خاص بآفاق البيئة والتنمية
"ألم يحن الوقت لأن نطالب الفلاحين بمعايير أخلاقية في مزاولة المهنة، مثلما نطالب الأطباء؟" نحن نطالب الأطباء بالالتزام بأخلاقيات مهنة الطب، التي تعالجنا إن مرضنا، ولا نطالب منتجي الغذاء بأخلاقيات مهنة الزراعة التي تنتج الغذاء، الذي إما أن يذهب بنا نحو المرض، إن كان أُنتج باستخدام السموم من مبيدات وأسمدة وهرمونات، أو أن يعزز الصحة والعافية، إن كان منتجاً بيئياً طبيعيًا؟ لا يخجل بعضٌ من قلب الموازين، حين يطالبون الفلاح البيئي بتقديم إثبات يفيد أن إنتاجه بيئي، ولا يطالبون المزارع الكيماوي أن يبين لنا نوع السموم التي استخدمها في إنتاج خضاره وفاكهته؟ أليس الأحق لنا أن نعرف ما في غذائنا من سموم؟ لماذا لا نطالب الجهات الصحية وجمعيات حماية المستهلك بوضع ملصق يبين أنواع السموم المستخدمة في الإنتاج؟ لماذا لا نطالب بمعرفة أنواع الهرمونات المستعملة في إنتاج اللحوم والحليب والبيض؟ أليس ذلك من حقنا؟
|
 |
الحقل على اليمين رُشَ بمبيدات الأعشاب وعلى اليسار دون سموم. أي إنتاج يحتاج للشهادة والتصريح بما اُستخدم؟ |
ربما خرجتُ عن طوري قليلاً في الرد على ذاك السؤال، وعن طبيعتي الهادئة في الحياة العادية.
فبعض الكلمات كثيراً ما تخلق فينا حالةً من الصحوة الغاضبة، تلك الصحوة توقظ فينا شيئاً كان حتى تلك اللحظة هاجعاً في أعماق النفس ومجهولاً، بل ربما كانت تلك اللحظة فرصة، ذلك السؤال هزني في العمق بقوة وأجبرني على تقليب أفكاري وطرح السؤال المختلف.
ربما أثارني، بطريقةٍ أخرجت مكنوناً دفيناً لم أفكر من قبل في طرحه بهذا الشكل، بل ربما هو سلاح الهجوم الذي يجب أن نمتشقه في وجه فكر متعجرف، لا يخجل من التبّجح بمحاولاته للنيل من عزيمة "محبي الحياة"، عزيمة المدافعين عن الإنسان وحقه في "حياة العافية"، عشاق الأرض وحماتها، السّاعون لشفائها من هول ما ترتكبه يد الإنسان من تخريب لعناصرها، لمواجهة فكرٍ أصحابه يتشدقون القول في تشكيكهم بخطٍ يعمل لصون الحياة ويقدرها، يهتم بالإنسان وصحته، فكر يقدر الحياة بكل أشكالها على هذا الكوكب ويريد الخير للبشرية أولاً وللطبيعة معها.
وأثار ذلك السؤال في نفسي تساؤلاً آخراً: لماذا يحتاج المدافعون عن الحياة لكل هذا الجهد في إقناع الآخرين بأهمية الدفاع عن الحياة؟.. عن حب الطبيعة والدفاع عنها، عن الأرض، عن الصحة والعافية، عن نقاء المياه وجمال الطبيعة، عن التربة - الأم التي تطعمنا؟
شعرت بحالة من الاحتراق الداخلي، احتراق ينهش كياني بسبب كل ذلك القدح والهجوم على من يَدعون إلى إعادة التوازن للطبيعة، والتوقف عن الإفساد الذي يلحق بها، أَو ليست الدعوة لصون الطبيعة دعوة خير للبشرية؟ إذن لماذا تُواجه دعوات الخير بكل ذلك القدر من الشر؟ أسئلة تحدث طنيناً في الدماغ ولكنها معه تخلق الإصرار على المضي في الطريق، لأنه طريق الحق، طريق الخير، طريق الحياة.

