- 1 -
( نحن شعراء الصباح )
كلنا شعراء في الصباح، حين نبكر في الاستيقاظ ونستقبل النسيم الرخيّ الذي يحمل إلينا أصواتا هادئة بعيدة عن وعينا المدني، تكاد تكون في هدوئها صامتة مضمرة في حركة الهواء، وحفيف الأوراق ورقصات الأعشاب.
ويجب، كي نجيد الاحساس بالشعر ألا نتناول فطورنا إلا بعد أن نخرج إلى الحقول، أو حتى إلى أقرب حديقة مهما صغرت مساحتها وقلت أعشابها؛ فإن هذا الاتصال بالطبيعة يبعث في قلوبنا طائفة من الإحساسات النبيلة، ويعيد إلينا ما ننساه كثيرا، وهو أن لنا أمّا عامة تشملنا جميعا هي الطبيعة.
نحن كلنا أبناء الطبيعة، ويجب أن نتصل بها كل صباح، نتشمم العبير من أعشابها، ونتغزل بأحيائها ونذوب في كيانها؛ ويجب ألا نطلب الجمال فقط في الطبيعة، بل يجب ألا نطلبه بتاتا في الصباح؛ لأن الإحساسات التي تنطوي عليها وقتئذ هي إحساسات البنوّة للأمومة، فكما أننا نحب أمنا التي نشأنا على صدرها ورضعنا من ثديها لأنها أمنا فقط، وكما أننا لا ننشد فيها الجمال، كذلك يجب أن يكون شأننا مع الطبيعة، نحبها بقوة العاطفة التي يكنّها الأبناء للأمهات، لا أكثر.
هذه العاطفة الحنون هي التي تجعلنا نجد في طين الحقل، ودبيب النمل، ورائحة السباخ، وأوراق الخريف الصفراء، نجد فيها جميعها إحساسا دينيا يكاد يحملنا على الصلاة.
ومع ذلك، ليس هناك شك أن في الطبيعة جمالا، بل جلالا، نراه في الجبل الشامخ أو في النيل العظيم، أو في الشمس عند الشروق أو الغروب عندما تلهب السحب كأنها تشعل فيها حريقا، ولكن تقديرنا للأم [ لا] يحتاج إلى كل هذه المظاهر الفاخرة، لأن الصلة الحميمة التي تربطنا بها تغنينا عن هذه البهرجة بحيث نحس الحب والحنان لها وهي في ابتذالها عارية من هذه الأبهة، والأبناء لا يطالبون أمهاتهم بالتأنق في الملابس والتأنق في الازياء.
أجل ليست الطبيعة للجمال، وإنما هي للأمومة.
يجب أن نخرج في الصباح كي نلتقي بأمنا حيث نختلي بها ونناجيها، وإنه للقاء رحيب سخيّ عند جميع الذين مارسوه؛ فإن ما غرسته في نفوسنا ملابسات الحضارة من غيرة أو بغض أو حسد أو طمع، كل هذا يذوب، وتأخذ مكانه عواطف الحب والتسامح حتى إننا لنجد لذة حنونا في الحكمة القائلة "احبوا أعداءكم".
وهي حكمة يشق علينا العمل بها ونحن في مجتمعنا الاقتنائي [مجتمع الملكية والرأسمالية ] الحاضر؛ اذ هو يحملنا على المباراة [المنافسة] ويغرس فينا منذ طفولتنا الرغبة في التفوق والسبق، وينأى بنا عن معاني الحب والتسامح فضلا عن الحب للأعداء.
ومن الحسن أن ننسى، ساعة كل يوم، هذه الاعتبارات المدنيّة، وأن نعود بدائيين، نقدر القيم البدائية في تأمل الشجرة والزهرة، وفي لذة النفحة من النسيم تحيينا وكأنها تقبل وجوهنا، وفي الصمت يحيط بنا وكأنه يهمس إلينا أسراراً عن حقيقة الوجود.
بل، ونحن في هذه الحالة منفردين في خلونا إلى أنفسنا، بعيدين عن ضجيج المدينة نستطيع من وقت لآخر أن نتأمل ماضينا ومستقبلنا، وقد نهتدي، والأغلب أننا نهتدي، إلى بصيرة جديدة في حياتنا. فقد نكون مندفعين في خطة أو سلوك نحو هدف زائف فاسد أو بعيد مجهد. وما دمنا في وسط المدينة وملابساتها وقيمتها، فإننا ننساق في غير وعي بلا تفكير.
