السيادة الوطنية على البذور... شرط استراتيجي لمواجهة التحديات الخارجية في القطاع الزراعي الفلسطيني
يفترض العديد من المزارعين الفلسطينيين خطأ بأن البذور والأشتال المهجنة (الصناعية) تعطي إنتاجا أكثر وبأن زراعتها أسهل؛ متجاهلين استهلاك مثل هذه البذور لكميات كبيرة من المياه وحاجتها إلى المبيدات والأسمدة الكيميائية الضارة بالتربة. كما يجهل البعض بأن الشبكة الجذرية للأشتال الصناعية لا تخترق التربة مثل الأشتال البلدية التي تتمدد جذورها عميقا وبقوة أكبر لتفتش عن الرطوبة في باطن الأرض حتى وإن لم نروها. علاوة على أن البذور المحلية متأقلمة مع الظروف المحلية وتتحمل الآفات والأمراض وفترة إنتاجها طويلة مع ثبات في الإنتاج، بعكس البذور المهجنة (الصناعية).
والمسألة الجوهرية هنا أن اتجاه تدفق الثروة ورأس المال عند الاعتماد على البذور الصناعية يكون باتجاه الشركات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى، بسبب تبعية المزارعين البنيوية لهذه الشركات. أما إنتاج واستخدام البذور البلدية محليا، يضمنان بقاء الثروة ورأس المال وتدويرهما في نفس البلد، ذلك لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية

لا يُقَدِّر العديد من العاملين في القطاع الزراعي الفلسطيني أهمية العمل على جمع وحفظ وإكثار واستعمال البذور البلدية، علما أن هذا العمل يعتبر مسألة استراتيجية في سياق الفعل التنموي الهادف إلى تعزيز القدرة على مواجهة التحديات الخارجية المتمثلة بشكل أساسي في الاحتلال الإسرائيلي والتغير المناخي، والهادف أيضا إلى تحقيق السيادة الوطنية على الغذاء. هذا ما لمسته في السنوات الأخيرة، من خلال حديثي مع بعض العاملين والمهندسين والمرشدين الزراعيين.
من نافل القول، أن البذور البلدية يمكن إعادة إنتاجها وتحسينها من موسم لآخر، وعبر الأجيال؛ وبالتالي فهي تصب مباشرة في طاحونة تحرير المزارعين وسائر الشرائح الشعبية من التبعية الغذائية للاحتلال وشركات البذور والكيماويات الاحتكارية، من ناحية المستلزمات والمدخلات الزراعية (المبيدات، الأسمدة الكيميائية، المياه...إلخ).
أما البذور المهجنة الصناعية، فلا يمكن إعادة إنتاجها ذاتيا، وبالتالي يحتاج المزارع في كل موسم جديد إلى شراء بذور جديدة وما يلزمها من كيماويات زراعية. كما أن النباتات النامية من البذور المهجنة أو الصناعية تسبب تآكلا متواصلا في خصوبة التربة وتحتاج إلى الكثير من المياه، بينما تنمو البذور البلدية جيدا مع السماد البلدي أو الكُمْبوست وهي مقاومة للآفات الزراعية وحاجتها للمياه قليلة؛ وبالتالي تحافظ على بنية التربة الخصبة والغنية بالمغذيات.
وفي ذات السياق تأتي ضرورة تشجيع زراعة أصناف نباتية تتحمل الحرارة والجفاف وتتأقلم مع البيئة المحلية، وتثمر مبكرا قبل بداية فصل الجفاف وتأثيره على المحاصيل، وتحتاج إلى قليل من المياه؛ مثل أصناف معينة من المشمش والخوخ واللوزيات؛ بالإضافة إلى الإسراع في تطوير أصناف من المحاصيل والحنطة والقمح أكثر مقاومة للجفاف؛ كما يجب تشجيع زراعة المحاصيل التقليدية، أو أصناف جديدة تتحمل الحرارة وتحتاج إلى قليل من العناية وتحقق فوائد اقتصادية وصحية وبيئية حقيقية للمزارعين، ويمكن زراعتها بطرق عضوية؛ مثل الصبر والخروب والبلح والسمسم والأعشاب الطبية وغيره.
وفي سياق ممارسة الزراعات البيئية المعتمدة على البذور المحلية الأصيلة، من الضروري تجنب زراعة المحاصيل بشكل اصطناعي في غير موسمها؛ وعندئذ، لن نواجه ظاهرة تلف محاصيل موسم الصيف التي تزرع في فصل الشتاء، بسبب البرد القارس والصقيع.
مغالطات شائعة
تشهد الضفة الغربية وقطاع غزة حاليا ندرة حقيقية في معظم أصناف البذور البلدية، بل وأحيانا اختفاء بعضها نهائيا؛ ذلك أنه منذ سنوات طويلة عمدت شركات البذور والكيماويات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى إلى إخفاء البذور الفلسطينية البلدية من السوق، لتحل مكانها البذور المهجنة (الصناعية)، ما أرغم المزارعين المحليين على شراء هذه البذور وما يلزمها من كيماويات في كل موسم جديد. وهذا يعني زيادة في التكلفة والتبعية لشركات البذور والكيماويات الإسرائيلية والأجنبية التي تضمن بذلك استمرارية التحكم بالغذاء الفلسطيني وحرمان الشرائح الشعبية من السيادة على غذائها.
ولتعزيز التوجه الاستراتيجي نحو جمع البذور المحلية الأصيلة وإعادة استخدامها وإكثارها، لا بد من تركيز العمل البحثي والإرشادي الزراعي على تفنيد الأفكار الخاطئة الشائعة. فعلى سبيل المثال، يفترض العديد من المزارعين الفلسطينيين خطأ بأن البذور والأشتال المهجنة (الصناعية) تعطي إنتاجا أكثر وبأن زراعتها أسهل؛ متجاهلين استهلاك مثل هذه البذور لكميات كبيرة من المياه وحاجتها إلى المبيدات والأسمدة الكيميائية الضارة بالتربة، فضلا عن الكثير من الخدمات الأخرى. كما يجهل البعض بأن الشبكة الجذرية للأشتال المهجنة (الصناعية) لا تخترق التربة مثل الأشتال البلدية التي تتمدد جذورها عميقا وبقوة أكبر لتفتش عن الرطوبة في باطن الأرض حتى وإن لم نروها.

