خاص بآفاق البيئة والتنمية

تنشط ماري دعيق في مبادرة "مكانيات"، برفقة ستة باحثين يعملون على تطوير منصة بحث مجانية لإنتاج وإدارة وتحليل وتصور البيانات الزراعية البيئية، وإنشاء برنامج بحثي محلي باستخدام وتطبيق أحدث الأدوات في أساليب البحث الميداني، والجيومكاني والنوعي، وتطوير نموذج للأبحاث.
في حوار شائق مع الباحثة الشابة ماري، تشرح لمراسل مجلة "آفاق البيئة والتنمية" خلاصة بحث جماعي تناول سبل تحقيق زراعة أكثر استدامة من ناحية اجتماعية عبر زراعة النباتات المعمرة، لتحقيق نظم أكثر عدالة بين الأفراد، ومن أجل تحقيق استدامة زراعية حقيقية وواعية اجتماعياً.
بداية ما جوهر الفكرة التي قام عليها البحث؟ وبالنظر إلى نموذجنا الفلسطيني كيف يمكن الاستفادة من نتائجه التي خلص إليها؟
الفكرة في الأساس التي توصلنا لها أن بيئة الزراعة الفلسطينية البرية غنية ومتنوعة، اعتمد عليها أجدادنا مصدرًا للغذاء قبل فتح الأسواق، أو نقل البذور إلى فلسطين من بيئات خارجية مختلفة.
عملنا على فكرة نؤمن بها وهي أن بيئتنا غنية بالغذاء بمختلف أشكاله، كالنباتات والأعشاب والأشجار والشجريات، وهي متوفرة حولنا، فلا نحتاج لشراء بذوره، أو استيراده، والأهم أنه معتاد على مناخنا، ولديه قدرة على مقاومة الجفاف، ولا يحتاج إلى مدخلات خارجية كالمبيدات الحشرية، ويساعد على استمرار الملحقات البرية الأصلية في الحصول على غذائها.
وشاركنا في البحث د. أوبري كروغ، مديرة دراسات المحيط الحيوي في معهد The Land في الولايات المتحدة، ووجدنا أن نمط الزراعة الحالي، زراعة الحبوب السنوية، مرتبط بشكل كبير بسيادة أنماط ثقافية متعلقة بالمسوجينية (كره النساء)، والكولونيالية الاستيطانية، و"اللوجستيات الزراعية"، لأنها ساعدت على استخدام أنواعٍ لزراعة الحبوب السنوية لإخضاع وحرمان شرائح معينة من المجتمع من حقوقها.
وعندما راجعنا تاريخ زراعة الحبوب من جانب هيمنة أنماط ثقافية محددة، وجدنا أن مثل هذه الممارسات الزراعية لن تخدم البشر على المدى البعيد، في الوقت الذي تستطيع فيه الزراعة التي تعتمد على البذور المعمرة أن تحقق نمطاً زراعيّاً مستداماً يوفر احتياجات العالم الحديث مع الحفاظ على المحيط الحيوي على المدى البعيد.
لماذا أبحرتم في هذا الاتجاه البحثي، وما العقبات التي واجهتكم؟
بحثنا في الزراعة الممتدة منذ آلاف السنين، والتي بدأت من فلسطين، ووجدنا أن الأرض اٌستهلكت من تكرار عمليات الزراعة التقليدية، في ضوء معادلة لها شقين: أن الإنسان يحتاج إلى غذائه وأن البيئة لها متطلباتها، فعملنا على فكرة التناغم بين الإنسان والبيئة. وقد واجهنا عقبات تقييد الحركة، وندرة المصادر العلمية المحلية.

