بعد قصف "مخازن خضير" للمبيدات.. ثلاث كتل بشرية تحت مجهر التلوث
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تسببّ قصف المخزن الأكبر في غزة للمواد الزراعية الكيميائية (مخزن خضير للمبيدات والأسمدة) في انتشار ألسنة اللهب التي وجدت أمامها مواد ملتهبة سريعة الاشتعال، فامتدت إليها ومن ثم غرق شمال قطاع غزة، في ظلمة سحابة السموم وصلت إلى عدة كيلومترات من شمال بيت لاهيا حتى شقيّ بيت حانون، في منطقة ذات كثافة بشرية هائلة، ونشاطات زراعية تبلغ ذروة موسم الإنتاج، وإن نجت المحاصيل من القصف فقد طالها التلوث بدخان الحريق. ولا شك أن الجيوش التي تمارس حروب الإبادة الجماعية والتصفية العرقية، لا تراعي قوانين حماية المدنيين، أو تتجنب تعريضهم للخطر؛ بل إنها ترى أن التجويع هو أحد أهم وسائلها لهزيمة الخصم وتركيعه، لذا هي تقصف الحقول والبساتين، وتحرق الدفيئات، وتبيد المحاصيل، ثم تقصف مخازن الأسمدة والمبيدات، وتسحق البنية التحتية لأنظمة الري من شبكات وخطوط نقل المياه، والمضخات والبِرك وأحواض تخزين المياه.
|
|
العدوان الإسرائيلي استهدف مخازن خضير للمبيدات والأسمدة الكيميائية |
تصنع الحروب أخطر مسببات الكوارث البيئية الكبرى في العالم، ولا تقل في خطورتها، مع محدوديتها، عن الفيضانات والثورات البركانية وحوادث المفاعلات النووية وناقلات النفط. ولعل من أهم أخطارها ما ينجم عنها من موادٍ سامة وملوثة للبيئة بكل مكوناتها "الهواء والتربة والمياه الجوفية والسطحية".
وفي السنوات العشر الماضية تكررت الحروب التي شنتها قوات الاحتلال على غزة، وتُصنف الاعتداءات الغاشمة إلى ثلاثة أقسام كبرى ومتوسطة وصغرى، كلها جاءت بعد انتفاضة الأقصى عام 2000 وتجلّت في اجتياحاتٍ عدة، أشهرها اجتياح الزيتون، واجتياح بيت حانون، واجتياح الشجاعية، ناهيك عن اشتباكاتٍ متعددة في مناطق شرقي خانيونس ورفح وغزة، تخلّلها حرق محاصيل ورش مبيدات، فيما تمثلت الحروب الأقسى وذات الأثر المدمر على الزراعة في أعوام 2008 "حرب الفرقان"، 2012 "حجارة السجيل"، 2014 "العصف المأكول"، ثم الحرب الأخيرة "سيف القدس".
ودارت الحروب الأربعة رحاها في الأراضي الزراعية، وكانت أكبر الخسائر فداحة في قطاع الزراعة تحديدًا، علمًا أن القانون الدولي يحرم استهداف المزارع أو المرافق الزراعية، وكل ما يتعلق من مرافق تعمل على إنتاج الغذاء، إلا أن الاحتلال لم يردعه شيء وواصلَ استهداف البنية التحتية لقطاع الزراعة.
وشملت المرافق الزراعية التي كانت في "وجه المدفع" في الحروب السابقة، مَزارع الأبقار والدواجن ومصانع الألبان ومخازن الأعلاف ومضخات المياه وشبكات الري والدفيئات الزراعية.
مستودعات شركة خضير الزراعية.. جريمة "مقصودة"
عن سابق إصرار قصفت "إسرائيل" مخازن المبيدات والأسمدة- شمال القطاع-، بخلافِ ما يشاع أن ذلك تم دون قصد، وفق ما تداولته وسائل إعلام الاحتلال؛ وبدورنا نؤكد تعمد قصفهم المخزن الأكبر في غزة للمواد الزراعية، لا سيما أن القذائف تُوجه بدقة فائقة وتصيب أهدافها دون خطأ يُذكر، دقة قد لا تتجاوز السنتيمترات القليلة.