ومن الأهمية بمكان تنفيذ الدراسات الاقتصادية الزراعية التي تبين اتجاه تدفق الثروة ورأس المال عند الاعتماد على البذور المهجنة (الصناعية)، وذلك تحديدا باتجاه الشركات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى، بسبب تبعية المزارعين البنيوية لهذه الشركات، جراء عملية الشراء المتواصل والدائم للبذور المهجنة ومستلزماتها الكيماوية من نفس تلك الشركات ووكلائها.

وفي المقابل، عند الاعتماد على البذور المحلية الأصيلة أو البلدية، يكون تدفق الثروة ورأس المال باتجاهين (من المزارعين إلى المجتمع المحلي وبالعكس)، بمعنى أن إنتاج واستخدام البذور البلدية محليا، يضمنان بقاء الثروة ورأس المال وتدويرهما في نفس البلد، ذلك لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية من بذور بلدية وسماد بلدي وسماد أخضر وحيوانات وأيدي عاملة وغير ذلك، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية، ناهيك عن أن المستلزمات الزراعية الأساسية (البذور والأسمدة البلدية والعضوية مثلا) يستطيع أن ينتجها المزارعون بأنفسهم؛ الأمر الذي يعزز بدوره الاعتماد على الذات ويحقق السيادة الوطنية على البذور وبالتالي على الغذاء.
ومن الأهمية بمكان عرض المشاهدات المقارِنة التي تبرز السمات المميزة للبذور المحلية أو البلدية، من حيث كونها متأقلمة مع الظروف المحلية وتتحمل الآفات والأمراض، بعكس البذور المهجنة (الصناعية) التي تحتاج إلى الكيماويات لمقاومة الآفات والأمراض، إضافة إلى تميز ثمار ومحاصيل البذور البلدية بخصائص نوعية تفتقر إليها ثمار ومحاصيل البذور الصناعية الكيميائية، مثل غناها بالعناصر الغذائية، وفترة إنتاجها الطويلة مع ثبات في الإنتاج، وقدرتها على تحمل المناخ الجاف ومقاومة الأمراض والآفات الحشرية المتعددة، واحتفاظها بالصفات الوراثية الهامة. إن تلاشي العديد من الصفات الوراثية مع فقدان البذور البلدية، يفسر حقيقة أن البذور المهجنة غير قادرة على مقاومة الأمراض والآفات الحشرية، الأمر الذي ولد آفات وأمراضا جديدة، فهل سنبقى تابعين زراعياً للاحتلال والشركات الأجنبية الرأسمالية؟ أم نعود لكنزنا المفقود "البذور البلدية"، ونغير واقعنا الزراعي نحو الأفضل.