ولكن خلوة الصباح مع الأم الكبرى جديرة بأن تجعلنا نقف ونقدر ونغير ونفلسف، وقد نأخذ عندئذ بقيم جديدة تؤدي إلى السعادة أو إلى ما هو أشرف من السعادة ... إلى الإنسانية.
لنكن جميعا شعراء الصباح!
( أحاديث إلى الشباب، ص ص 143-146 )
-2-
( نزداد وجودا عندما نتأمل الطبيعة )
أليست هناك لحظات وأوقات تتأكد فيها حياتنا فتزداد حيوية ؟
أليست هناك لحظات وأوقات نعرف فيها أن الطيبة أصيلة في الطبيعة؟
أليس هناك كوب الماء بعد العطش والشؤبوب البارد في أيام الصيف؟
قد تقول إن هذه أشياء صغيرة لا تزيد على لذة الجسم.
وهذا صحيح. ولكن من منّا لا يبتئس ويغتم إذا حرمها ولو لوقت قصير؟ والبؤس والغم هما نقص في حيوية حياتنا، كما أن الفرج والبهجة هما زيادة في الحيوية. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن لذات العقل والنفس تعلو على لذات الجسم وشهواته.
لمّا زاد الفيضان هذا العام قصدت إلى روض الفرج في الصباح، وقعدت أتأمل النيل في سعته، وأفكر في تاريخه الجيولوجي، وتدفقه من بحيرة فكتوريا الى مكاني من علو أربعة آلاف متر. وأحسست عندئذ أني قد زدت وجودا، وابتعدت حدودي، واتسعت آفاقي.
إن هذه المياه قد آنست التماسيح وأفراس النهر والكركدن، وهي تحمل إلينا تراب أثيوبيا، ثم تنساح فوق أرضنا وتعمم الخير.
وفي مثل هذا التأمل والتفكير أحس اغتباطا وانشراحا، وأذكر قول رامبو " العالم طيب .... إني أبارك على الحياة."
أجل. إن في هذا العالم من المشاهد والأحداث والأشخاص ما يكاد يجعل البليد ذكيا، ويوقظ النائم، ويجعلنا أوجد مما كنّاه، أي أكثر وجودا.
انظر إلى أمّ ترضع طفلها، هل هناك أروع في الجمال وأحب إلى القلب من هذا المشهد الذي تتبلور فيه الحياة بكل ما تحمل من حب وشرف ومسؤولية وتضحية؟ السنا نحسّ الطيبة والإنسانية عندما نرى الأم الحانية على طفلها ؟
وقفت من مدة قريبة إلى نخلة، أتأمل جمالها وأتحدث إليها، وهي منتصبة مكللة بالسعف قد تهدلت منها شماريخ البلح، وقد برزت على سيقانها عراجين غليظة شظفة كأنها أقدام الفلاحين التي تشققت بكد الفلاحة. أليس كلاهما يعمل لخدمتنا وتغذيتنا؟
ودرت حول النخلة كي أملأ نفسي من جمالها ولشد ما تألمت عندما وجدت سعفة منها متدلية مكسورة.
كانت بيتا من الشعر مكسورا.
وكثير من المواقف يحيلني، على الرغم مني، إلى شاعر فيلسوف؛ ففي النهار يغمرني ضوء الشمس وتشغلني المدينة باهتمامات مدنية، وتبسط لي الصحيفة أخبار الساسة الصغار والكبار. ولكني في الليل عندما يعم الظلام، أجدني أتأمل السماء، فأرى النجوم والكواكب فيزداد وجودي، وتتسع حدودي.
وعندئذ أنا أوْجَد [أكثر وجودا ] مما كنت في النهار.
وهذا هو إحساسي أيضا عندما أبكر في الفجر، وأخترق هذا الكون من خلال الظلام الأبيض الذي يسبق الشمس.
( الأدب والحياة، ص ص 135- 137 ).