علمًا أن المخازن تقع في منطقة قريبة جدًا من السياج الفاصل، أي أن مراقبة المكان بكل وسائل الرصد والمراقبة الأرضية والجوية والفضائية كانت قائمة.
ألم تعرف "إسرائيل" أن انفجار مخزن كهذا ونشوب الحرائق فيه سيتسبب في كارثة بيئية حقيقية مكتملة الأركان؟.
وحسب الإجماع العلمي "لا توجد مادة كيميائية آمنة على الصحة" كما يقول خبراء الصحة والبيئة، وبالتالي تُعد المواد الزراعية الكيميائية هي الأخطر، إذ تحتوي أولاً على مواد سامة تقتل الإنسان أو تتسبب له بالأمراض الخطيرة، ومنها المركبات الفوسفورية وغيرها من المبيدات الخاصة بالكائنات الحية المختلفة، مثل القوارض والديدان والحشرات والفطريات والميكروبات والفيروسات، وهذا وحده يكفي لإحداث الكارثة البيئية، فكيف وذلك المخزن يحتوي على أكثر من 150 مادة يمكن أن تتسبب في كارثة وأن تلوث المنطقة بأسرها!.
ففي المخزن كانت توجد مئات الأطنان من المبيدات والأسمدة والمواد الزراعية كالبلاستيك والنايلون وأنابيب المياه PVC & PE بأصنافها المختلفة وأنواع عديدة من مستلزمات العمل الزراعي.
مبيدات، وأسمدة كيميائية بمئات الأطنان تحتوي على 14 عنصر سمادي ومواد أخرى ضارة بالصحة والبيئة، فمنها العناصر الكبرى والعناصر الصغرى، ومن هذه المركبات والعناصر، تلك التي تُصنّف بكونها عناصر خطيرة على البيئة، وتُشكل خطورة على الصحة العامة عند ارتفاع نسبها في التربة، كالزنك والنحاس والكادميوم والحديد والنيكل، هذا غير الزئبق والرصاص والزرنيخ، ناهيك عن مبيدات ومركبات تتواجد في المواد الزراعية المختلفة.
قصف المخزن أدى إلى انتشار ألسنة اللهب التي وجدت أمامها مواد ملتهبة سريعة الاشتعال، فامتدّت إليها ومن ثم غرق شمال قطاع غزة في ظلمة سحابة السموم لمساحةٍ وصلت إلى عدة كيلومترات من شمال بيت لاهيا حتى شقيّ بيت حانون؛ في منطقة ذات كثافة بشرية هائلة، ونشاطات زراعية تبلغ ذروة موسم الإنتاج، وإن نجت المحاصيل من القصف فقد طالها التلوث بدخان الحريق.
كارثة بيئية وصحية ناتجة عن القصف الإسرائيلي لمخازن خضير للمبيدات- وزارة الزراعة
كارثة على أراضٍ زراعية
وهذا ما يدعونا إلى تصنيف الحريق على أنه كارثة، وفيما يلي بعض المعطيات البيئية التي نفرد لها الحديث هنا:
- المحاصيل التي تعرضت للتلوث:
تغطي معظم الأرض الزراعية مجموعة كبيرة من المحاصيل الورقية والمثمرة والدرنية، وهي في غالبها من المحاصيل التي تؤكل نيئة دون طهي Rough eaten vegetables منها الفراولة والتفاح والخوخ والمشمش، والبطيخ والشمام والخس. ولما كان الكثير من هذه المواد جهازية Systematic فإن وصولها إلى أجسام المستهلكين عبر السلسلة الغذائية حتمي ومؤكد.
- خزان جوفي مائي هو الأفضل:
وهو خزان ضحل، تغطيه تربة رملية ذات مسامية عالية، ما يسهل وصول الملوثات إلى المياه الجوفية المصدر الأهم للمياه في غزة.
- ثلاث كتل بشرية ضخمة:
وتشمل سكان بيت لاهيا ومشروعها، وبيت حانون، ومخيم جباليا، ويُقدر عددهم بمئات الآلاف (369 ألف تقريبًا في عام 2020) والنسبة الأكبر من عدد السكان أطفال وصبية دون العاشرة، من الذكور والإناث، بينما تصل نسبة من تقل أعمارهم عن 18 سنة أكثر من 50 % من العدد الإجمالي، كل هؤلاء كانوا معرضين للتلوث المباشر، وما زالوا معرضين لتلقي جرعات كبيرة من المواد الضارة بصورة غير مباشرة، باستهلاك مواد معرضة للتلوث، بعد وصولها إلى السلسلة الغذائية "Food chain".
