خاص بآفاق البيئة والتنمية
غالبا ما ينسى البعض أو يتناسون، حين مناقشة أو معالجة ظاهرتي البطالة والفقر وكيفية "محاربتهما"، بأن السبب الأساسي والمباشر لإفقار معظم الفلاحين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967 أو تحولهم إلى عمال يخدمون الاقتصاد الإسرائيلي، بعيدا عن أماكن سكنهم، أو إلى أُجراء في خدمة الاقتصاد الاستهلاكي بالمدن الفلسطينية، أو إلى عاطلين عن العمل، هو نهب الاحتلال لأراضيهم ومواردهم الزراعية وبالتالي تحطيم الزراعة الفلسطينية. بمعنى أن بروز فائض في اليد العاملة الفلسطينية الزراعية المستغنى عنها في الريف الفلسطيني ليس نتيجة بطالة عانت منها اليد العاملة الزراعية مما يؤدي غالبا الى انسلاخها عن الزراعة وانتقالها للعمل كيد عاملة رخيصة في المدينة، كما هو الحال في العديد من بلدان "العالم الثالث"، بل إن هذا الفائض أفرزته بشكل مباشر عملية تهشيم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني. وقد لعبت هذه العملية الأخيرة دورا أساسيا في الولادة غير الطبيعية والمشوهة للعمال الفلسطينيين وحددت طبيعة اليد العاملة الفلسطينية ودورها في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، في ظل غياب البديل الاقتصادي المحلي الذي كان يمكن أن يستوعب فائض اليد العاملة في الريف الفلسطيني.
بالإضافة إلى ذلك، ومنذ التوقيع على اتفاق واشنطن في العام 1993 (بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل) وحتى هذه اللحظة، تتواصل بكل قوة عملية تهشيم الاقتصاد الزراعي الفلسطيني من خلال آلة المصادرة والاستيطان الإسرائيلية التي لم تتوقف عن التوسع الاستيطاني وتجريف وإغلاق ومصادرة مئات آلاف الدونمات التي بمعظمها أراض زراعية خصبة، وذلك بالتوازي مع اقتلاع وتخريب المحاصيل الزراعية وملايين الأشتال والأشجار المثمرة، فضلا عن نهب المياه والآبار الجوفية، الأمر الذي أجبر العديد من المزارعين على شراء المياه من الشركات والمستعمرات الإسرائيلية أو الانسلاخ نهائيا عن العمل الزراعي. واللافت أن عدد المستعمرين اليهود في الضفة الغربية (مع القدس) لدى توقيع اتفاق أسلو عام 1993، لم يتجاوز 220 ألف؛ بينما بلغ عددهم حاليا نحو 650 ألف (في عهد أوسلو والسلطة الفلسطينية!)، أي ازداد العدد بنحو ثلاثة أضعاف، فتجاوز عددهم ما كان عشية احتلال معظم مناطق فلسطين عام 1948، حين بلغ عدد الصهاينة آنذاك نحو 550 ألف، فاحتلوا 78% من مساحة فلسطين التاريخية.
الجدير بالذكر هنا، أن الاتفاقيات إياها خولت الاحتلال بأن يمارس على أكثر من 60% من مساحة الضفة صلاحيات "مدنية" (وبالطبع أمنية وعسكرية) مطلقة؛ بما في ذلك عمليات البناء (دون تحديد سواء في المستعمرات أو غير ذلك!) والهدم والإغلاق والفتح وإقامة منشآت جديدة أو منع إقامتها، وغير ذلك.
كما أن اتفاق القاهرة الإسرائيلي-الفلسطيني نص على "حق" إسرائيل بشق ما يسمى "الطرق الالتفافية" (التي تهدف توفير الطرق الآمنة للمستوطنين) وما يلزمها من "إجراءات" على الأرض. ولننتبه هنا أن اتجاه الطرق الاستيطانية ("الالتفافية") هو غرب-شرق، سواء في مناطق جنين وطولكرم ونابلس أو في رام الله والخليل وبيت لحم. ناهيك عن تواصل إنشاء الأحياء اليهودية الجديدة في منطقة القدس "الشرقية"-بيت لحم التي لم تتوقف للحظة، في مختلف أنحائها، عملية التوسع الاستيطاني المكثف وإنشاء الجسور وشق الشوارع والأنفاق الواسعة. بمعنى أن إسرائيل تثابر بإصرار على تثبيت وقائع استيطانية-ديمغرافية جديدة على الأرض لفرضها فيما يسمى "الحل النهائي"، وبالنتيجة تجزئة الضفة الغربية إلى معازل سكانية عربية محاصرة بالمستعمرات و"الطرق الالتفافية" والجدار الكولونيالي والجيش الاسرائيلي وآلياته العسكرية.