حقل زيتون رُشّ بمبيدات الأعشاب ورغم ذلك لا يطلب المستهلك من المزارع شهادة تبين نوع السموم المستخدمة
كان السؤال الذي طُرح علي: هل لديك شهادة تثبت أن منتجاتك من الخضار منتجات عضوية/ بيئية؟ ابتسمت بكل مرارة لهذا السؤال، وتنهدت عميقاً بعمق الألم الذي أحسست به- بتلك المرارة، وقلت في نفسي قبل أن أرد: لا ألومها على هذا السؤال، فهذا ما تبرمجنا عليه، هكذا تُحرف المفاهيم ويُعاد توجيه الفكر البشري! وقلت في نفسي أيضاً: وهل تعرفين يا صديقتي ما في الغذاء الذي تشترينه من السوق؟ ثم بدأت معها الحوار على هذا النحو:
سألتها مبتسماً: هل تشترين من السوق لحمة وتأكلينها؟
قالت: نعم
وهل تشترين خضار وفواكه وتطعمينها لضيوفك ولأفراد العائلة؟
قالت: نعم
وهل تشترين البيض وتطعمينه لأبنائك؟
بدا عليها الاستغراب من أسئلتي ونوعٌ من الضيق (فرفطة الروح) وأجابت: نعم نعم، أشتري، وإلا كيف سنعيش، ما هذه الأسئلة؟ رددت في داخلي: اُعذريني على سخافة الأسئلة!
وكي لا أثير الملل في نفسها قلت، آخر سؤالين: هل تشترين كل ذلك من السوق ومحلات السوبرماركت؟
أجابت: بالتأكيد من السوق ومحلات السوبرماركت
وهل تطلبين شهادة تبين المواد المستخدمة في الإنتاج، مثل: نوع المبيدات التي استخدمت والهرمونات التي أعطيت للعجول والسخول والخرفان والدجاج اللاحم والبيّاض؟
قالت: لا، ولكن لماذا كل هذه الأسئلة؟
يا سيدتي، أنت تطلبين مني إثباتًا وشهادة تؤكد أن إنتاجي بيئي، لم تدخل السموم فيه وفي عملية إنتاجه، تريدين مني أنت وغيرك ما يثبت إيماني بما أقوم به ويقوم به غيري من الفلاحين البيئيين والمنتجين للغذاء الطبيعي غير الملوث بالسموم.
تريدون منا هذا الإثبات "نحن" المؤمنين بهذا الخط وهذا المنهج في العمل، نحن المدافعين عن الحق في إنتاج غذاء صحي سليم، العاملون على صيانة التربة وحماية الحياة فيها وحفظ الطبيعة، نحن من يرسم طريق التحرر للفلاحين، وطريق الحق لنكون أسياداً على قراراتنا، السّاعون لتحقيق السيادة الغذائية لشعبنا.

زراعة بيئية ونباتات مترافقة حيث لا أستخدام أي سموم. هذه زراعة لا تحتاج لشهادات
نحن إيماننا عميق لا يتزعزع بأن طريقنا الفلاحي البيئي لا بد أن ينتصر لخير البشرية، فصحتنا تبدأ من صحة غذائنا، وصحة غذائنا تبدأ من صحة الطبيعة، وصحة الطبيعة تبدأ من صحة تربتنا. فإن كان هذا ما يقودنا ويرشدنا في عملنا، فهل نحتاج لورقة أو ملصق يثبت أن إنتاجنا طبيعي؟ ولكن، معك حق في طلب ما يثبت ذلك، دعيني أقول لك: إن عيش الصحة والعافية يحتاج منك ومن غيرك أن تتكلفي بعض الوقت لزيارة فلاح بيئي لتعرفي قيمة ما ينتج، ولتكون تلك المعرفة هي الشهادة، لتعرفي مقدار الشغف الذي يعمل به، ولتعيشي الحُب الذي يعامل به الأرض والنباتات والطبيعة والكائنات الحية، لتعرفي مقدار الانسجام مع الذات الذي يعيشه ذلك الفلاح، ومقدار الخير الذي يختزنه، لتستنشقي الهواء العليل في مزرعته، هواءً نقياً بلا ملوثات، لتعيشي حالة التوازن الروحي الجسدي في مملكته الطبيعية، لتستكشفي جمال التنوع وبساطة الحلول في الإنتاج، لتشعري بتقدير الحياة والكائنات تمارس سلوكها الطبيعي الذي فُطرت عليه.
كل ذلك العمل وكل ذلك الحب الذي عنده ستكتشفه روحك في إنتاج ذلك الفلاح، فإنتاجه ممزوج بالحب، وذاك يزيد من قيمة ما تأكلين مما ينتجه. هي ليست كلمات رومانسية، بل فيها الكثير من العلم الذي أُثبت أخيراً، فالقيمة الغذائية للمنتجات الطبيعية تفوق المنتجات الأخرى بنحو سبعين بالمئة.
