خاص بآفاق البيئة والتنمية
عرضت مجلة آفاق البيئة والتنمية في العددين السابقين، تحليلا للتغيرات التي جرت على الأراضي المحتلة عام 67 من منظور بيئي شامل، بعد إتفاقية أوسلو التي قامت بتجزئة الأرض الفلسطينية، ونتج عنها خسارة كبيرة في الأراضي والمياه المصادرة والتلوث والتغيير للطبيعة في تلك المناطق. وبينما ركز الجزآن الأول والثاني على التغيرات الطبوغرافية والسرقات المستمرة للموارد الطبيعية في الضفة الغربية وغزة، والتلوث بأشكاله الناتج بشكل مباشر أو غير مباشر عن الاحتلال الإسرائيلي، وتأثير المستعمرات ومخلفاتها، وكذلك مناطقها الصناعية على الطبيعة الفلسطينية. سيتم التركيز في الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة على الأثر البيئي لجدار الفصل العنصري وعملية بنائه ومناطق العزل التي تسبب بها، وكذلك التغيرات التي أثّرت على التوازن الطبيعي والتنوع الحيوي، وسيكون ختام التقرير حول الانتهاكات الاسرائيلية بحق السكان تحت ذرائع حماية البيئة.
جدار الفصل العنصري
قامت حكومة الاحتلال منذ توقيع معاهدة أوسلو بتثبيت سيطرتها على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 67 ببناء جدار الفصل العنصري، والذي يبلغ طوله 700 كم مقطعا أوصال الأرض عن بعضها، ومكونا منطقتي عزل رئيسيتين، هما: منطقة العزل الشرقية والتي تصادر 1237 كم مربع أو ما يعادل 21,9٪ من مساحة الضفة الغربية والواقعة على طول حدودها مع الأردن. ومنطقة العزل الغربية بمساحة 1328 أو ما يعادل 23,4٪ من مساحة الضفة الغربية، وهي المنطقة التي تفصلها عن الأرض المحتلة عام 48. وبذلك يكون مشروع جدار الفصل العنصري والذي بدأ عام 2002 قد قام بمصادرة ما مجموعه 45٪ من مساحة الضفة الغربية، ونجح في تقطيع أوصال السكان. وسمح هذا المخطط العنصري بمصادرة 12 مليون متر مكعب من مياه الحوض الغربي، و40 بئراً يخدم 32 ألف نسمة، وعزل 240 ألف دونم من الأرض الزراعية، ومنع المزارعين في 71 قرية من الوصول الى أراضيهم. وإن كانت هذه المظاهر من تأثيرات الجدار على سكان الأرض من البشر، فإن الكائنات الحية الأخرى لم تسلم هي الأخرى، فقد عمل الجدار على قطع الممرات الحيوية البرية الموسمية، مما أدى الى عدم السماح للكائنات البرية بالتنقل للبحث عن الغذاء والتزاوج. كما وقامت دولة الإحتلال في أثناء عملية بناء الجدار، بقلع حوالي 100 ألف شجرة زيتون، بالإضافة لمئات الآلاف من الأشجار المثمرة الأخرى الحرجية والبرية، وقامت بتجريف آلاف الدونمات من الأراضي وإزالة الغطاء النباتي للمنطقة كاملا، مدمرة بذلك أماكن الغذاء والسكن للكائنات المختلفة. هذا ويشكل السور الشائك والمكهرب المحيط بالجدار الإسمنتي، أداةَ قتل مباشر للحياة البرية المارة بممرات التنقل الحيوية الخاصة بها والتي يقتطعها ذلك السور.
كذلك فإن لاقتطاع سير المياه السطحية الطبيعية، تأثيراً كبيراً على الكائنات المعتمدة على هذه المياه عند جانبي الجدار. ولم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل قامت بحفر الخنادق في الأراضي المحاذية للجدار بشكل يعمل أيضا على تغيير مسار المياه السطحية، حارمة بذلك كل الكائنات المعتمدة عليها بالشرب ومسببة فيضانات مدمرة في مواسم المطر، كما حدث في أوائل العام الحالي في الكثير من المناطق. أما الأراضي الواقعة في مناطق العزل الشرقية والغربية في الجهة الأخرى للجدار، فهي محرومة من مصادر المياه التي تحتاج إليها، وأيضاً من الكائنات التي تعتمد عليها، كما تُعزل الكائنات المتواجدة في مناطق العزل عن موطنها ومصادر غذائها ومسكنها.