مبادرة مكانيات
ما خلاصات دراسة البحث لتجربة مشروع "مكانيات"؟
نسعى إلى تطوير منصة بحث مجانية مفتوحة المصدر لتوليد وإدارة وتحليل وتصور البيانات الزراعية البيئية، على أن توفر خطاً أساسياً تاريخياً غنياً للأبحاث المستقبلية في الزراعة البيئية الفلسطينية ودعمها.
وجرى إنشاء برنامج بحثي محلي مستوحى من الحركة المتنامية لأنظمة المعلومات المفتوحة، باستخدام وتطبيق أحدث الأدوات في أساليب البحث الميدان، والبحث الجيومكاني، وأساليب البحث النوعي، وتطوير نموذج للأبحاث التعاونية.
كما نهدف إلى تطوير بنك جيني لحفظ ونشر النباتات البرية الغذائية خارج وداخل موقعها الطبيعي في فلسطين. ونجمع النباتات البرية الصالحة للأكل وإعادة إحياءها عبر عدة مواقع، نأمل أن توفر هذه النباتات قاعدة أساسية للتحول الزراعي البيئي في فلسطين.
عملنا في مكانية دير بلوط قرب سلفيت بين 2015 و2017، الذي اعتمده المزارعون كمصدر للغذاء، وتعرض خلال سنوات للاستنزاف، بفعل تكرار زراعة الفقوس والحبوب والخضروات، وتابعنا التغيرات خلال مئة عام على السهل، وبحثنا في تداعيات النكبة والنكسة على النمط الزراعي، وتابعنا دور النساء في العمل بالسهل، وزيادة أنواع المحاصيل.
ونبحث حاليًا في وادي الدلب بمنطقة ترفيديا غرب رام الله، وتعد إرثا حضارياً، وثقافياً، وتاريخياً، وطبيعياً وتسمى " عين ترفيديا"، وهي من أهم المجاري المائية، ونبحث فيها كمنطقة برية تعاني الزحف العمراني والتهديد.
واعتمدنا على استخدام أدوات بحثية مختلفة ومتنوعة أهمها نظم المعلومات الجغرافية، ودراسة عدد من المقاطع العرضية في مكانية دير بلوط، وتحليل استخدام وغطاء الأرض في فترات زمنية مختلفة، بهدف التعرف على طبيعة الغطاء النباتي ونوع الزراعة السائدة في تلك الفترات، واستخدمنا التصوير الفوتوغرافي ودراسة الأنواع والأصناف النباتية السائدة وتجمعاتها.
وركزنا على استمرار ممارسات الزراعة البعلية التي تحافظ على خصوبة التربة والسلالات النباتية المحلية وتعمل على تطويرها. وأطلقنا موقعًا إلكترونيًا لإدارة وتحليل وعرض البيانات البحثية، التي تضم بيانات تم جمعها من مصادر مختلفة.

باحثو مبادرة مكانيات
من هو فريق البحث؟
نحن سبعة من الباحثين بتخصصات مختلفة، بإشراف د. عمر تسدال من دائرة الجغرافيا بجامعة بيرزيت، وبمشاركة باحثين في مجالات عدة، وباحثة من الولايات المتحدة في الزراعة المعمرة.
شاركنا المجتمع المحلي، ونعمل منذ 7 سنوات في أبحاثنا، ويتوزع فريقنا بين الطيبة ودير بلوط وبيت لحم ودير أبو مشعل ورام الله والبيرة.
ناقش البحث إمكانية تحقيق زراعة أكثر استدامة من ناحية اجتماعية من خلال زراعة النباتات المعمرة، لتحقيق نظم أكثر عدالة بين الأفراد.. كيف يمكن التأسيس لذلك في بيئة زراعية لا تتبنى هذه الأنماط وملوثة بالكيماويات واستزاف التربة؟
بدأنا بمساعٍ حثيثة لإقناع المزارعين لقبول هذا النمط الزراعي، وآمنت مجموعة منهم بتوجهاتنا، وقربنا للمجتمع منافع الزراعة المستدامة، من خلال التعريف بالأصناف التي يمكن زراعتها دون اللجوء إلى عمليات الزراعة التقليدية، والتعريف بالأصناف التي تتأقلم مع الطبيعة، وبطبيعة الحال الري من المدخلات، لذا نروج للأنماط المعمرة.
وجدنا فئات تتقبل الزراعة العضوية، وهي التي يمكن أن ننطلق معها في رؤية الزراعة المعمرة.

