الثورة المنتظرة
يحاول البعض في الأوساط المهتمة بشؤون البيئة، ان يرد ما يسمّى "الثورات العربية" لأسباب بيئية تتعلق بتغير المناخ وزيادة الجفاف والتصحر وشح المياه في السنوات الأخيرة، التي أثرت، بحسب وجهة نظرهم، على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وساهمت في عدم الاستقرار... فدفعت بالتالي إلى الثورة.
لا نعتبر هذه التحليلات في مكانها، لا بل هي غير واقعية ومبالغ فيها. إنها نوع من "الاستثمار البيئي" في النزاعات والحروب والصراعات والاعتراضات الشعبية. إنها نوع من الاستغلال والاستثمار السريع في البيئة، لدواعٍ تجارية في الحد الأدنى.
لطالما كانت العوامل المناخية أساسية ومحركة لحياة الشعوب ومسببة للهجرات او الحروب والنزاعات. كما كانت في الوقت نفسه مادة ملهمة للكتّاب والشعراء والحكماء. البعض اعتبرها من سوء تصرف الإنسان أو بسبب ارتكاب المعاصي، بينما ردها البعض الآخر لغضب الآلهة أو لغضب الطبيعة... الخ وقد فسرت هذه التحولات المفاجئة في الطبيعة بقضاء القدر أو بحكمة ما، لا يعرفها البشر. وتمّ التسليم بها كجزء من دورة حياة الطبيعة التي يجب تقبلها، من دون مناقشة، كالموت تماماً.
إن ما يدور في المنطقة العربية مؤخراً، لا يمكن رده الى عوامل مناخية او بيئية التي قد يكون لها آثار شكلية مكملة، خصوصاً، اذا فهمنا معنى القضية البيئية، بأنها ناجمة عن سوء تعامل الإنسان مع الطبيعة ولا يقصد بها أبداً الكوارث الطبيعية المعروفة، التي تعتبر من صنع الإنسان. فمعظم القضايا البيئية الأساسية والتقليدية في المنطقة و(العالم) هي من صنع الناس أنفسهم. وتتحمّل السلطات مسؤولية سوء معالجتها وليس مسؤولية صناعتها، وحدها.
ان الوعي بالقضايا البيئية المستجدة، هو وعي بيئة الإنسان الحديث، سواء أكان حاكما أو محكوما، منتجا او مستهلكا. صحيح ان هناك فرقاً في حجم المسؤوليات، إلا ان النتيجة واحدة لناحية تقاسم المسؤولية، "الإنسانية" تحديداً.
تحتاج قضايا البيئة بحد ذاتها الى ثورة. القضية البيئية بما هي قضية وجود النوع الإنساني وبقائه. مع الإشارة الى مفهوم الثورة بالمعنى الشامل الذي يعني التغيير الجذري على كل المستويات. الثورة البيئية، المنتظرة، لا تعرف الحدود ولا تحارب من أجلها، إلا حدود النوع الذي يعتبر المدماك الأساسي للتنوع الطبيعي والذي يفترض حمايته من اجل ديمومة الحياة. كما ان الثائر البيئي يثور ويناضل بوصفه مواطن العالم، وليس بكونه مواطناً جغرافياً (في مساحات محددة) او قومياً او دينياً او مذهبياً... الخ. فالقضية البيئية لا تعرف الحدود المصطنعة، التي صنعتها الجماعات الإنسانية او تلك التي تصنعها القوى الأكثر ثراء او الأكثر عنفاً ومغامرة وتسلطاً.
تتطلب الثورة البيئية تغيير النظرة إلى الإنسان نفسه والى ماهيته والى علاقته بالطبيعة (وما ورائها). إنها تتطلب إعادة تحديد موقعه في هذا الكوكب وبين باقي الكائنات. إنها تتطلّب إعادة تمركزه في قلب الهرم البيئي وليس على رأسه. إنها تتطلب إعادة النظر بتعريف الموارد لتصبح معطيات محدودة (حتى المتجددة منها)، وإعادة النظر بمفهوم الحقوق نحو توسيعه ليشمل كائنات أخرى والأجيال الآتية أيضاً. إنها ثورة فكرية شاملة تطال كل المقولات التي نعرفها. ثورة أخلاقية تطال كل القيم. إنها الثورة الوحيدة الممكنة في العالمالحديث التي تستحق هذه التسمية، بعد الثورات الكبرى التي حصلت في العالم كالثورة الزراعية او تلك الصناعية او المعلوماتية... الخ. إنها الثورة الأخيرة ربما، بعد الثورات التي تحدثت عن توحيد الآلهة او تلك التي قالت بموت الله او تلك التي ألّهت الإنسان او تلك التي أعلنت موته. إنها ثورة تنطلق من هاجس موت الطبيعة هذه المرّة، من الخوف على ديمومة الحياة وعلى بقاء مقوماتها.
وفي حال انطلقت هذه الثورة يوماً ما، فإنها لن توفر بالتأكيد تجار البيئة أنفسهم، الذين هدروا في معناها بالإضافة الى هدرهم بالموارد والذين قد يتساوون مع المستثمرين فيها من غير ضوابط.