كما أن الانحسار الكبير في الزراعة الفلسطينية ليس ناتجاً فقط عن عوامل خارجية ذات علاقة بالمصادرات والاستيطان والجدار العنصري ونهب المياه وانسداد آفاق التسويق وغير ذلك، بل إن هناك أيضا عوامل ذاتية تتمثل في شراء بعض المستثمرين لأراض زراعية بهدف تحويلها إلى "مناطق صناعية حدودية" (مشتركة مع رأس المال الإسرائيلي)، كما في مرج بن عامر في جنين، فضلا عن اقتطاع أجزاء كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة لإقامة المنشآت والمباني، الأمر الذي ساهم في تدمير بنيتنا الزراعية وبالتالي أمننا الغذائي الوطني.
تضخم اسمنتي استعراضي وخدماتي في رام الله وتراجع مريع في الزراعة - عمار عوض
إطلاق العنان للحريات والمبادرات الإنتاجية الشعبية
من نافل القول، أن الاستقلال في الإنتاج الزراعي والغذائي يشكل شرطا أساسيا للوصول إلى حالة السيادة على الغذاء. ولإنجاز الاستقلال الزراعي لا بد من الاعتماد على مخزون المعارف والتجارب والخبرات المحلية وتطويرها، من خلال ابتكار تقنيات زراعية طبيعية وحيوية صديقة للبيئة، وتشجيع البحث العلمي المستند إلى تجارب وتطبيقات المنتجين والمزارعين أنفسهم، في مجالات الري ومعالجة المخلفات الزراعية والعضوية والسائلة، وتحسين نوعية البذور المحلية والبلدية، وغير ذلك. ويتناقض هذا التوجه مع استمرارية التبعية للغذاء الإسرائيلي والأجنبي.
وأمام الواقع الاقتصادي الكولونيالي، فإن توفير مقومات الأمن الغذائي الاستراتيجي يتطلب بالدرجة الأولى تشجيع المزارعين والناس عموما على إنتاج السلع الزراعية الاستراتيجية التي تلبي الاحتياجات الغذائية المحلية أولا. وفي إطار الاستراتيجية الزراعية نفسها، لا بد من تشجيع المشاريع الصناعية المحلية التي لا تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، وتعتمد أساسا على تصنيع المنتجات الزراعية العضوية والبلدية المحلية وتدر دخلا جيدا عن طريق الاستفادة من الموارد والمهارات المحلية. وبإمكاننا، على سبيل المثال، تصنيع العصائر الطبيعية والعضوية من العنب والرمان والبندورة والتفاح والبرتقال وغيرها، فضلا عن تصنيع العنب والخروب لصناعة الدبس والملبن، وصناعة المتبل أو معجون الباذنجان، وغير ذلك بهدف التسويق المحلي والتصدير للأسواق الخارجية. كما يمكننا أيضا إنشاء مشاريع لتجفيف المحاصيل بالطاقة الشمسية وتصنيعها وتعليبها، فضلا عن إنشاء مصانع لإنتاج الألبان ومشتقاتها بحيث يتم تسويق المنتجات من خلال تعاونيات لتسويق المنتجات العضوية.
إن أية عملية تصنيع لا يجوز أن تتم على حساب القطاع الزراعي، وإلا فان النتائج لن تكون أفضل من العديد من البلدان "المتخلفة" التي تسببت تجاربها التصنيعية المدمرة للزراعة في انهيار الصناعة والزراعة معا وتفاقم مشكلة الجوع وتحول هذه البلدان الى مستورد رئيسي للمواد الغذائية الأساسية بعد أن كانت مصدرة لها.
ولا يختلف عاقلان على ضرورة التصنيع وأهميته في المعركة من أجل التنمية الذاتية المستقلة، لكن السؤال الحاسم الذي يحتاج الى إجابة دقيقة هو: أي نوع من التصنيع يناسب الضفة والقطاع الرازحين تحت احتلال استيطاني عسكري؟ اذ أن افتقارنا للرساميل لا يعني بأن نسمح للرأسمال الأجنبي العمل بحرية مطلقة، بل لا بد من التركيز على التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي وتنويعه وحمايته، بما يضمن التأسيس لاقتصاد المقاومة في مواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع الصهيونية، فضلا عن تحسين مستوى معيشة أهل الريف إجمالا الأمر الذي سيخلق دورة اقتصادية تؤدي إلى توسيع سوق الصناعة المحلية وبلورة صناعات جديدة؛ بما في ذلك إنتاج بعض التجهيزات الزراعية الصغيرة وإصلاحها. بمعنى أن التصنيع لا بد أن يكون منسجما مع عملية ربط الاستراتيجية الزراعية بالتنمية الصناعية انطلاقا من الإمكانيات المتوفرة بحيث تبنى هذه العملية على أساس تكاملي مع الأقطار العربية المجاورة.