لذا، فإن الجدار العنصري يهدد التنوع الحيوي والحياة البرية في فلسطين، فهو مدمر للأنظمة البيئية، وبالتالي يهدد الحيوانات البرية وخاصة النادرة منها والمهددة بالانقراض. أما عملية عزل المناطق الطبيعية وإحاطتها بالجدار، فهي تؤدي الى تقليص التنوع الوراثي للكائنات الموجودة في مناطق العزل وتشكل خطرا عليها.
جبل أبو غنيم بعد أن أعلنه الاحتلال محمية طبيعية وأقام عليه مستعمرة
التغيرات في التوازن الطبيعي والتنوع الحيوي
تعتبر فلسطين من أغنى مناطق العالم في التنوع الحيوي. وذلك لأنها تقع في منطقة إلتقاء ثلاث قارات، فهي تشكل الممر الحيوي للكائنات المهاجرة من وإلى القارات الثلاث، وهي ثاني أهم معبر للطيور في العالم. كما ويعود الفضل في هذا التنوع للتباين الكبير في الأنظمة المناخية والتنوع في التضاريس وأنواع التربة. ولكن يقع هذا التنوع الحيوي الفلسطيني تحت تهديد دائم جراء التغيرات التي تحصل على البيئة الفلسطينية، وبشكل خاص التغيرات التي حدثت قبل الإستعمار الصهيوني للبلاد. وهذه التغيرات في التنوع الحيوي تؤثر على التوازن الطبيعي ككل، لأنها تخلق حلقات مفقودة في سلسلة غذائية متكاملة، تتأثر بفعلها كل السلسلة. فعند انقراض نوع من أنواع الحيوانات، فذلك يؤثر على جميع الكائنات الموجودة في تلك السلسلة الغذائية لهذا الحيوان، ما يشكل خللا في التوازن الطبيعي، الذي قد تتعافى منه الطبيعة أحيانا، وأحيانا أخرى تكون هذه التغيرات دائمة. أما التغيرات التي حصلت على التوازن الطبيعي والتنوع الحيوي بعد الاحتلال الاسرائيلي وخاصة بعد أوسلو، فجاءت نتيجة عوامل رئيسية حدثت كنتيجة مباشرة لتقسيمات أوسلو وأهمها:
حصر المجتمع الفلسطيني على 36٪ من أراضي الضفة الغربية، الأمر الذي خلق مناطق سكانية مكتظة، كالمدن التي هاجر إليها أهالي القرى بعد فقدان القدرة على زراعة أراضيهم بسبب مصادرتها أو عدم جدوى الزراعة كنتيجة مباشرة لبروتوكول باريس التابع لاتفاقية أوسلو. فمن ناحية أصبحت الطبيعة في المناطق المكتظة غير قادرة على سد حاجة القاطنين فيها من الغذاء والوقود والمسكن. وتسبب هذا بتدهور البيئة في تلك المناطق بشكل متسارع، فزحف التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية والبرية وقضى على الغطاء النباتي والتنوع الحيوي في تلك المناطق. مثل غزة التي تعد الأعلى "كثافة سكانية" في العالم. بعد أن كانت من أهم المناطق في التنوع الحيوي الخاص في فلسطين، فقد اكتسح السكان جميع المناطق البرية الطبيعية، ولم تتح الكثافة السكانية والعبء على الموارد الطبيعية فرصةً للحيوانات البرية بأن تعيش، فهي شبه معدومة باستثناء بعض القوارض الصغيرة.
وتسبب ازدياد عدد ومساحات المستعمرات الصهيونية وشق الشوارع الالتفافية الخاصة بها، وما تبعه من قلع للأشجار وجرفٍ للغطاء النباتي في تهديد كبير للتنوع الحيوي. ففي تقرير لمعهد الأبحاث التطبيقية (أريج)، حول التحولات في المساحات المغطاة بالغابات في الضفة الغربية، وُجِد أن مساحة الأراضي الحرجية قد تناقص بمعدل 59٪ بين عامي 1974 و2007، وبأن مساحة المناطق المغطاة بالغابات المكسوة بالغطاء النباتي لا تتعدى 1.5 ٪ من مساحة الضفة الغربية، مبيناً بأن النسبة الكبرى من عمليات إقتلاع الأشجار (68٪) حدثت بعد عام 2000. ومن الأمثلة على ذلك جبل أبو غنيم الذي كان مغطى بغابة كثيفة من الأشجار الحرجية والبرية الفلسطينية، بمساحة 22 ألف دونم، تمت مصادرتها بالكامل من قبل قوات الإحتلال ليتم بناء مستعمرة إسرائيلية. ويذكر بأن مناطق العزل الشرقية لجدار العزل العنصري تسببت بتدهور كبير في الغطاء النباتي عن طريق عزل أكثر من 45 كم مربع من الغابات أو ما يقارب 55٪ من المساحة الكلية للغابات في الضفة الغربية.
