باحثة في القانون العام والعلاقات الدولية

لا تسمو الإنسانية ولا ترتقي بالقوى المادية فقط؛ ولا تشكل معيار التفوق برغم أهميتها، ما لم تقترن وتوجه من قبل ما هو أعظم منها، يضبط حركاتها وسكناتها، ألا وهو الإيمان الكامل، والإيمان مفهوم شرعي عميقٌ متكاملٌ، يستهدف الإنسانية بكليتها ليرتقي بها.
فقد خلق الله الإنسان مكرما على سائر المخلوقات، وجعل أعظم نعمة أكرمه بها هي نعمة العقل؛ فالعقل معجزة الخلق الكبرى وبه كما يقول الإمام الغزالي رحمه:" صار الإنسان خليفة الله، وبه تقرب إليه، وبه تم دينه.." وبه عرف حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة، والغاية من الوجود، والمتمثل في وظيفة معينة ومحددة، فمن قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصّر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى، وانفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء. هذه الوظيفة المعينة التي تربط الثقلين(أي الجن والإنس) بناموس الوجود، هي العبادة لله، أوهي العبودية لله.
والمتأمل في أمر العبادة يجدها واسعة الاحتواء، فهي ليست طقوسا تؤدى، بل هي بمثابة الروح التي تسري في كيان الحياة البشرية على الأرض لتضبطها مع شريعة الله وهديه، وتكون بمثابة الامتثال لأوامره ونواهيه، وطاعته في كلّ ما أوحى به.... إن المتأمل في هذا الدين يجد أن للإسلام نظرة متفردة مستقلة شمولية وعميقة، له علاج لكل مشكلاتنا و حلاً لكل عقدنا، فهو وحده الدواء لكل داء والمصباح لكل ظلمة.
إذ أن الكون بطبيعته السماوية والأرضية وأحيائه وجماداته محكوم بسنن مقدرة بأسبابها وأقدارها وفق قوانينها الكلية، فمن أتقن التعامل مع هذه السنن والمعادلات ظفر بنتائجها الصحيحة.
كما أن كمال الأمم في الذروة أن تجمع في حياتها بين السنن الكونية الشاهدة في الكون، و بين السنن التاريخية الماثلة في الأمم والحضارات، وبين السنن التشريعية الهادية للرسل والرسالات، وبين السنن الإنسانية القائمة على حرية الاختيار في الإنسان؛ وانفكاك هذه السنن عن بعضها و إغفال أحدها، تقود إلى الانهيار.
لهذا فالأمم التي تقدمت في سننها الكونية بمعزل عن سنن التشريع الإلهي، أدى بهم إلى اصطناع حضارة مادية ظالمة باغية شقية؛ كما أن الأمم التي حافظت على سنن التشريع مع الإغفال عن السنن الأخرى أضحت هزيلة مستضعفة.....فالسنن الربانية بكل أنواعها الكونية والإنسانية والتشريعية والتاريخية وردت في القرآن الكريم وهدي النبي على سبيل الإجمال.
إذا رجعنا إلى أصول عقيدتنا وجدنا كتابنا المنزل يشير بصراحة إلى إنفرادنا من بين أمم العالم بجدارة القيام بالدور الحضاري الذي تتطلبه الإنسانية في عصرنا الحاضر، فالآية الكريمة التي تقول:{{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}}إنما تشير بذلك إلى خصائص عقيدتنا وأخلاقنا التي أهلتنا لأن نكون خير أمة أخرجت للناس... و الآية الكريمة التي تخاطبنا في كل وقت {{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}}، إنما تحملنا بذلك عبء حمل الرسالة، رسالة قيادة الناس ودلالتهم إلى طريق الحق والخير دائما وأبدا لا في عصر دون عصر ولا جيل دون جيل....، فإذا كان هناك تخلف في الدول الإسلامية فالإسلام نفسه برئ من هذا التخلف؛ لأنه وضع أمامنا كل أسباب الرقي والتقدم، فإذا كنا قد تركنا أسباب التقدم التي هي موجودة في الإسلام فليس هذا عيباً في الإسلام، وإنما العيب في عدم تطبيق تعاليم الإسلام، وتفسير مفاهيمه بطرق مغلوطة.
