
حبيب معلوف
لا يختلف علماء الطبيعة على ثلاث أزماتٍ خطيرة تهدد المعمورة: تغير المناخ وفقدان التنوع البیولوجي والتلوث. إلا أن الخلاف يكمن في كيفية وضع المخطط العلمي للتعامل مع هذه المخاطر؛ أمام تمسك البعض بمفاهيم كـ"الرفاهية" و"الرخاء"، والتي لعبت دورًا في ما تتعرض له الأرض من خطر محدق.
"الرفاهية" و"الرخاء" ابتدعهما خبراء الإعلانات لمصلحة كبار المنتجين من أجل تسويق المنتجات المتجددة بما يفوق الحاجات الحقيقية، ومع أن هذين المفهومين – و"مكمّلاتهما" مثل التنمية" - مسؤولان عن التدهور الذي وصل إليه حال الأرض، إلا أن كتّاب تقارير الأمم المتحدة لا يزالون يتمسّكون بهما لـ"التصالح مع الطبيعة"، وهو عنوان تقرير صدر في مارس/ آذار الماضي عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة. علماً بأنه من دون إعادة النظر في هذه المفاهيم لا يمكن أن تحصل المصالحة المطلوبة بين الانسان والطبيعة.
فالرفاهية التي ربطت بين السعادة والاستهلاك الفردي تطلّبت زيادة في الإنتاج والاستهلاك، والأخطار الثلاثة (تغيّر المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث) التي تهدّد الأرض، وفق التقرير، لم تحدث إلا عندما أوهمت إعلانات المنتجين الفرد بأن رفاهيته تتطلب أن تكون له سيارته الخاصة وبيته الخاص، من دون الأخذ في الاعتبار ما يتطلبه ذلك من استهلاك للموارد والمساحات والجهد والعمل.
سرعة الإنتاج والاستهلاك أدّت، أيضاً، على سبيل المثال إلى سرعة تناول الطعام، أو الطعام السريع، بغض النظر عن تداعيات هذه الزيادة على استهلاك اللحوم وتربية المواشي وأثرها على الغابات والموارد (مثال: شريحة الهمبرغر تحتاج إلى كمية من الحبوب والمياه تكفي الفرد لمدة سنة).
ورغم إصراره على فكرة الرفاهية قيمةً، لم يتطرق التقرير إلى كلفة هذه الرفاهية على الاقتصاد والبيئة في كل جوانب الحياة، وكيفية تبنّي نموذج حضاري بديل يمكن أن يسهم في إنقاذ الكوكب، تمهيداً للمصالحة المطلوبة.
ومن الرسائل الرئیسیة التي يمكن استخلاصها من التقرير، أن أزمات تغیّر المناخ وفقدان التنوع البیولوجي والتلوث، أزمات ذاتیة التأثیر، مترابطة بشكل وثیق، و"تعرّض رفاهیة الأجیال الحالیة والمستقبلیة لخطر غیر مقبول"، والذي شدد في الوقت نفسه، على ضرورة التنسيق بين الحكومات والشركات والشعوب لمنع أسوأ آثار التدهور البیئي من خلال التحول السريع للنظم الرئیسیة، بما في ذلك الطاقة والمیاه والغذاء، حتى يصبح استخدامنا للأراضي والمحیطات مستداماً.
ومع أن تحقيق الاستدامة ووقف التدهور الخطير في البيئة يتطلبان تغييراً في الأنظمة الاجتماعیة والاقتصادية لـ"تحسین علاقتنا مع الطبیعة" وفهم قیمتها ووضع هذه القیمة في صمیم عملیة صنع قراراتنا، لم يتوسّع معدّو التقرير في الحديث عن الأنظمة، ولم يتخلوا عن استخدام مفاهيم أسهمت في تدهور علاقتنا مع الطبيعة، كـ"الرفاهية"، التي تتجاوز شروط الحفاظ على ديمومة الأنظمة الأيكولوجية وحياة الأنواع، رغم الإقرار بأن التنمیة غیر المستدامة تؤدي إلى تدهور سريع في قدرة الأرض على الحفاظ على رفاهیة الإنسان.
وكما نعلم، تعتمد "رفاهية" الفرد على الاستخدام غير المحدود لفضاء كوكبي محدود وعلى موارد غير متجددة في معظمها، أو على تلويث موارد متجددة، من دون احتساب كلفة ضياع هذه الموارد وحقوق الأجيال المقبلة فيها وكلفة معالجة النفايات المتولدة من حياة الرفاهية.
يشير التقرير إلى أن الاقتصاد العالمي نما خمسة أضعاف تقريباً في السنوات الخمسين الماضية. لكن النظم الاجتماعیة والاقتصادية والمالیة الحالیة فشلت في توفیر الحوافز لإدارة النظم البیئیة ورأس المال الطبیعي بحكمة. ويعود ذلك إلى زيادة استخراج الموارد الطبیعیة والطاقة ثلاثة أضعاف، مع زيادة الإنتاج والاستهلاك.
