خاص بآفاق البيئة والتنمية
أصحاب قصص تُصنع ولا تُكتب، يعيشون عالمهم الخاص وتربطهم بالطبيعة والتراث وأرّقِ تفاصيل الحياة علاقة أشبه بــ "أن يجد المرء جليساً يستطيع أن يسكب نفسه في نفسه". في دواخلهم معانٍ انتقائية، ليست "كلاكيع" وفي الوقت نفسه ليست بالبساطة التي يفكر بها "العاديون"، والنتيجة أنهم يزهرون قصصًا، ولا أهمية في كونها صغيرة أو عظيمة، لكنها بالتأكيد عميقة وطيبة التأثير.
|
|
آلاء الصوص في يافا |
عالم القصص من هذا النوع شديد الحنو، وهو غالبًا يُصنع ولا يُكتب، وينطبق عليه مقولة للمدونة المصرية ياسمين عبد الله "كل ما جاء به الحب مُبارك ورقيق".
أصحابها يعيشون عالمهم الخاص وتربطهم بالطبيعة والتراث وأرّقِ تفاصيل الحياة علاقة أشبه بــ "أن يجد المرء جليساً يستطيع أن يسكب نفسه في نفسه".
في دواخلهم معانٍ انتقائية، ليست "كلاكيع" وفي الوقت نفسه ليست بالبساطة التي يفكر بها "العاديون"، والنتيجة أنهم يزهرون قصصًا، ولا أهمية في كونها صغيرة أو عظيمة، لكنها بالتأكيد عميقة وطيبة التأثير.
في بتير- آلاء الصوص
وعدٌ للغُيَّاب بألا أتوقف
لا تكف بنت القدس آلاء الصوص عن إبهارنا بصورها التي تلتقطها كلما تجولت في مدينة أو قرية فلسطينية.
ونجدها مع قرب قدوم فصل الشتاء، تحث متابعيها على الذهاب إلى "بتيّر" لأن فيها "القعدة الحلوة والرواق والأماكن الأثرية ومسار المشي في الطبيعة الساحرة والخضروات الطازة".
وفي كل مرة تتجول تسأل نفسها" كيف لبلاد بهذا الجمال أن تكون محتلة، بينما أولادها لا يقدرون على دخولها والمشي في قراها ومدنها؟".
استمتعنا بالحديث مع آلاء التي يجب ألا ينسى أحدٌ نصيحتها: "تنفسوا الطبيعة الي خلقها ربنا ولا تنسوا حالكم بالبيوت الإسمنتية البشرية"، وإليكم أبرز ما قالته لنا:
حقاً لست أبالغ، ترد روحي مدنًنا وقرانا المهُجرة المسلوبة، ولذا قررت أن أشارك معنى "تردّ الروح" مع كل محروم من هذه النعمة؛ ولو من بعيد.
انطلقت مع عدستي أوثق جمالها بالصور والفيديوهات وأكتب عنها ما تيّسر، حتى يراها الفلسطيني المُهجرّ خارج البلاد، فيرفرف قلبي فرحاً لحظة أن ألمح رسالة من غائب يقول فيها: "شكراً آلاء على سعيك المتواصل حتى تُرينا جمال بلادنا".
وليس بالأمر العابر عندي أن يُفصح لي أشخاصٌ غير فلسطينيين عن أمنية دافئة وهي زيارة فلسطين ليبصروا بــ "أم العين والقلب" خيراتها ومواردها الطبيعية، بينما يتحرق فؤاد ابن البلد اللاجئ شوقاً، فإذ به يريد أن يعرف عنها أكثر حتى يظل مُعلّقًا بها.
طبيعة فلسطين التي أركز عليها متنوعة الجوانب، تشمل زواياها التاريخية والجغرافية التي تروي قصة أرض سيطر عليها الاحتلال، محاولاً بكل الطرق تهويد تاريخها العريق المرتبط بالحضارات القديمة، فلا ينفك عن خلق جذور وهمية لا أصل لها، بتحريفه الروايات والوقائع.