إكثار النباتات البرية
أشار بحثكم المنشور في دورية “Plants, People, Planet” البريطانية، إلى أهمية تفكيك البنى الثقافية المُمأسسة اجتماعياً المرتبطة بأنماط زراعية معينة تؤدي إلى إتلاف المحيط البيئي على المدى الطويل. بأي السبل يمكننا الوصول إلى هذه المنظومة؟ وكيف يمكن اقناع فلاحينا بهذه الممارسات؟
حسنًا على سبيل المثال: نفقد خلال الحراثة الكثير، فنخسر من خصائص التربة بفعلها، وندمر البكتيريا الموجودة فيها، ويزداد تأثير الجفاف عليها. الحل يكمن في قص النباتات البرية وتركها مكانها، لتوفير غطاء نباتي يحافظ على الرطوبة، فهو يجمع الندى والرطوبة، ويقلل من تبخر التربة، ولكن حال التخلص منه سنهدد التربة. يلجأ المزارعون قبل المطر لحراثة الأرض لتفتيح مسامات التربة، لكنهم لا يدركون أن النباتات نفسها التي تنمو في هذه الفترة تساهم في حماية التربة.
أكد البحث أن نمط الزراعة الحالي (الحبوب السنوية) مرتبط بسيادة أنماط ثقافية ساعدت على استخدام أنواعٍ لزراعة الحبوب لإخضاع وحرمان شرائح مجتمعية من حقوقها. لو يجري توضيح ذلك وربطه بحالتنا التي تخلت عن زراعتها التقليدية، وتوشك فقدان الحيز المتبقي من الأرض؟
حين بحثنا في أسباب زراعة الزيتون كونها شجرة مُعمرة، وجدنا الكثير من العوامل، من بينها عدم حاجتها لعناية يومية، وللجهد القليل الذي تتطلبه، الأمر الذي يحرر المزارع من العمل اليومي، ويقلل من الجهد والطاقة المبذولة والوقت، فيقلل التكلفة، ولا يستنزف الأرض، ولا يحتاج إلى مدخلات غذائية.
ركزنا على نبتة الشعير البري، وهي نبتة معمرة وبديل عن زراعة الحبوب التقليدية، ويمكن أن تكون النباتات البرية الأخرى بدائل للكثير من النباتات التقليدية، وتوفر لنا استدامة زراعية وتحافظ على الطبيعة.
نستمر في إجراء أبحاثنا بمسارات الحياة البرية، ومكانية دير بلوط، التي استمرت ثلاث سنوات وواكبت تحولات الزراعة في المنطقة خلال 100 عام، ونثابر من أجل الوصول إلى نتائج أخرى.
أكدتم أن الممارسات الزراعية الراهنة لن تخدم البشر على المدى البعيد، فيما تستطيع الزراعة التي تعتمد على البذور المعمرة أن تحقق نمطاً زراعياً مستداماً يوفر الاحتياجات ويحافظ على المحيط الحيوي على المدى البعيد. ما السبل لإعادة إنعاش البذور البلدية؟
توجهنا الأساسي نحو البذور البرية لا البلدية، وفكرتنا تستند على تشجيع المشاتل والفلاحين على تكثير الأشجار البرية الأصلية كالبلوط والخروب والقيقب والأعشاب كالزعتر والميرمية والعكوب وغرسها في حقولهم، إذ يمكن أن تدر دخلًا عليهم.

دراسة التنوع الكبير في النباتات البرية الفلسطينية
ما هي مقومات نجاح النظام الزراعي المُستدام؟
النظام الزراعي المستدام مبني على ثلاثة مفاهيم: الاكتفاء، أي إنهاء الإنتاج واستخراج الموارد غير المحدود، ومسؤولية الإنسان في تكريس الوقت والجهد في رعاية البشر بصرف النظر عن جنسهم أو أية خصائص، والإبداع المشترك، الذي يتناقض مع فكرة الاستعمار الاستيطاني ويؤكد على قدرة الناس على الإبداع والإنتاج باستخدام الأرض بدلاً من تدميرها لبناء شيء جديد.
يرتكز هذا النمط على الاكتفاء؛ والمسؤولية، والإبداع المشترك، ويشترط تحرر المزارع من المفهوم التقليدي كالحراثة، والاستعداد لعدم قطع الأشجار كالبلوط والخروب والنباتات البرية من حقله.
النظام الزراعي المستدام فكرة بحاجة إلى إيمان مطلق بأهمية الزراعة المعمرة، وحماية النباتات البرية، والتوقف عن استنزاف الأرض.