وفي الفترة نفسها أيضاً، زاد عدد سكان العالم ضعفین، إلى 8.7 ملیارات شخص، إلا أن نحو 1,3 ملیار شخص لا يزالون يعانون من الفقر، ونحو 700 ملیون يعانون من الجوع، ما يؤشر إلى الاختلال الذي خلّفه نظام السوق القائم على المنافسة في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان الأرض. وهذا ما لم يلحظه هذا التقرير ولا التقارير السابقة ذات الصلة، منذ تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (أعلى سلطة بيئية في العالم) مطلع السبعينيات.
ويلفت التقرير إلى أن الإجراءات غیر المنسقة لمواجهة تغیر المناخ وفقدان التنوع البیولوجي والتلوث أقل بدرجة كبیرة من المطلوب لمنع التدهور البیئي، ما يهدّد مستقبل البشرية ويجعل أهداف التنمیة المستدامة بعيدة المنال.
ففي تغير المناخ، يذكر أن العالم يسير على مسار الاحترار العالمي بما لا يقل عن 3 درجات مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي بحلول عام 2100. وهذا يعني عدم تحقیق هدف "اتفاق باريس" المتمثل في الحفاظ على الاحترار أقل بكثیر من درجتین مئويتین، ومحاولة الحد من الزيادة بحيث لا تتجاوز 1.5 درجة مئوية، لتجنّب السيناريوات الكارثية، كذوبان الجليد وارتفاع منسوب البحار، والفيضانات، وانزياح الفصول، وزيادة الجفاف، وظهور فيروسات وأمراض جديدة.
كذلك، يقرّ بفشل تحقیق أي من الأهداف العالمیة لحماية الحیاة على الأرض ووقف تدهور الأراضي والمحیطات، وباستمرار تناقص الغابات والصید الجائر، وتعرض ملیون نوع (من أصل 8 ملايين) من النباتات والحیوانات لخطر الانقراض.
الأمر الوحيد الإيجابي، بداية استعادة طبقة الأوزون الواقیة للأرض، بسبب تحقيق بعض النجاح في استبدال بعض الغازات المؤثرة، في مقابل الزيادة المستمرة والخطيرة في تلوث الهواء والماء، وعدم إدارة المواد الكیمیائیة وتقلیل النفايات وإدارتها بأمان.
فيما يتصل بالأهداف والحلول، يدعو التقرير إلى التزامات مناخية وطنية أكثر طموحاً لتحقیق أهداف اتفاق باريس، من خلال خفض درجة الاحترار، وتقلیل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وجعل التكیف مع تغیر المناخ أسهل وأرخص كلفة، وذلك من خلال تحولات سريعة في مجالات تشمل أنظمة الطاقة، واستخدام الأراضي، والزراعة، وحماية الغابات، والتنمیة الحضرية، والبنیة التحتیة وأنماط الحیاة.
إلا أنه لا يتطرق إلى التزامات الدول، ولا سيما الغنية منها، التي كان عليها، بحسب اتفاقية باريس، أن تؤمِّن تمويل هذه العملية بمئة مليار دولار سنوياً، بدءاً من العام الماضي. وهذا ما لم يحصل.
ويلفت التقرير إلى إمكان وقف فقدان التنوع البیولوجي وعكس مساره من خلال توسیع نطاق المناطق المحمیة وتوفیر مساحة للطبیعة مع معالجة دوافع التدهور، مثل تغییر استخدام الأراضي والبحر، والاستغلال المفرط للموارد، وتغیّر المناخ، والتلوث والأنواع الغريبة الغازية، إلا أنه لم يقيّم جدوى حماية مناطق صغيرة حول العالم لا تمثل سوى 2 أو 3% من مساحات اليابسة والمحيطات، فيما تُستباح المساحات الباقية، علماً بأن هذه المحميات لا يمكن حمايتها من انعكاسات تغير المناخ!
واذ يؤكد إمكان التقلیل من الآثار الضارة للمواد الكیمیائیة والنفايات على البیئة وصحة الإنسان، من خلال تنفیذ الاتفاقیات الدولیة، لا يذكر الأسباب الحقيقية التي تحول دون الالتزام بتطبيق هذه الاتفاقيات، ولا سيما سيطرة التجار والمهربين على الحكومات أو على حدود الدول البحرية والبرية.
كما يراهن التقرير على "المعرفة البشرية والإبداع والتكنولوجیا"، وعلى "التعاون" لتأمین مستقبل مستدام. إلا أنه لا يتطرق إلى إشكاليات تتعلق بهوية من ينتج المعرفة ومن يملك التكنولوجيا ومن يتحكم في الأسواق، وأن طبيعة الأسواق نفسها القائمة على المنافسة، لا يمكنها أن تقتنع بفكرة التعاون المناقضة لطبيعتها.
وتجدر الإشارة إلى أن التعويل على تغييرات جوهرية في طبيعة التكنولوجيا، كالانتقال إلى ما يسمى "التكنولوجيا الخضراء" في إنتاج الطاقة المتجددة، لا يغيّر شيئاً في المشهد العام الذي يتجه نحو الانحدار؛ إذ إن دولة كالصين، وهي الأولى في إنتاج التكنولوجيا النظيفة من مراوح هواء وألواح شمسية وغيرها، لا تزال الأولى أيضاً في إنتاج الطاقة من الفحم الحجري، والأولى في التجارة العالمية، وهذا ما يؤكد أن التحول المطلوب يتعلق بجوهر الحضارة وجوهر القيم وليس في قشورها.