تأثير التلوث على الحياة البرية والتنوع الحيوي
إن تواجد المواد الكيماوية وخاصة المعادن الثقيلة ومخلفات المناطق الصناعية الكيماوية وغيرها من الملوثات التي تسببت بها المناطق الصناعية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهي الأكثر تلويثا للطبيعة، يتسبب في تسمم الكائنات الحية من نباتات وحيوانات وطيور. ومن أخطر انواع التلوث خاصة في منطقة الأغوار الفلسطينية المحتلة ومنطقة طوباس وجنين والخليل، استخدام البلاستيك الزراعي بشكل واسع، والذي أصبح يلوث كافة الأراضي الزراعية في تلك المناطق. وفي بحث قام به مركز الأبحاث التطبيقية (أريج)، وجد أن كمية البلاستيك الزراعي المستخدم من قبل المزارعين الفلسطينيين هي 3300 طن بالسنة. وبأن معظم المزارعين في منطقة الأغوار (88٪) يقومون بحرق البلاستيك للتخلص منه، مما يسبب تلوثا جويا ضارا بالإنسان وبالنباتات المحيطة والكائنات الأخرى في المحيط المباشر والبعيد. أضف إلى ذلك، استخدام المبيدات الحشرية السامة والممنوعة والتلوث الناتج عن المستعمرات ومناطقها الصناعية، وكذلك التلوث الناتج عن المكبات وحرق النفايات.
المحميات الطبيعية والاستعمار البيئي
إن تصنيف الأراضي كمحمية طبيعية هو من أهم طرق التطهير العرقي الذي تقوم به دولة الإستعمار ضد السكان الأصليين لتلك المناطق. وهذه الأداة استعملت بكثافة في بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بقيادة الصندوق القومي اليهودي، وتستخدم حتى يومنا هذا لمصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية. ففي الضفة الغربية وصلت نسبة المناطق التي أعلنت محميات طبيعية عقب أوسلو الى 12٪ من المساحة الكاملة للضفة الغربية. أحد الأمثلة على طريقة المصادرة باسم الطبيعة هو وادي قانا. وهو وادٍ يقع بين محافظتي سلفيت وقلقيلية، تبلغ مساحته أكثر من 10 آلاف دونم، وتعود ملكية معظمه لقرية دير إستيا. ويعتبر وادي قانا أحد أهم الوديان دائمة الجريان في الضفة الغربية، فهو ذو تنوع حيوي كبير وجمال مميز. فيه إحدى عشرة عينا جارية. ولربما كان من الأمثلة المميزة في كيفية تناغم الإنتاج الزراعي للإنسان والطبيعة البرية. فأراضي الوادي مزروعة من قبل مزارعي دير إستيا منذ زمن طويل بالزيتون والحمضيات المختلفة، والزراعة هناك تقليدية، تحافظ على التنوع الحيوي الطبيعي والبري للمنطقة المحيطة.
مناطق العزل الناتجة عن جدار العزل العنصري
بلاء المستعمرات الدائم
وقد بدأت سلطات الاحتلال بحملة مصادرة وادي قانا عام 1979، بإعلانه منطقة عسكرية مغلقة. وبذلك منعت الفلسطينيين الوصول للوادي أو الى أراضيهم المزروعة فيه تحت ذرائع أمنية. بينما قامت ببناء 9 مستوطنات على جزء من أراضي الوادي والأراضي المحيطة به خلال تلك الفترة. ومن ثم قامت حكومة الاحتلال بتغيير تصنيفه عام 1982 فأعلنت بأن المنطقة "محمية طبيعية". وأصبحت أراضي وادي قانا تحت سيطرة ما يسمى "سلطة البيئة الإسرائيلية"، والتي أصبحت تسمح لأهل دير إستيا بالوصول لأراضيهم، ولكن تمنعهم من زراعتها. بينما يحق للمستعمرين زراعة وقلع الشجر حتى البري منه، وخاصة الأشجار المثمرة الخاصة بأهل دير إستيا. ولا تمنع المستعمرات من سرقة مياه الينابيع وصب مجاريها غير المعالجة مباشرة في الوادي.
