خاص بآفاق البيئة والتنمية
أعادت حافلة قديمة الحياة إلى قلب نابلس، وأشعلت الكراسي الخشبية والمقود والألوان لنموذج الباص الذي كان يربط فلسطين بشقيقاتها الذكريات العتيقة لمواطني المدينة، فيما أصر الجيل الشاب على التقاط "السيلفي"، وتفاخر آخرون بأنهم سينتقلون إلى الكويت والشام وبغداد وبيروت وعمان من دون تأشيرة أو حدود.
وبينما جلس شاب خمسيني وراء المقود بزي رجل شرطة، تناوب المارة والقادمون من خارج "جبل النار" للصعود إلى الحافلة، وشرع آخرون بالعودة إلى "أيام العز" ولو افتراضياً.
يروي أحمد سليم الدبيك لـ"آفاق" القصة من بابها لمحرباها، فيقول:" كنا نركب بهذا الباص، وسافرت بمثله إلى الشام، ويومها لم تكن الحدود ولا الحواجز، وفقط دخلنا سوريا ببطاقات الهوية سوداء اللون، وكان مراقبو الحدود يثقون بإجاباتنا حين يسألونا عن وجهتنا ومقصدنا، من غير أن يفتشوا هواياتنا."
المقود في الحافلة النابلسية القديمة
حنين
كان الدبيك، الذي أبصر النور في نابلس عام 1936 يعمل في سوق الهال بدمشق في مصنع للتنك، وانتقل عام 1947 للعمل في قرى جنوب لبنان وبلداتها كالنبطية وعربصاليم.
يقص والحنين يشتعل من حديثه: "كنت أغيب أسبوعاً عن عائلتي، وأدفع نصف جنيه للوصول إلى الشام، فنخرج مع شركة نايف الدبس في وسط المدينة، وينقلنا سائق من أم الفحم يساعده عطا "الكونترول"، وكنا نصل مع العصر، وفي أيام الحج وغياب الباصات، كانت تأتي شاحنات كبيرة لنقلنا."
في قلب الحافلة، تروي بطاقة مذهبة سيرتها:" بكل فخر، صنع هيكل هذا الباص في فلسطين، لغاية إحياء الذكريات التراثية القديمة، وهذا التصميم كان يستخدم في فترة 1937 إلى 1947 تقريباً، لنقل الركاب من وإلى فلسطين. تصميم وإشراف عمر زهدي خليلي."
تحفة
وتبدو الحافلة من الداخل كتحفة، فقد حافظ صانعوها على أدق التفاصيل، وشعر المعاصرون لأيامها بأنهم استردوا عافية ذكرياتهم، كما يقول نعيم السركجي، الذي ولد قبل النكسة، واستمع مراراً من والده لأدق تفاصيل خط سير نابلس الشام وبيروت.
يقول الشاب مهيوب قنازع، وهو يستعد لوجبة "سيلفي" جديدة مع الحافلة البيضاء: " كان جدي الراحل رشاد عبد الغني يعمل سائقًا على الباص، ونقل لي والدي تفاصيلاً عن عمه فؤاد، الذي توفي خلف المقود، بعد دقائق من إيصال ركابه إلى الزرقاء، ويومها لم يرد على نداء مساعده لتناول وجبة الفطور."
من التفاصيل التي باح بها والد قنازع، مسار الرحلة وتوقيتها، فهي تسبق الفجر أو ترافقه في رحلة الذهاب، وتصل وسط دمشق عند الظهيرة، وتعود عصراً لمن يرغب، فيما كان البعض يفضل المبيت ليلة، ثم يعودون في صباح النهار التالي، محملين ببعض النحاسيات والأقمشة وغيرها.
حافلة تراثية في نابلس
ذكريات
يعود الدبيك لاستذكار طريق وادي شعيب الصعبة داخل الأردن، لكنه يتذكر المرور إلى أربد ودرعا، ولا تسقط من ذاكرته مسارات الوصول إلى حيفا والقدس ورام الله وجنين، أما بغداد والطويت فكانت تحتاج لوقت أطول، لكن دون جوازات سفر.
يضيف: "كان العامل يحصل على ثمانية قروش كأجر يومي، وكنت أعيد معي الغسيل لأمي لتنظيفه، وكان دارجاً أن يفطر المسافر في نابلس ويتناول الغداء في الشام، ويعود مساء إلى مدينته."
بالنسبة للثلاثيني فريد كنعان فإن جده الذي يشاركه في الاسم، كان من رواد السفر اليومي إلى الشام، وتردد كثيرًا على الكويت، ولا زالت سندات التنقل في خزنة الحفيد.
حافلة قديمة في نابلس
أجيال
ترى الشابة علا أبو يونس القادمة من المثلث المحتل:" كل شيء تغير اليوم، وليته بقي زمن هذه الحافلات على حالة، فقد كانت الحياة أبسط وأجمل كما حدثنا أجدادنا، وكل شيء طبيعي. أما اليوم فحتى الدجاج لا تصدق أنه يخرج من بيضه لموائدنا في شهر، ويقدموه لنا بعد قلي دقائق معدودة!"
ويقول الصحافي في تلفزيون أضواء أمد باكير، إن حافلة نابلس القديمة أعادت للأجيال القديمة سيرة الزمن الجميل، واختفاء الحدود، والبساطة، ويرى أن فلسطين لو لم تكن محتلة لكانت أجمل، ولا ستطاع أهلها أن يسافروا إلى دول الجوار في أي وقت أرادوا.
يضيف:" سافرت قبل اسابيع لبيروت، وأخذت اليوم أقارن الحدود والحواجز والوقت، فقد احتجت ليوم كامل بين جسور ومعابر ومطارات، أما قديماً فالبرغم من التكنولوجيا الغائبة، والمواصلات البسيطة إلا أن التنقل كان أسرع مما هو اليوم."
ما لفت انتباه باكير أكوام النفايات التي تُغرق بيروت كطوفان، بعد أن كانت مضربًا للمثل في بيئتها الخضراء ونظافة شوارعها.
aabdkh@yahoo.com