رثاء بالدموع لزهرة القلب وسيدة الروح...
خاص بآفاق البيئة والتنمية
والدة الزميل الصحفي البيئي عبد الباسط خلف
رحلت أمي صباح 10 كانون الأول 2023، فضاقت عليّ الأرض بما رحبت. التفسير الأولي الوحيد لهذا الغياب فقدان همزة الوصل بين الأرض ورب السماء، وإقفال باب دعوات خالصة بالرضا من المعلمة الأولى وزهرة القلب، وانتهاء زمن مُشبع بالحنين والعاطفة والحرص، وبداية شتاء حزين واختتام سنة عصيبة.
كيف لي أن أجرؤ على الادعاء بقدرتي على رثاء من حملتني وهنًا على وهن؟ دون شك، ستكون كلماتي عقيمة وعاجزة وهشة في حضرة أمي، التي باتت ليلتها الأولى تحت التراب في ذلك اللحد الملاصق تمامًا لأبي، وفي رحمة الله الواسعة.
يهبط خبر انتقال زهرة قلبي عليّ كصاعقة، ويتفوق هذا النبأ العظيم بمرارته حجم جبل شاهق. تخسر أمك التي عجزت أجهزة التطبيب عن إنعاش قلبها، فتقر بأنك أصبحت يتيمًا وأنت قاب قوسين أو أدنى من عقدك الخامس، فقد كانت ترجوني ألا أتنقل بين مدن الوطن المحاصرة، وكنت أخفي عنها سفري، وحرصت خلال وجودي خارج البلاد على اتصال هاتفي أعتذر لها لأنني لم أخبرها باجتيازي الحدود، فقد كانت تخشى عليّ من نسمة الهواء، ويقع قلبها حين تسمع عن أي حصار وحاجز، وتخصني كل مساء بدعاء يساوي جواهر الأرض مجتمعة.
طفولة وحيفا
على مدار 87 عامًا عاشت أمي مستذكرة طفولتها المُنعمة في حيفا حيث عمل والدها، كانت وحيدة مدللة لأبيها، وتطلب منه في آناء الليل أن يمسك لها بعصافير بيتهم القديم ليصنع لها وجبة دسمة. وتفاخرت بأن ميلادها مقترن باسـتشهاد عز الدين القـسام، فقد كانت ابنة أسبوع يوم نال منه المستعمر البريطاني في أحراش يعبد، ثم حظيت بفرصة ذهبية لتلقي تعليمًا بضعة أشهر على يدي ابنة الشيخ الثائر ميمنة، قبل أن ترحل إلى ضفة النهر الأخرى.
قصّت لي أمي قبل النوم حكايات طفولتها، وصباها، وباحت لي بمخزون أسرارها، علمتني ألف درس عملي، وأخبرتني بما عجزت عنه كتب الدراسات العليا، وغرست في المثابرة والعزيمة والصبر والكتمان.
في طفولة أمي شقاوة ومرح ولهو، وفي صباها يتم مؤقت بغياب والدها في التجنيد الإجباري 9 سنين وعودته مشيًا على الأقدام من تركيا، وفي شبابها أقاصيص النكبة، وفي سردياتها محكية النكسة وأحوال أهل بلدتنا المحتمين في كهف كبير، وتقاسمهم الحلو والمر معًا، وفي عقدها الخامس سيرة انتفاضة الحجارة وإصابتها برصاص المحتل، ثم شطر فؤادها على 4 أبناء خلف ستائر العتمة في صحراء النقب، وبرد عثليت، وحر الفارعة، وقسوة مجدو، وتفاصيل خامس مطارد.
جرة ماء ومارد
نثرت لي أمي تفاصيل حمل جرة الماء من عين البلدة بقدمين حافيتين، وألف فصل من العمل الشاق بالأرض وتطويع شجرها ونباتها، وباحت لي عن المارد الذي تخيلته، وجنود الجيش العراقي الذي عسكروا في أطراف البلدة، وحدثتني عن زيارة الملك حسين بن طلال لبرقين، وسردت لي لحظات الانكسار عامي النكبة والنكسة ومشاهدهما، ونسجت ما سمعته من سيرة (سيف الدين الحاج أمين).