أفعل ما بوسعي بحب وقوة، لأني أرغب في توثيق حق الفلسطيني بأرضه برصد الاثنين "جمالها وعدوانهم علينا"، وحتى لا ينجح هؤلاء في مسح تاريخنا الحقيقي الذي نمتلكه نحن أبناء هذه الأرض، نحن الذين قُتلنا وأٌسرنا وطُردنا وهُجرّنا وأصبحنا لاجئين في كل مكان، وما تزال معاناتنا مستمرة.
جمال قرية صطاف المهجرة في غرب القدس- آلاء الصوص
أنين حزين ربما تلاحظونه في الصور الملتقطة لقرانا المُهجرّة، أنا أتذوق ملح الجرح عندما أتذكر أن أصحابها ما عادوا هنا، في حين أن لصوصًا سرقوا الأرض والبيت والذكريات.
وإذا ما مررت على وجه الخصوص بقرية "عين كارم" أكون في حالة لا يصفها سوى ما قاله قيس بن الملوح "أمرّ على الديار ديار ليلى.. أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا".. حين أتجول في حاراتها ينظر سكانها اليهود لي شزراً وكأنهم يسألون "ماذا تفعلين هنا؟، هم الذين سكنوا أجمل وأرقى بيوتنا، يا لها من مفارقة، مَن فينا يجب أن يسأل الآخر!
أما أكثر ما يجعل الدم يغلي في عروقي، أسلوب "إسرائيل" الخبيث في عرض فلسطين أمام الزوار والسُياح بطريقة تُظهر أن الفلسطيني لم يُقدّر ويُحافظ على هذا الجمال والتاريخ.
ويُفتح الجرح أكثر كلما رأيتُ المستوطنين المتطرفين يتسكعون في قرية صطاف ولفتا، وللمرة الثانية لا أبالغ، أشعر في مشهد كهذا أن النكبة قد حدثت للتو!
صيغة عجائزنا "الله يطعهما لكل مشتهي" كم تليق بهذا الدعاء - مصحوباً باليقين- عندما أقف وقفة تبجيل لبهيتنا "قرية صطاف"، التي اتخذت منها "إسرائيل" ثكنة عسكرية لتدريب جنودها، وأحياناً أرى تخييمهم المُخصص للمجموعات المتطرفة من الصهاينة، وفيه يتلقون دروساً عن تاريخ الأرض المزور.
سأواصل تجوالي في كل شبر بمقدوري الوصول إليه، ولن أتخلى عن رسالتي التي ينتظرها الغُيَّاب، سأشجع أبناء جيلي والجيل الصغير بالقدوم إلى مدننا وقرانا ليعرفوا تاريخهم ويقولوا للمحتل "إنَّا باقون" بتنظيم المسارات والرحلات العائلية والفعاليات التي تربط الانسان بأرضه.
أحد طلاب المعلم زياد خداش
الغابة بين التعليم والكتابة
كاتب ومعلم فلسطيني بقامة زياد خداش، لا بد أن نتساءل بشأن تجربته: "كيف يُوظف الطبيعة في دروسه؟ وإلى أي حد تلهم قريحته؟"
كانت إجابته ليست بالطريقة المألوفة، وكأنها الشِعر.
يُحدّثنا خداش عن مكانة الطبيعة لديه بالقول: "لطالما أحببتُ الأشجار والطبيعة، أحببتُ النمور في الغابة وحلمتُ بها، ورأيت نفسي نمرًا يركض بلا هدف، جائعًا ولكنه لا يأكل الفرائس البريئة، ورأيتُ نفسي مرةً شجرة توت ضخمة، وأحببتُ الخبيزة وتمنيتُ أن أكونها يومها ما، تلك التي لا تحتاج إلى ماء، والراسخة في الأرض".
وتبدو الغابة مصدر إلهام مختلف، يحكي أكثر فيجلب لنا رائحة الغابات هنا: "لطالما تمنيتُ نفسي غابة، يركض داخلي الوحوش، ويسقط المطر فوقي، ويخبئ القتلة ضحاياهم داخلي، ويهرب العشاق إليّ، غابة لا تموت فيها نسور، ولا تحزن فيها أسماك، ولطالما رأيت نفسي بحيرة في غابة، يجلس حولي الهاربون من المدينة القاتلة، ويرمي العشاق داخلي أسرارهم وأوراقهم وطائراتهم الورقية".
