الاقتصاد القائم على الطاقة المتجددة يهدد الاحتكارات الرأسمالية ويهز أركان العولمة ويوفر فرصاً أكبر للتنمية العادلة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يتميز الاقتصاد القائم على الطاقة الأحفورية (النفط والفحم الحجري والغاز الطبيعي) باعتماده على مخزون محدود وغير متجدد من الطاقة، علما بأنه استنادا إلى الاستهلاك العالمي الحالي للطاقة، فإن الاحتياطي العالمي من النفط الذي تبلغ حصته من الطلب العالمي على الطاقة نحو 40%، سيجف خلال العقود القريبة القادمة. وسيزيد هذا الوضع من الأزمات الاقتصادية العالمية، بسبب الارتفاعات الكبيرة المتوقعة في أسعار النفط. بل، وللتخفيف من حدة الأزمات والتوترات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتوقعة في الدول الصناعية "المتقدمة"، قد تشن هذه الدول، تحت ذرائع واهية، حروبا لضمان نهبها لمصادر الطاقة غير المتجددة، والتي يقع الجزء الأكبر منها في دول الجنوب تحديدا. وما شن الحرب الاستعمارية على العراق، وتفتيته كدولة كانت قائمة، سوى المثال الصارخ الأكثر سطوعا على ذلك. وقد تعمل نفس الدول أيضا، بدعاوى حقوق الإنسان والديمقراطية وما شابه من كليشهات، على تجزئة وتفتيت دول أخرى غنية بمصادر الطاقة الأحفورية، على أساس عرقي أو طائفي أو قومي. لهذا، سبق وأكدت "الاستراتيجية الجديدة" لحلف الشمال الأطلسي لعام 1999 على أن مهمتها الجديدة ستكون "تأمين الوصول إلى المصادر على الصعيد العالمي".
ويتميز الواقع الحالي لاحتياطي مصادر الطاقة التقليدية غير المتجددة، بوجوده في بقع معينة محدودة من العالم، إلا أن استهلاكه غير متمركز، وينتشر في كل بقاع الأرض. ومع ذلك فإن استغلال هذه المصادر يتميز بالتمركز الشديد بأيدي بضع شركات احتكارية غربية، تعمل باستمرار على زيادة التمركز والاحتكار تحت ستار ما يسمى بالعولمة.
علاوة عن ذلك، قد تتسبب الانبعاثات الناتجة عن استهلاك الطاقة التقليدية (الكربونية) في أزمة بيئية عالمية تزداد مخاطرها سنويا، علما أن مئات الكوارث البيئية الخطيرة يحدث معظمها سنويا بسبب الانبعاثات الناتجة عن استخدام الطاقة. ويجب ألا ننسى بأن الكوارث البيئية تسبب غالبا انهيارات اقتصادية.
إذن، تتطلب الحتمية التاريخية والتنموية والبيئية، ومصلحة مجموع البشرية التي يعيش معظمها في دول الجنوب، التي يفتقر معظمها إلى مصادر الطاقة غير المتجددة، اللجوء إلى بدائل للمصادر التقليدية (الأحفورية). وتتمثل هذه المصادر في الموارد الأولية المتجددة مثل الطاقة الشمسية والطاقة المائية وطاقة الرياح والطاقة العضوية. ويكفي أن نعرف بأن حجم الطاقات الكامنة في الموارد الأولية المتجددة يفوق بشكل هائل حجم الطاقات الكامنة في الموارد غير المتجددة. وعلى سبيل المثال، يقدر حجم الطاقة التي تبثها الشمس إلى الكرة الأرضية بأكثر من 15000 مرة من الاستهلاك السنوي العالمي من الطاقة التقليدية (الأحفورية) والنووية معا. إذن، يمكننا استبدال كل مصادر الطاقة الأحفورية بالمصادر الشمسية التي تتميز بسمات مضادة لسمات الطاقة الأحفورية. ومن أهم هذه السمات أن الطاقة الشمسية لا تنضب ما دام النظام الشمسي موجودا. والأهم من ذلك، أنه عند تحول الطاقة الشمسية إلى طاقة أو مادة ثانوية على شكل وقود أو حرارة أو كهرباء، فلا ينتج عن هذا التحول انبعاثات خطرة على البيئة. كما أن المصادر الشمسية تتواجد في كل بقاع الأرض، ما يمكن الاستفادة منها على أساس محلي، وغير متمركز، وبعيدا عن الاحتكار الحاصل في مصادر الطاقة غير المتجددة.
إذن، لا يحتاج استخدام مصادر الطاقة الشمسية إلى الاحتكارات العالمية، وكل ما نحتاجه هو تكنولوجيا التحويل البسيطة والمناسبة للاستعمال المحلي. وبما أن مصادر الطاقة المتجددة ليست متمركزة، فيمكننا الاستثمار في عدد كبير من مشاريع التحويل الصغيرة، بمعنى الاستغناء عن المشاريع الكبيرة وتعويضها بعدد كبير من المشاريع الصغيرة، ناهيك عن رد الاعتبار للاقتصاد الفلاحي والزراعي، وزيادة الاهتمام به كمصدر هام لإنتاج المواد الأولية للصناعة.
كما يمكننا أيضا التخلص من التبعية لوسائل نقل وتوزيع الطاقة لمسافات كبيرة واستبدالها بالوسائل المحلية. وفي المحصلة، يمكننا إعادة الترابط بين مناطق تحويل الموارد الأولية ومناطق استهلاكها، فضلا عن التحرر من التبعية للاقتصاد القائم على المصادر غير المتجددة، وللاحتكارات الرأسمالية العالمية المهيمنة عليها، هذا التوجه يسير، بطبيعة الحال، في خط مضاد للعولمة، وبالتالي سيوفر لمختلف المجتمعات والشعوب فرصا أكبر للتنمية الاقتصادية العادلة اجتماعيا والمستدامة بيئيا.
|
مصنع ألماني لإنتاج الغاز الحيوي من المخلفات الزراعية النباتية والحيوانية |
ومن المنظور التاريخي والاستراتيجي، ستتمكن البشرية، عندما تتحول إلى عصر الطاقات المتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية، من التخلي عن المدن الضخمة بملايين السكان، والعودة إلى المدن الصغيرة والمتوسطة. وستتلاشى كذلك الشركات الاحتكارية "العابرة للقوميات"، لأنه، في ظل الاقتصاد المعتمد على الطاقة الشمسية بشكل أساسي، سيتعذر من الناحية العملية والفنية مركزة الموارد ورؤوس الأموال. وحيث أن الحكام والأنظمة السياسية لا يمكنهم "خصخصة" الشمس، فلا يستطيع أي كان أن يهدد أو يحتكر هذا المورد الخالد، بل سيكون بالإمكان تعميم التطور التقني الصناعي لقوى الإنتاج على عموم البشرية.