رقـي الحياة في حركيتها على هـدي الفطرة الأصيلة للإنسان:
من الثبات، أن هناك تطور عام في الكون والمجتمعات في حدود تطور الفروع لا الأصول، والإسلام يعترف بهذا ويدعو إليه من خلال دعوته إلى اكتشاف قوانين الحياة وتسخيرها لسعادته وتطوير حضارته.
فتغير صور الحياة وتطورها الذي حدث بفعل التطور العلمي والمادي، والذي ظل مستمرا في الحقيقة منذ بداية عهد الإنسان إلى العصر الحاضر، لم يغير جوهرها، كيف هذا؟ مثلا الرغبة في اتخاذ مسكن، إنها رغبة فطرية يحققها إنسان الغابات باتخاذ عش معلق في الشجرة وإنسان الزراعة بكوخ الطين وإنسان المدينة بيت مشيد أو عمارة... وقد يتخذ إنسان الفضاء غدا سفينة فضاء يسكن فيها وينتقل عبر الكواكب، فما الذي تغير؟؟؟
تغيرت الصورة التي تحقق بها الرغبة الفطرية، القائمة على قاعدتها الإنسانية المتخصصة، والقاعدة الإنسانية هنا ترتكز على ركائز إنسانية متفردة، هي القدرة على استخدام الأدوات والاستفادة من الأفكار السابقة، ثم النزعة إلى الجمال التي تسعى دائما لتجميل ما هو كائن بالفعل، لتصل به إلى الكمال بقدر ما يتحقق في عالم الإنسان؛ ومن أجل مراعاة هذا التغيير في الحياة، جعل الله ما على الأرض زينة لها، لكي يجذب الإنسان ليعمل.
فالإنسان حين يرى حديقة جميلة أو عمارة فخمة يتمنى أن يبني أو يعمل مثلها فتكون هذه الزينة حافزا له للعمل....وزينة الله على الأرض من أثرين: آثار خلق الله والطبيعة التي وهبها لنا، وآثار ما فعله الإنسان بما علمه الله ليضيف إلى ذلك....هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف { لا خير فيمن لا يضيف}؛ والإضافة هنا بمعناها العام أي أنه أنت إن استفدت من الكون بما سخره الله في خدمتك، فلا بد أن تعطي عطاء للكون بأن تضيف إليه شيئا، وإلا أصبحت الحياة جامدة وغير متحركة ولا متطورة و يتوقف تطور البشرية ونموها.
إذ أن الحياة تتطور بأن يضيف الإنسان من ذاته بما يتفاعل به مع بيئته ومع الكون ليصنع شيئا جديدا.....وبالتالي فالعنصر الفعال في الأمر هو الإنسان، فالإنسان بفطرته المتفردة المتطور في حدود خطوطها الأصيلة المرسوم من لدن الفطرة التي فطرها الله؛ لم ينلها أي تغيير جذري حين تغيرت صورة الحياة {{ فطرة الله التي فطر الناس عليها}}، فالفطرة السوية التي خلق الله بها الإنسان قبضة الطين ونفخة الروح العلوية في ذلك الطين وامتزاجها به وتوحيدها فيه، بكلمة الله إلى الأرض لم تخرج عن هذا، وإنما تغيرت فقط الصورة التي تتحقق بها الرغبة الفطرية دون تغيير في منبعها.
فالفطرة شيء حقيقي واقعي له وزن وثقل، وأن في الإنسان قدرا ضخما من المرونة، يخيل لمن يأخذ الأمر من ظاهره أنه ليس للإنسان كيان ثابت، وأن التطور المادي والاقتصادي هو الذي يصنع الإنسان على غير قواعد ثابتة ولا نمط معروف، وهذا وهم بالتأكيد؛ فما زالت الرغبة الدافعة الأولى هي حب الحياة؛ يتخذ صورا شتى ولكنه هو هو حب الحياة والتشبث بها، والرغبة بالاستمتاع بما فيها من متاع، وما زالت الرغبة في حفظ الذات وما يتفرع عنها تفرعا مباشرا من مطعم ومشرب وملبس ومسكن...هي ذاتها لم تتحول عن وجهتها وإنما تغيرت الصور التي يحفظ بها الإنسان ذاته؛ وما زالت رغبة الاقتناء والملك هي رغبة الاقتناء والملك، وحين حاربتها الدول الشيوعية وحاولت استئصالها من النفوس تغلبت الفطرة في نهاية الأمر، واضطرت الدول الشيوعية إلى التزحزح عن موقفها المعاند، فأباحت اقتناء بعض الأشياء وأباحت اختلاف الأجور بين الطبقة الواحدة لمن شاء من العمال والصناع بأن يبذل مزيدا من الجهد ليحصل على مزيدٍ من الأجر يقتني به ما يباح اقتناؤه من الأشياء....