"لكن تُرى كيف قادك عالم الغابة إلى الكتابة؟".. رمينا السؤال بفضول وسرعان ما ألقى خداش بجوابه: "كم تشبه الكتابة أحلامي الوحشية وكم تشبه عالمي الغابي، كلتاهما تخبئان الأسرار والهواجس الدفينة، كلتاهما تحرّض على البراءة، وتشير إلى النزعة البدائية، كلتاهما وطن للصفاء والعذرية".
كان في حالة تأمل للتداخل بينهما وراح يرسم المشهد بريشة الكلمات: "الكتابة غابة، والنصّ وحشٌ صغير.. حزين غالبًا، يائس أحيانًا، غريب دائمًا، أكتب نصوصي على ضوء غابة باستمرار، مظلمةٌ كانت أم مضاءة، أقرأ الكتب وفي ذهني غابة ممطرة في الجوار، أفكار وأفكار وأفكار، ومطر مطر يهطل على الغابة وبداخلي".
"ماذا عن زياد المعلم وعَالم طلابه؟".. يُخبرنا أنه استضاف الكثير من "أشياء الغابة" في صفه، مضيفاً: "كان المنظر مدهشًا، وهذا هو المطلوب أمام طلابي المذهولين، أمام شجرة تنمو في الجوار، أمام صخرة منتزعة، أمام تراب ندي مرمي في زوايا الصف، وأمام أوراق شجر كثير على الأرض".
|
|
الإصغاء للطبيعة عبر الصخور- زياد خداش |
يقول زياد خداش- يصيح طلابي بانفعال كل صباح وهم يتحسسون الجذع والفروع |
ويؤكد أن "أشياء الغابة" أسدت له معروفاً لتساعده في هذه المهمة النبيلة، موضحاً: "أهدتني الأفكار الغريبة والزوايا الجديدة، والأحاسيس التي قلما تزورنا ونزورها، تزورنا الفراشات من خلال النافذة وتقول لنا جئتكم من الغابة وتحكي لنا عن الأسرار وتفضح كل شيء هناك، لكنها تُبقي سرًا واحدًا هو سر البحيرة، وكانت البحيرة في دروسنا ونقاشاتنا عالم السر اللذيذ".
ويعود مجدداً إلى الغابة ليربطها بالتدريس، مواصلاً حديثه: "التعليم أيضا غابة، والغابة مجهول جميل، في التعليم على الطالب أن يركض خلف المجهول وغير المعلوم، وعليه ألا يصل كما لا يصل العاشق إلى حبيبته في الغابة التي هربت من الملل بحثًا عن أضواء جديدة".
وعلى نحو فلسفي يقدم الخلاصة لعل الطلاب يُمسكون طيفها: "أعطتنا الغابة فكرة المجهول الشهية، فكرة اللا مُعرّف، اللا مفهوم، اللا متحقق، اللا عادي، اللامنطقي، أعطتنا الغابة رطوبة الأجواء، وعذرية الأحاسيس والبدايات الحلوة التي تبعث على التفكير المختلف السماوي والوحشي، الحياة غابة ونحن فيها الوحوش والفراشات والأسماك والطيور والشجر".
|
|
الباحثة هلا قصقص في بخارى |
الباحثة هلا قصقص في واحدة من أهم رحلاتها |
أوزبكستان.. الإدهاش الأزرق
شدت الباحثة في التراث المعماري الإسلامي، هلا قصقص، الرِحال إلى أوزبكستان في شهر يونيو/ حزيران الماضي، تلك الدولة الواقعة في "خراسان" بلاد القصور والأضرحة والمزارات والقباب الزرقاء، وهناك لم تقاوم الباحثة السورية المدينة الفيروزية الساحرة "سمرقند" وتفاصيل عمارتها المعقدة.
أوزبكستان دولة حديثة تأسست عام ١٩٩١م، لكن مدنها تمتلك تاريخاً عريقاً مليئاً بالعلوم والمعارف، تقول هلا في صفحتها في "فيس بوك": "إنها الوجهة الأمثل لمحبي استكشاف تاريخ الحضارات والعمارة الإسلامية وطريق الحرير"."
