منها وتغريم المخالفين، وتطبيق القوانين المراعية لناحية حماية المصادر وحسن إدارة الأحواض وضرورة وضع خطط لها والالتزام بمبادئ الإدارة المتكاملة للموارد المائية، ومنح الأولوية في الإستراتيجيات لضبط الاستخدامات في القطاعات كافة، وترشيد الاستهلاك أولوية على إنشاء السدود السطحية، واعتبار مسألة وقف الهدر في الشبكات ومعالجة مياه الصرف أولوية أيضاً على المشاريع الاستثمارية الكبيرة والمكلفة.
وقد نتجت هذه التوصيات بعد حوار عميق، عُرضت فيه دراسات كثيرة أكدت ضرورة أن يكون لوزارة البيئة يداً طولى في تقييم كل خطط المياه.
تطورات عدة طرأت على ملف المياه منذ أكثر من ربع قرن لم تعلن وزارة البيئة موقفها رسمياً منها ولا مرة. كما كلفت شركة بإجراء تقييم بيئي إستراتيجي لسياسات المياه عام 2012، لم تكن وافية ولا إستراتيجية، ولم تخضع لأي نقاش جدي شامل.
وبعد إعادة طرح إحياء "سد بسري" في جلسة مجلس الوزراء قبل الأخيرة، إضافة إلى إعادة طرح تمويل سد بريصا (في جلسة سابقة) الذي فشل في جمع المياه، شُكّلت لجنة وزارية لإعادة دراسة الموضوع تضم وزير البيئة لم تجتمع بعد!
لأول مرة ربما يُفتح نقاش شامل وعميق في وزارة البيئة حول هذا المورد الحيوي الهام، الذي بات عرضة للتلوث الخطير ولارتفاع أسعار تأمينه نقياً بشكل أخطر.
ويرى وزير البيئة هذا النقاش مع الخبراء بداية لنقاش مع كلّ المعنيين بالملف، على خلفية إيجاد إستراتيجية جديدة، تأخذ بالاعتبار كل التجارب والإخفاقات السابقة في حماية هذا المورد.
لطالما احتل مشهد إدارة المياه في لبنان الصراع بين المستثمرين في المياه، وليس صراعاً بوصفه مسؤولية الدولة في حماية هذا المصدر وحسن توزيعه وعدالته.
وقد اُختصر الصراع بين مستثمرين في إنشاء السدود السطحية ومستثمرين في حفر الآبار الجوفية لتأمين المياه. الخياران وحدهما في إدارة هذا المورد مدمّران ولا ينمّان عن عقل إستراتيجي وخيارات بعيدة عن مصالح الاستثمار. فدور الدولة ووزارة البيئة تحديداً، الذي يسبق دور وزارة الطاقة والمياه، التذكير بأن المياه هي جزء من الأنظمة الإيكولوجية التي تجعل من هذا المورد متجدداً باستمرار، وأن أي خطط تتعارض مع هذه الأنظمة تكون غير صالحة ويفترض تجنبّها.
وهذا هو المبدأ الأساسي الذي يُفترض تبنّيه في الإستراتيجيات والخطط والقوانين والذي يؤكد أن المياه ملكية عامة وهي حق من حقوق كل إنسان كالهواء، وما على الإدارات الرسمية سوى حمايتها وحسن توزيعها وترشيد استخدامها.
لذلك يجب التدقيق أولاً في المعطى من الطبيعة التي تستند إليها الإستراتيجية، وقد توقفت وزارة الطاقة والمياه منذ السبعينيات عن القيام بمسوحات وقياسات منهجية وشاملة للمياه المتوفرة سطحياً، ولم يعد يُعرف ما هو حجم السحب من المياه الجوفية حين تجاوز عدد الآبار الخاصة غير المرخصة والمراقبة عشرات أضعاف تلك المرخصة.
فكيف نتحدث عن نقص وحاجة إلى السدود المكلفة ونحن لا نعرف بالضبط حجم المياه المتدفقة من الينابيع، ولا حجم المياه المسحوبة من جوف الأرض، ولا تلك المعبأة وتجارتها، ولا من أين يأتي أصحاب "السيترنات"- الصهاريج- بالمياه طيلة السنة، ولماذا تتوفر المياه في "السيترنات" ولا تتوفر في الحنفيات!
وإذا كانت مياه الصرف تعد المسبّب الأول في لبنان لتلوث المياه العذبة، لماذا لم تُمنح الأولوية في الإستراتيجية لمعالجة هذه الآفة على إنشاء السدود، إضافة إلى أولوية معالجة الهدر في الشبكات والسرقة والإتجار في شتى الطرق.
لم تأخذ وزارة الطاقة والمياه تاريخياً بالدعوات لدمج المياه بالطاقة والغذاء، ولا أخذت بالحسبان الدعوات التي ترى أن إستراتيجية المياه جزء من إستراتيجية التنمية المستدامة التي تهتم بعلاقة هذه الموارد مع استخداماتها في القطاعات كافة وحفظ ديمومتها.
كما أن الوزارة المعنية قانوناً لم تحترم أبسط مبادئ الإدارة التي تقوم على حماية المصادر والحرص على انسجام مشاريع الإدارة والاستثمار مع الأنظمة الإيكولوجية ومبادئ حفظ حقوق الأجيال القادمة في الوصول إليها نقية معدنية وصحية وخالية من التلوث.
فهل حان الوقت لإعادة التفكير في دور الوزارات ومهامها، كأن تدمج المياه مع البيئة وأن يصبح للطاقة وزارة خاصة، فتعود المياه إلى مجاريها في إطار "الحق وليس السلعة القابلة للإتجار، من دون سدود ولا خصخصة؟
كان ثلج آذار مهماً جداً هذا العام لزيادة تدفق المياه السطحية وتخزين المياه الجوفية. هذا المورد الحياتي المهدد بالتلوث وسوء السياسات والخطط وتغيّر المناخ، سيزداد أهمية في المرحلة القادمة لدرجة لا يُفترض أن تُترك إدارته للجيولوجيين والهيدروجيولوجيين والمهندسين الإنشائيين للسدود والتجار وصناديق التمويل الدولية والشركات الكبرى وحدهم.