-3-
( اللغة الكاشفة للبيئة )
الوجدان هو التعقل .
أعتبر الكلب الذي يعيش في منزلي،
أن له وجدانا، اي أنه يجد نفسه، ويزن مركزه بحيث يعرف أنه لا يجوز له أن يتناول الطعام إذا كان في طبق آخر ومكان آخر غير الطبق الذي يأكل منه والمكان المعين له. وهو يعرف أعضاء الأسرة وجغرافية المنزل ويهب على الغريب نابحا إلى أن نطمئنه عنه، وهو يستطيع أن يخرج ويجول في ثلاثة أو أربعة شوارع حول المنزل، وهذا هو كل وجدانه، أي أنه يجد نفسه في هذه الحدود.
ولكن وجداني أنا أكبر.
أعظم ما يزيد وجداني هو كلمات اللغة؛ لأن الكلمات أفكار. أنا أجد أني لست ساكنا في منزلي فقط، بل في مصر، وفي افريقيا، وعلى هذه الكرة التي تدور حول الشمس؛ ويزيد وجداني أكثر لأني أعرف مركز الشمس في هذا الكون.
ثم إن لي وجدانا بالأخلاق أكثر من الكلب. وكذلك أنا على يقظة بالسياسة المصرية والعالمية، وعلى إحساس بالأخطار البشرية من الذرّة، وعلى معرفة مختلفة بالعقائد والعلوم والآداب.
وغايتي من الحياة هي زيادة الوجدان بزيادة معارفي واختباراتي وتعقلها.
(مقالات ممنوعة، ص ص 92 – 93).
-4 -
(الرأسمالية تتعارض مع التنوع الحيوي )
نحن حين نجمد نكفر بسنة الكون مادة وحياة؛ ولكن إلى جانب هذا الفهم الديني يجب أن نمارس ممارسة دينية باحترام الحياة أيا كانت والتعرف إلى أشكالها وحمايتها من الأميين المستهترين [غير المكترثين ] بالطبيعة؛ هذه الطبيعة التي تكتسب في ذهني قداسة كلما فكرت في غابات أفريقيا أو الهند، وما تحويه من تحف الحياة، أو كلما فكرت في غياهب المحيط الهادي او الأطلنطي أو المحيطين القطبيين وما بهما من أحياء يحاول التجاريون [الرأسماليون ] في غير شرف أن يبيدوها بالإلحاح عليها في الصيد.
(تربية سلامة موسى ، ص 103).
-4 -
( داروين والبيئة )
الكتاب الأول الذي له فضل الصياغة والتوجيه لشخصيتي هو كتاب داروين " أصل الأنواع " فإنه زاد عمري من سبعين سنة إلى ألف مليون سنة، وجعلني أحس الوجدان ليس على هذه الأرض فقط، بل إزاء الكون كله بنجومه وكواكبه وشظايا ذراته، وأحس أن للطبيعة أخلاقا.
(هؤلاء علموني، ص 5)
حين أقعد تحت ظل شجرة خضراء، وأستسلم للأفكار الخضراء، أحس بدافع من هذه النظرية [ نظرية التطور لداروين ] بتلك الوحدة الوجودية، حتى لأقول كما كان يقول ذلك القديس المسيحي: أخي الطير، وأخي الشجر، وأخي الوحش؛ بل أحس كأني أريد أن أنكبّ على الارض وأقبلها، كما كان " أليوشا " في قصة الإخوة لدستوفسكي، هذه الأرض الطيبة هذه الأم القديمة.
(هؤلاء علموني ، ص 9)
كان داروين يقول على سبيل الفكاهة إنه يستطيع أن يقدر عدد العوانس في قرية [ في إنجلترا ] بملاحظة حقول البرسيم المحيطة؛ فإذا كان البرسيم مزدهرا ناجحا فإنه يدل على أن العوانس كثيرات في القرية؛ ذلك لأنهن يربين القطط، والقطط تأكل الفئران، والفئران تأكل النحل، والنحل هو الذي ينقل إلى البرسيم لقاحه من زهرة إلى زهرة... فإذا قلت العوانس قلت القطط وزادت الفئران، وقل النحل، ثم قل ازدهار البرسيم.
( تربية سلامة موى ص ص 115 – 116 ).