سيدتي أنا فلاحٌ أزرع بإيمانِ من يريد الخير لنفسه ولغيره، أزرع لأن واجبي أن أصون الطبيعة، أنا أزرع لأكون حراً، وأزرع لتنعمين أنت وغيرك بغذاء بلا سموم.
أنا أزرع لنكون أحراراً لا نعتمد على المستعمر فيما نحتاج لإنتاج الغذاء. أزرع لأقدم أنموذجاً للفلاحين حتى يصبحوا أحراراً من سيطرة شركات السموم والبذور المسمومة في جيناتها. يزرعون دون الحاجة للديون، ويوفرون لأنفسهم السلامة والصحة ببعدهم عن السموم، ويحمون أفراد أسرهم من تلك السموم، ويحافظون على تربتهم خصبة غنية ويبعدون عنها خطر الموت بالمبيدات والأسمدة الكيماوية.
أنا أزرع بهمة الفلاح البيئي.. أفلا يكفي كل ذلك شهادةً لما أنتج؟
ثم، أليس هذا قلبًا للموازين، حين نطالب الفلاح البيئي بتقديم إثبات يفيد أن إنتاجه بيئي، ولا نطالب المزارع الكيماوي أن يبيّن لنا نوع السموم التي استخدمها في إنتاج خضاره وفاكهته؟ أليس الأحق لنا أن نعرف ما في غذائنا من سموم؟ لماذا لا نطالب الجهات الصحية وجمعيات حماية المستهلك بوضع ملصق يبين أنواع السموم المستخدمة في الإنتاج؟ لماذا لا نطالب بمعرفة أنواع الهرمونات المستعملة في إنتاج اللحوم والحليب والبيض؟ أليس ذلك من حقنا؟
وهل يجرؤ من يستخدم كل تلك المواد على وضع بيان على منتجاته يقرّ فيها أنها أُنتجت باستخدام الهرمونات والمبيدات؟ وربما السؤال الأصح: هل يجرؤ من يزرع ويربي وينتج الخضار واللحم والبيض على ذكر ما استخدمه من مواد؟ أليس الأولى بنا المطالبة بمعرفة ما نأكل ومعرفة ما يحتويه غذاؤنا، بل أليس حقاً لنا معرفة ذلك؟ أليس من حق الناس أن تطالب المؤسسات الرسمية والأهلية ذات العلاقة بإنتاج الغذاء بأن تخصص جزءاً من نشاطها وموازناتها وتدريب وإرشاد الفلاحين للزراعة البيئية؟ لقد أصبح غريباً ذلك الانحراف في المفاهيم حين نطلب من فلاح بيئي أن يثبت أن إنتاجه خالٍ من السموم، بينما لا نطلب من المزارع الذي يستخدم السموم أن يذكر نوع السموم أو أن يبين أنه استخدمها. من يقدم منتجات مسمومة حر وتُطلق يداه كما يريد، ومن يزرع بلا سموم مطلوب منه شهادة، فأي تناقض نعيش وأي انحراف في المفاهيم أوصلونا إليه.
وكما قال الجزائري المولد؛ الفرنسي المنشأ؛ بيير رابحي "ألم يحن الوقت لأن نطالب الفلاحين بمعايير أخلاقية في مزاولة المهنة، مثلما نطالب الأطباء؟" نحن نطالب الأطباء بالالتزام بأخلاقيات مهنة الطب، التي تعالجنا إن مرضنا، ولا نطالب منتجي الغذاء بأخلاقيات مهنة الزراعة التي تنتج الغذاء، الذي إما أن يذهب بنا نحو المرض، إن كان أُنتج باستخدام السموم من مبيدات وأسمدة وهرمونات، أو أن يعزز الصحة والعافية، إن كان منتجاً بيئياً طبيعيًا؟
سيقول بعضٌ، لكن الغذاء ليس وحده المسؤول عن الأمراض، وهذا صحيح، لكن العلم أيضاً يقول إن نحو سبعين بالمئة من الأمراض منشؤها وسببها الغذاء، ما يعني أن حصولنا على غذاء طبيعي صحي يُنتج بلا سموم، من شأنه أن يبعد عنا أكثر من نصف الأمراض.
نقف مع الفلاح البيئي ونثق به لأنه يؤمن بما يفعل ولا نحتاج منه لورقة تثبت إيمانه، لكننا مدعوون للمطالبة بورقة بيان تُظهر أنواع السموم المستخدمة في إنتاج الغذاء في الزراعة الكيميائية. الغذاء الجيد حق للناس كما الماء والهواء والضوء.