حين نقول إن هذه هي الدوافع الفطرية في كيان الإنسان، فما الذي تغير إذن في كيان الإنسان حين انتقل من حياة الغابة إلى غزو الفضاء؟؟ وخاصة أننا نعيش في عصر فاق كل العصور السابقة في رقيه المادي واكتشافاته العلمية، هل الانحراف عن الفطرة يلغي واقع الفطرة الأصيلة القائمة على الركائز الإنسانية متفردة؟؟؟ يجب أن نعلم أن كل انحراف عن الفطرة لا بد أن يُحدث في النهاية الشقاء والقلق والاضطراب للبشرية...
يخيم حاليا على العالم كله جو من القلق والخوف يفقد فيه الناس وخاصة في البلدان المتطورة لذة السعادة، ويقف العلماء والمختصون حيارى تجاه ازدياد المصابين بالأمراض العصبية التي تدفع الناس للانتحار مللا من الحياة الرغيدة التي يحيونها، وهذا بسبب الأجواء النفسية التي هيأتها الحضارة الحديثة لأبنائها والأسس المادية البعيدة عن روحانية الدين البناءة وتأثيره في النفوس، حيث نظرت إلى الكائن الإنساني ببعده الجثماني، إذ جعلت الجسم مملكة الدنيا، والآخرة مملكة الروح... وأغفلت أن الإنسان كائن متفرد ذو كيان مزدوج الطبيعة وذلك من آثار امتزاج الجسد بالروح، وعدم انفصاله عنها، وكما أن حقيقته أوسع من أي تفسير مفرد أو مجزأ، والإسلام شديد الوضوح في هذه النقطة بالذات{{فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه، ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}} هي رحلة واحدة يقطعها بلا انفصال أولها في الدنيا ونهايتها في الآخرة...وهذا يدفعنا للتساؤل عن حقيقة الإنسان وعن كيانه وعن ماهيته؟ ما الإنسان؟ ما وظيفته ؟ ما دوره في الحياة؟ ما طاقاته؟ وما حدود هذه الطاقات؟
تساؤلات تحاشتها الدراسات الغربية مما أدى إلى عيوب كبيرة في تلك الدراسات؛ التي أظلت معظم الأبحاث النفسية في الغرب، وجعلت كثيرا من الحقائق الجزئية التي يتوصل إليها العلماء لا تصل إلى دلالاتها الحقيقية التي كان يمكن أن تؤخذ منها لو ارتكزت هذه الأبحاث على القاعدة السليمة للبحث عن"الإنسان المتكامل الذي يعيش بحقيقته المتكاملة في دنيا الواقع"
يقول ألكسيس كاريل في كتابه"الإنسان..ذلك المجهول"{...استطعنا الظفر بالسيادة على كل شيء موجود على ظهر البسيطة...فيما عدا أنفسنا... فالإنسان كلٌ لا يتجزأ، وفي غاية التعقيد، ومن غير الميسور الحصول على عرض بسيط له، وليست هناك طريقة لفهمه في مجموعه، أو في أجزائه في وقت واحد. كما لا توجد طريقة لفهم علاقاته بالعالم الخارجي...ولكي نحلل أنفسنا فإننا مضطرون إلى الاستعانة بفنون مختلفة، وإلى استخدام علوم عديدة.....وفي الحقيقة لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان... إننا لا نفهم الإنسان ككل...إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا. فكل منا مكون من موكب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة....}.