ان أي استثمار لرؤوس الأموال الخارجية في الصناعة لا بد أولا أن يركز على الصناعات الزراعية وأن يخلق صناعات جديدة لا أن يكرر الصناعات القائمة ويسحقها، وثانياً أن يقلل من استيرادنا ويزيد من انتاجنا وينوعه، وثالثا أن يزيد من رأس المال المحلي للاستثمار الصناعي طويل المدى ورابعا أن يجد أسواقا جديدة للإنتاج الصناعي، لا أن يسلب من المنتج الفلسطيني سوقه، وأخيرا أن ينقل لنا تقنيات ومهارات جديدة، لا أن يستغل نقص التقنيات والمهارات المحلية لمصلحته.
ويجب ألا يغيب عن بالنا أبدا، أن الرأسمال الأجنبي والإسرائيلي ووكلاءه الفلسطينيين في الضفة والقطاع يفتشون باستمرار عن آفاق استثمارية سهلة وذات نسبة أرباح مرتفعة يتم تحقيقها من خلال استنزاف طاقة الاستهلاك الفلسطينية. ومعنى ذلك إضعاف كبير للقدرة التنافسية لدى المبادرين الفلسطينيين والعرب المنتجين المحتملين، وسحق قدرتهم على المبادرة في تأسيس مشاريع انتاجية وشبكات تسويق خاصة بهم. كما أن استباحة احتكارات الغذاء الإسرائيلية والأجنبية للسوق الفلسطيني ستتسبب في آثار بيئية وصحية مدمرة، من ناحية التنوع الحيوي والصحة العامة للمجتمع الفلسطيني بسبب إغراق السوق الفلسطيني بالمحاصيل المعدلة وراثيا، وخاصة المنتجات الغذائية الأساسية، كالقمح والذرة وغيرهما في ظل غياب الرقابة الفلسطينية الرسمية، علما أن السلطة الفلسطينية تفتقر تماما إلى السيادة على الواردات التي تتدفق إلى السوق الفلسطيني من خلال القنوات والموانئ الإسرائيلية.
إن الزراعة على قاعدة "اقتصاد السوق" ومدخلات الإنتاج الخارجية الكبيرة، قد تم تطويرها في الغرب أصلا لتتلاءم مع مناخات وأنماط زراعية مختلفة عن منطقتنا ولا علاقة لها بالحاجات الحقيقية لمزارعينا. وبالتالي هناك غياب في التوجه نحو الموارد والإمكانيات المحلية وتغييب للممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية التي اكتسبها وطورها مزارعونا القدامى، فضلا عن عدم الاهتمام بالمحاصيل والبذور والحيوانات البلدية مع أن البحث الزراعي الرسمي غالبا ما يركز على دعم المزارعين الميسورين والقادرين على شراء التقنيات والمستلزمات الزراعية "الحديثة" التي لا يستطيع معظم المزارعين الحصول عليها فضلا عن كونها غير مناسبة للزراعات البعلية ذات المدخلات الخارجية المنخفضة.
وفي ظل الواقع الاستعماري الاستيطاني، فإن الاقتصاد الفلسطيني الوحيد الممكن والواقعي الذي يحقق السيادة الفلسطينية الفعلية على الغذاء، هو الاقتصاد الوطني الشعبي المقاوم الذي يوفر مقومات الصمود الاقتصادي والمعيشي الضروري لمواجهة الاحتلال. ويستند نموذج اقتصاد المقاومة إلى تدعيم البنية الإنتاجية الزراعية والصناعية الوطنية الشعبية المتمحورة داخليا في السوق المحلي والتي تنتج الاحتياجات الأساسية للشرائح الشعبية، وبالتالي تحررنا من التحكم الصهيوني في عملية إطعامنا وتجويعنا من خلال إطلاق العنان للحريات والمبادرات الإنتاجية الشعبية المعتمدة على الذات والمشاريع الإنتاجية العامة والتكامل القطاعي، والنشاطات الزراعية غير الرسمية التي تتميز بالتنوع الإنتاجي وتوفر السيادة الغذائية للناس. وعمليا، يشكل هذا التوجه مدخلا واقعيا وممكنا لفك الارتباط بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي. وفي المحصلة، يعني اقتصاد المقاومة تشجيع وتنمية ثقافة الإنتاج والادخار كبديل لثقافة الاستهلاك والإلحاق.