وتقوم المستوطنات في المناطق المحيطة بوادي قانا بحفر الآبار لضخ مياه الوادي للمستعمرات، مسببة نقصاً واضحاً وأحيانا جفافا في الوادي، كما ويقوم المستوطنون بالتعدي المستمر على المزارعين الفلسطينيين، وبتدمير دوري للمعدات والطرق الزراعية والأبنية الزراعية الموجودة هناك.
وكذلك الحال في وادي الربابة بسلوان، الذي أعلن منطقة عسكرية مغلقة، وقامت "سلطة البيئة" من خلال جرافاتها الخاصة وجرافات البلدية الصهيونية، بهدم العديد من بيوت المواطنين وبقلع الأشجار وتدمير البساتين والمناطق المزروعة. وكذلك الحال في ما يسمى "بالحديقة القومية الجديدة" في مدينة القدس والمخطط إنشاؤها على أراضي يملكها مقدسيون فلسطينيون، والتي تهدف لمنعهم من البناء أو زراعة أراضيهم، ولمصادرة الأرض تحت غطاء المشروع البيئي. فكل هذه التغيرات التي حصلت على المناطق الطبيعية البرية في الضفة الغربية، تسببت بخسارة هائلة في التنوع الحيوي للمنطقة وتهدد بخسارة المزيد.
إن الإعلان عن مناطق معينة كمحمية طبيعية هي إحدى أدوات دولة الاحتلال في التطهير العرقي، والتي استخدمتها منذ قيامها، ولكنها لم تكتفِ بذلك، فوضعت قوانين عنصرية مستخدمة ذريعة حماية البيئة (من الفلسطينيين)، كقوانين تمنع قطف نبات العكوب أو الزعتر أو الميرمية، علما بأن عملية القطف هذه لا تقتل النبات نفسه فهي لا تقتلعه من جذوره. كما وأن الفلسطيني يقوم بذلك منذ مئات السنين على الأقل، ولم يقضِ ذلك على هذه النباتات التي أصبحت جزءاً من ثقافتنا الغذائية. وهناك القوانين التي وضعت لتقييد حركة وطريقة معيشة البدو. فتمنعهم من التواجد في الأراضي التي طالما رعت مواشيهم فيها، واعتمدوا عليها، وتضيق عليهم مناطق سكناهم وتنقلهم. والمثال الأكبر لذلك البدو في منطقة الخان الأحمر والأغوار الشمالية، التي تخطط حكومة الاحتلال لنقلهم الى مكب أحد المستعمرات. وكذلك بدو النقب الذين تخطط حكومة الاحتلال لاقتلاعهم من أرضهم بذريعة حماية البيئة. والمفارقة هنا، أن اسلوب حياة البدو تمثل أكثر الطرق تناغما مع البيئة واحتراما لها.. بينما تتسبب طريقة حياة المستوطنين بالكوارث البيئية.
إذا ليس بالغريب أن تؤخذ مواقف معادية لاتفاقية أوسلو وتطالب بإلغائها. فهي لم تنجح في وقف الإستيطان، ولا الدمار الذي حلّ بالإنسان وبالبيئة الفلسطينية. ولم تتمكن من وقف الإحتلال، ولا نهب الموارد، ولا تدمير طريقة الحياة لسكان هذه الأرض. بل يبدو أن الأمور تفاقمت نحو الأسوأ منذ عقد هذه الإتفاقية من جميع النواحي. فاتفاقية أوسلو لم تترك الأمور على حالها، بل عملت على تفتيت أوصال الشعب الفلسطيني، جغرافيا من خلال تقسيم الضفة الغربية عن الداخل المحتل عام 48 وعن غزة وعن الشعب الفلسطيني في الشتات. ومن ثم قامت بتقسيم الضفة نفسها الى ثلاثة مسميات، وبذلك أعطت غطاءً قانونيا لاستمرار الاستيطان. وعملت على تفريق مصالح الشعب الفلسطيني، فنسينا أن الاحتلال ما زال موجودا وما زال ينهب ثرواتنا، وانشغلنا بترتيب أمور دولة خيالية، والتنافس على السلطة. ونسينا أن الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني، ليس جزءا من هذه الدولة الخيالية.
إن المنظور البيئي الشامل لحال الأرض الفلسطينية بعد أوسلو يرينا مدى خطورة الاستمرار في النهج الحالي. فحجم الدمار الذي حصل ويحصل يهدد قدرتنا على البقاء على هذه الأرض. فهو يهدد التنوع الحيوي الذي يبقينا على قيد الحياة، ويهدد قدرتنا على زراعة أرضنا التي هي منبع ثقافتنا وهويتنا.