ومن هنا يجب أن نعلم، أن القرآن الكريم سبق كل الاتجاهات الحديثة، وجاء بأصول علم النفس قبل أكثر من 14 قرناً من الزمان، فتناول النفس الإنسانية من جوانبها المختلفة، حيث ورد ذكر لفظ النفس وما يشتق منها(313) موضعاً في القرآن الكريم...لن أطيل أكثر لأن الإطار لا يسمح بذلك، فما هو أكيد أن الإسلام ينظر إلى نفس الانسان على أنها مستودع قوى المؤمن، فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أفضل الناس فقال:" كل مخموم القلب صدوق اللسان، فقالوا له: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب، فقال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا غل ولا حسد".
ركائـــــز الإنســان المتفردة أجــــزاء من كيـان شامـــل موحــد
ركبت فطرة الانسان بأن يسعى دائما إلى الاستفادة مما يعرفه، فيزداد به نماء وقوة وارتقاء نحو الكمال، فمن عجائب التكوين البشري ذلك الطابع الإزدواجي، الذي يحقق للإنسان كيانا فريدا في كل ما نعرف من مخلوقات الله، وأول مظاهر الازدواجية وأوضحها تلك النشأة الأولى العجيبة المعجزة{{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}} قبضة الطين ونفخة الروح.
ومن عجائب التكوين الإزدواجي أيضا للإنسان تلك الخطوط الدقيقة المتقابلة المتوازية، التي تشكل أوتاد متفرقة تشد الكيان كله وتربطه من كل جانب؛ وفي الوقت ذاته توسع أفقه وتعدد جوانبه وتفسح مجال حياته، فلا ينحصر في نطاق واحد ولا مستوى واحد: كالخوف والرجاء...الحب والكره...الاتجاه إلى الواقع والاتجاه إلى الخيال...الطاقة الحسية والطاقة المعنوية...الإيمان بما تدركه الحواس والإيمان بما لا تدركه الحواس...حب الالتزام والميل للتطوع...الفردية والجماعية...السلبية والإيجابية...إلخ. وهي ظاهرة عامة في أي كيان بشري تؤدي مهمة ربط الكائن البشري بالحياة، كل خطين متقابلين في الخلقة، متضادين في الاتجاه...ومع ذلك فهما مترابطان، ويبلغ ترابطهما أن يعملا معا أحيانا في ذات الوقت وفي ذات المجال...
لكن العجيب في الأمر، أن هذه الازدواجية تسري في الكون كله، يقول الشيخ الشعراوي في كتابة تلك هي الأرزاق: "...إن مفارقات التقابل في الأشياء تجعلها تتكامل، فهناك ليل وهناك نهار هل الليل ضد النهار؟..لا..فالليل مكمل للنهار والنهار مكمل لليل، ولو لم يخلقهما الله معا لأختل التوازن في الكون..لأن الانسان محتاج إلى ضوء النهار للحركة والعمل، ومحتاج إلى ظلمة الليل للنوم...كذلك الرجل والمرأة فالناس لا تفهم أن الرجل والمرأة متكاملان فقوله سبحانه وتعالى{{ والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى...}} فقد جاء الحق بمتكاملتين لا تصلح الحياة بواحدة منها، والذكر والأنثى مثل الليل والنهار متساندان متكاملان فلا تجعلهما أعداءً بل أنظر إلى التكامل بينهما حيث يقول الحق{{ إن سعيكم لشتى}} أي كلٌ له مهمة في الحياة..."
إذن كيف نفسر هذا التقابل والازدواجية داخل الكيان البشري؟ هل نستطيع أن نقول إنها نتيجة مباشرة لقبضة الطين ونفخة الروح؟ هل نستطيع أن نقول إن بعضها من طبيعة الطين وبعضها من طبيعة الروح؟ عِلم ذلك عند الله.