لقد بدت مذهولةً من "الجمال المباغت الذي انهمرَ عليها كلما فتحت باباً أو عبرت قوساً أو ارتقت درجات سلم" بحسب تعبيرها.
ومن وجهة نظرها أن أوضح قاعدة تستلهمها من العمارة الإسلامية، هي "القدرة المستمرة على الإدهاش"، وهذا ما تحقق في مدن تبقيك مفتونًا بأسقف معالمها إلى درجة أن عنقك سيؤلمك من طول النظر إليها.
|
|
غافر الذنب قابل التوب- صورة هلا قصقص |
في مدينة بخارى |
ويذكر المؤرخون أن اللون الأزرق كان المفضل للأمير تيمورلنك والذي كان قائدًا عسكريًا في القرن الــ 14، ونفذَّ عدة حملات شرسة، فقد جعل مدينة سمرقند مغطاة بالبلاط القيشاني ذي اللون الأزرق مع تداخلات اللون الأبيض والقليل من الأخضر.
وتضيف في وصف رحلتها: "ترك تيمورلنك إرثًا معماريًا وفنيًا رائعًا يتميز عن كل ما نراه في العمارة الإسلامية،
إذ جاء بالمعماريين والبنَّائين والنحاتين والنجارين والرسامين والخطاطين من كل بلد افتتحه، واستقدم علماء الرياضيات من فارس والهند وتركستان والشام وبلاد الرافدين".
هلا قصقص أمام باب أحد مدارس سمرقند
ومن أكثر ما لفت انتباه هلا قصقص، أن جميع أبواب الصفوف في مدارس سمرقند وبُخارى قليلة الارتفاع نسبياً مقارنة بطول الإنسان الطبيعي.
وحين سألت عن السبب، قيل لها إنهم كانوا يتعمدون خفض ارتفاع الباب حتى يدخل الطالب الصف محني الرأس احتراماً للمعلم الذي ينتظره في الداخل.
صورة ياسمين عبد الله- الياسمين كريم
أن أستنطقُ الياسمينة
تعمدتُ اختيار مُدونة شابة من طراز لم نعد نراه كثيراً، وهي ياسمين عبد الله، هي التي تلفها "سكينة ناعمة" وتحوّطها شفافية الشجر وعمقه غير المتكلف، وكان يكفيني أن أسألها بأي صورة ترى "اسمها"؟.. فتدفق حرفُها بلطف ليقول لــ "آفاق البيئة والتنمية":
"من بين كل الأشجار يُعجبني شجر اللوز، وتمنيت لو أرعى شجرة رمان وقهوة وكرز وتوت وبرتقال وليمون في بيتي، لكن السطوة الكاملة دومًا للصفصاف الوارف، السطوة للياسمين؛ آهٍ يا للرقة.
في صيف ليس ببعيد كُنت أُقيم لدى خالي الذي يملك حديقة منزل شاسعة بها من كل أنواع الأشجار، كانت الياسمين شجرتي المُفضلة، تمنحني سرها وقد شَعَرت هي أنني امتدادها.
غصن ياسمين بشري يقف أمامها ويحاول استنطاقها: ماذا أفعل لأتحول ياسمينة حقيقية؟ في الواقع كنت لا أتحرك خطوة واحدة من أمامها إلا وقد لملمت كل ياسميناتها التي تساقطت كرمًا منها على الأرض المليئة بالحشائش.
في الإسكندرية
أحيانًا كانت جلستي في ساعة العصر تمتد ناعمة في ظل شجرة الياسمين، أقرأ روح نجيب محفوظ وتُهدهد روحي الياسمين برائحتها، في الليل لا شيء يُمكنه أن يوقف احتلالها الحلو في نفسي، فأخرج إليها، أُلقي نظرة، أُلملم ياسمينات، وأنام وأنا مُمتلئة بالعطر والوداعة والأحلام.
الياسمين سر، روح عذبة تُزهر بياضًا في شجرة، حالة رهيفة من الخجل تسري من عطرها لتملأ نفس من يشمها بهاءً وسكينة، الياسمين كريم، يمنحك دفئه ولو تمنَّع عليك بسره.