وتجدر الإشارة أن الجهات المعنية أخلت المنطقة المستهدفة من سكانها ومن المزارعين، وذلك بسبب شدة انبعاث الروائح الضارة والتي لها تأثيرات مباشرة على الصحة العامة.
لماذا استهداف الزراعة؟
إن الجيوش التي تمارس حروب الإبادة الجماعية والتصفية العرقية، بشنّ حروب لا تراعى قوانين حماية المدنيين، أو تحاشي تعريضهم للخطر، ترى أن التجويع هو أحد أهم وسائلها لهزيمة الخصم وتركيعه، وهذا ما يجعلنا أن نجزم بأن معظم أهداف الاحتلال خلال "سيف القدس" كان الهدف منها الإبادة الجماعية، بعد أن قصفت "إسرائيل" الحقول والبساتين، وأحرقت الدفيئات، وأبادت المحاصيل، ثم قصفت مخازن الأسمدة والمبيدات، وسحقت البنية التحتية لأنظمة الري؛ من شبكات وخطوط نقل المياه، و المضخات والبِرك وأحواض تخزين المياه، وكانت النتيجة أن المزرعة التي تعرضت للعطش لن تكون سوى في عِداد المزارع التي هلكت أو اضمحل إنتاجها وتقزّمت نباتاتها.
عواقب وخيمة
من واقع تجاربنا السابقة بعد انتهاء الحروب، كنا نعايش العديد من المشاكل، مثل موت الحيوانات التي ترعى في مناطق سقوط القذائف؛ وارتفاع معدلات الطفرات النباتية والحيوانية، والتي منها التشوه وسقوط الأجنة من الحيوانات؛ وموت الأشجار وجفافها لأسباب غير معروفة؛ وعدم نمو النباتات في المناطق التي تعرضت للقصف، ناهيك عن ارتفاع في معدلات الإصابة بمرض السرطان.
وبالعودة إلى هذه المنشأة، فمن واجبنا أن نحذر من تركها دون تدخل عاجل من المتخصصين في مجال مكافحة التلوث بالمبيدات الخطيرة على الصحة؛ إذ أن هشاشة النظام البيئي في غزة تضعنا أمام مخاطر متعددة وربما خارج توقعاتنا، ولا بد من أن نعترف بقصور قدراتنا وخبراتنا في معالجة مثل هذه الكوارث، فنحن لا نمتلك الخبراء ولا المختبرات، وليس لدينا أطقم فنية متخصصة في إزالة آثار الكوارث الكيميائية والإشعاع، ومن هنا لا نقبل أن يتهاون أي منا في تحميل الاحتلال المسؤولية القانونية والأخلاقية والمادية عن هذه الجريمة التي تستدعي تدخلًا علميًا مدروسًا وعاجلاً.
إن الكارثة البيئية سيكون لها آثارًا ممتدة وستعرض حياة الناس والمحاصيل وطيور المزارع للخطر، والأهم أن تلك الآثار ستصل عبر السلسلة الغذائية للسكان، كما أنه سيعرض عناصر البيئة الحية Fauna & Flora أيضاً لمشاكل عديدة لا سيما وأن منطقة الشمال ثرية بالعديد من النباتات البرية، والأعشاب الطبية، والكائنات البرية المختلفة من زواحف وثدييات وحشرات، الأمر الذي يقتضي تحميل الاحتلال للمسؤولية الكاملة عن أي ضرر يلحق ببيئة غزة عامة، ومنطقة الشمال على وجه الخصوص.
وإضافة لما سبق، فإن تدمير المخازن الزراعية سيصيب الزراعة بأضرار مباشرة نتيجة عدم توفر مواد إعادة تأهيل المزارع المدمرة، ونخشى أن يتأخر توفير هذه المتطلبات العاجلة، ما يهدد إنتاج الغذاء في غزة ويلحق أضرارًا بالاقتصاد الزراعي والاقتصاد الفلسطيني عامة.