يقول سيد قطب في كتابه "دراسات في النفس الإنسانية:" ...كل الخطوط المتقابلة في النفس البشرية هي أجزاء من الكيان الشامل، لا تعمل بمعزل عن بقية الخطوط و إنما تعمل كلها متشابكة مترابطة متصلة.... فخطا الخوف والرجاء ألصق الخطوط بالذات وأولها... يولد الطفل وفيه هذان الاستعدادان متجاوران، يخاف الظلمة ويخاف الوحدة، ويخاف السقوط ويخاف الاصطدام، ويخاف المناظر التي لم يألفها والأشخاص الذين لم يألفهم....ويرجو الأمان والراحة والدفء والاستقرار في حضن أمه....وينمو الطفل وينمو معه هذان الخطان المتقابلان، وتتنوع المخاوف ويتنوع الرجاء، لكن الخطين هما هما، في تقابلهما وازدواجهما. يحددان له مشاعر الحياة واتجاهاتها...يخاف الموت، ويخاف الفقر ويخاف العجز ويخاف الخيبة ويخاف الخزي، ويخاف الألم الحسي والمعنوي ويخاف المجهول...كلها مخاوف، أنغام مختلفة تصدر عن هذا الوتر من القمة إلى القرار.... والخوف والرجاء بقوتهما تلك وتشابكهما واختلاطهما بالكيان البشري كله في أعماقه، يوجهان في الواقع اتجاه الحياة ويحددان للإنسان أهدافه وسلوكه ومشاعره وأفكاره، فعلى قدر ما يخافُ ونوع ما يخاف...وعلى قدر ما يرجو...يتخذ لنفسه منهج حياته، ويوفق بين سلوكه وبين ما يرجو وما يخاف".
إن مظهر الازدواج الذي نجده في تكوين الأصيل للكيان البشري تكمن حقيقته في كونه يصدر عن كيان موحد متشابك معقد التركيب؛ فأعمال الإنسان كلها ذات ترابط وثيق وإن بدت منفصلة لأول وهلة، فذلك وهمٌ ظاهري، لأنك ستكون تقسم الإنسان إلى جسم وروح...مثلا حين يستغرق الإنسان في العمل بجسمه يخيل إليه أن هذا النشاط المادي منفصل ومستقل والحقيقة أن هذا الانفصال لا يمكن أن يحدث وإن توارت الصلات أو نسيها الإنسان؛ فقد ينسى لماذا يعمل ولكن نسيانه للهدف في لحظة الاستغراق لا يعني أن الهدف غير موجود ولا أنه عالمًا به ومدركا له ... وحين يتعبد الانسان فهذه القيمة الروحية لا تنفصل عن القيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمادية، ففي كل الحالات يتأثر سلوكه العملي بهذه العبادة فحين يكون صادقاً فيها فهو يتقن عمله المادي إرضاء لربه الذي يتعبده فيتأثر الإنتاج كما ونوعا بروح هذه العبادة، وكذلك تتأثر علاقاته الاقتصادية، فالمؤمن المتعبد لا يحب أن يحرم غيره من ثمرة عمله، ولا يستأثر دونه بالكسب، فتنشأ روح من التعاون والتكافل تسير الاقتصاد في طريق خاص....وحين لا يكون صادقا في تعبده أو نافرا منه، فلن يهتم بالإتقان... وقياسا على هذا تجري الأمور كلها في الحياة الإنسان.
خاتمــــــــــــــــة:
إذا كان من مميزات الدين أي دين سماوي كان أن يوفر للناس قسطا من الطمأنينة النفسية والروحية تخفف عنهم أعباء الحياة وآلامها، وتكبح جموح الغرائز وشهواتها كما فعل الإسلام في أوج الحضارة العربية وازدهارها واتساع رقعتها، أدركنا أي مقدار من الشقاء جلبته الحضارة الغربية على أبنائها حين أقصت الدين في حدود رسالته الإلهية الصافية، عن التوجيه في الحياة العامة، وفلت منها سلاحه في بعث الأمل والعزيمة والتضحية والرحمة في نفوس الأفراد...
إننا أصحاب روحانية بناءة، روحانية إلهية تلازم الجندي في حربه، والعامل في مصنعه والفيلسوف في بحثه والقاضي في محكمته والموظف في وظيفته، والرئيس في رئاسته، تلازم كل إنسان في جده وهزله وحركته وسكونه وليله ونهاره ويسره وعسره وصحته ومرضه لا تمنعه في حال عن حال، بل تنقله من الكمال إلى الكمال، وتذكره بالله الذي خلقه والأرض التي درج عليها، والناس الذين يعيش معهم، والعالم الذي هو جزء منه في وحدته الكبرى وعبوديته لله رب العالمين.