أجزم الآن أن الدروب التي سارت عليها أمي تبكيها بسخاء، وتبدو الدموع جلية على نبات العوينة والخبيزة والخس البري والعلك والزعتر واللوف في حواف أرض النجمة، ويستذكرها زيتون العمارة الشرقية، وتكاد حجارة درب السوق تستفقد كعبي أمي، وتدمع عيون مرج ابن عامر على الصبية التي كانت تتقن زراعة البطيخ والشمام والسمسم، وتبرع في حصاد القمح وتعشيب الزرع، وتصاب حواري البلدة وزقاقنا العتيق بالحسرة عن سيدة صابرة مدبرة نشيطة حنونة قنوعة متسامحة، فقدت ثلاثة من فلذات أكبادها في طفولتهم: زيدان الغريق الذي حاصرها بالدموع طول حياتها، وعلي المصاب بشلل الأطفال، وهشام الذي لم يذق كثيرًا من طعم الحياة.
قبل أيام من مرض أمي، أخبرتها بأن تعيد لأسماعي قصصها ودعواتها وأغانيها وأمثالها، وكنت أمهد لها الطريق لتضحك عند فصول ثرية بالشقاوة والقوة من طفولتها، وها أنا أسترق الآن سماع نبرة صوت أمي، وأتمعن في تجاعيد وجهها، وأعود لصورها العتيقة، وكأني أسالها عن تناولها لدواء الضغط ومميع الدم ومقوي العظام، وأرجوها أن تعود لترد عليّ بعد انتهاء صلاتها الطويلة، وتقول تصبح على خير يمّا، لكن قدر الله أن نغرق وحتى إشعار آخر بالحزن.
والدة الزميل عبد الباسط خلف
أزمنة أمي وأمكنتها
كان يقال لنا إن الأحزان تبدأ كبيرة ثم تصغر، لكن هذا التمثيل لا يمكنه أن ينطبق على سيدة القلب والروح، فهي عصية على أي تصنيف.
يتضاعف مع كل نهار في زمن غياب سيدتي منسوب الأسى، ويتعالى الشعور كل ساعة بالخسران، فلليتم مرارة كبيرة وعلقمه دائم.
كل شيء يعيد لي بقوة حضور أمي، فأنا مسكون بتفاصيلها، وأشتم كل حين رائحة خبزها، وأعيش مع ثنايا تجاعيد وجهها، وأستعيد خيوط ثوبها التقليدي، وكوفيتها الناصعة، وزنارها الحريري، ولأشيائها حضورها الذي لا يُنسى.
تُذكرني أعشاب الأرض بوالدتي، فهي التي عرّفتني على الزعتر، وعصا الراعي، والفيجن، والأقحوان، وعلمتني الزرع والنقش والقطاف، وكانت تكرر لي ألا أشد يديّ على الفأس حتى لا تصابا بتورم.
تعيدني زيتونتها المحببة جريان دموعي التي لم تجف، وتفعل مثل ذلك حديقتها الصغيرة، وقاموسها الكبير.
تردني قطرات المطر وغيومها وبرد كوانينها إلى كفاح أمي التي كانت تصنع لنا الدفء، وتبوح لي الأرض المخضرة بعصاميتها.
تفتح الأمكنة كلها التي عاشت فيها والدتي جراحي العميقة: البيوت القديمة، الدروب المعهودة، نبع الماء وجرتها، التلال الصعبة، السهول، الأشواك، الموارس، العقود، الغرفة الأخيرة، الزقاق، عراق الدورة، الطابون، النجمة، بلعمة، الوردانية، المرحان، المشفى، الصيدليات، الأطباء، كل شيء.
وتضاعف أزمنة أمي جرعة الحسرة، كصلاة الفجر، ووقت الضحى، والمساء حيث اعتدنا اللقاء، وجوف الليل الذي يحتضن دعواتها، والغروب، وكل زمن كانت تبرع معلمتي الأولى في تقديره دون أن تعرف قراءة الساعة، فقلبها مرشدها.
وتشعل أمثال أمي قهري، وكذا تفعل قصصها الكثيرة ودعواتها وأغانيها وضحكاتها وغضبها وفرحها ووجعها في رحلة التطبيب. وتصب صور أمي وتسجيلاتها المرئية والصوتية نار شوقي على لهب حنيني لها.
فيما يُعمّق قاموس سيدتي الحافل بشخوص قصة حياتها الطويلة الألم العظيم: أخي زيدان الغريق، شقيقي المصاب بشلل الأطفال المميت، جدي الحنون وجدتي الطيبة، أبي رفيق الدرب، الأقرباء، الجيران، الأهل هنا وهنا، شركاء العمل والشقاء، المشاركون في الظلم والقهر والفرح والأمل.
وداعًا وشكرًا وعذرًا يا أمي فلم أحقق لك رغبتك بالرحيل إلى دار الحق من بيتك لا المشفى الذي كرهت...
إنا لله وإنا إليه راجعون