اللامركزية ... ورسائل من زمن الحرب
خاص بآفاق البيئة والتنمية
كثيرة هي جوانب الحياة التي تكون فيها اللامركزية الحل الأمثل لمواجهة المشاكل. وإذ نواجه اليوم ظروفاً قاسية في كل مناحي الحياة، تبرز الحاجة لتفجير القدرات الذاتية في الاعتماد على الذات، لحل مشاكلنا، كما في الصحة والتعليم، وصولاً إلى مشكلة النفايات، وإنتاج الغذاء وتوفير الماء والطاقة. لعل اللامركزية تثبت في كل أزمة، أنها الحل لما تواجهه الشعوب والدول من قضايا تستعصي على الحل. فالكثير من القضايا والمشاكل نشأت نتيجة "مركزة" الحلول. الاعتقاد بأن سياسة "المركزة" التي خلقت المشاكل، سوف تعمل على حلها خاطئ، إذ لن نجد أمامنا سوى حائط يصدنا عن رؤية الحلول، ويبقينا ندور في دوامة الأزمات التي تخلق أنواعاً وأشكالاً جديدة من الاحتياجات. وبعد كل احتياج تنشأ أزمة جديدة تزيد من تعقيدات الحياة. إن "مركزة" الأمور دليل هشاشة ومؤشر ضعف وتجلي حالة من الخوف ... خوف من فقدان السطوة والسلطان.
|
 |
إحياء العمل التطوعي أحد الحلول اللامركزية |
طلبت ليلى، حين التقينا في بيروت، أن تتواصل مع عمتي عزيزة للتعرف على عملها السابق "كقابلة"، ساعدت خلاله عشرات النساء في قريتنا على الولادة، بمهنية عالية، واستطاعت خلال عملها التعاطي مع الكثير من الحالات، التي واجهت تعقيدات خلال الولادة، لتصل بالأم والمولود إلى بر الأمان. وخلال فترة عملها تلك، لم تتعرض أي من النساء اللواتي تعاملت معهن لخطر. بل أذكر أيضاً كيف كانت قبل ذلك، أم إبراهيم حسن داود تقوم بنفس العمل في قريتنا، ولا أذكر أنه حدث مكروه لأي امرأة حامل في تلك الأيام التي أذكرها بكثير من التفاصيل، حين كنت طفلاً في سبعينيات القرن الماضي.
يومها كانت تتجمع النساء والجدات، كل واحدة تقوم بعملها الذي تتقنه، فيتم تحضير الماء الساخن، والأقمشة اللازمة، الطعام الساخن والشوربة، مشروب القرفة الساخن، وغير ذلك من طقوس الولادة "والزغرودة" التي كانت تنطلق مع خروج الجنين سالماً معافى باكياً أول بكاء له مع أول شهيق يأخذه، لينطلق به إلى حياة جديدة.
أعدنا الحديث في الموضوع، ليلى وأنا، خلال نقاش كتيب حول بعض النباتات الطبية في منطقة بيروت، الذي شاركت ليلى في إعداده خلال أزمة كورونا. تحدثنا عما تواجهه النساء الحوامل في المشافي، وبشكل خاص، تحول العمليات القيصرية إلى عمل روتيني، يقفز دوماً كأنه الخيار الأول للولادة، دون مراعاة للمرأة وصحتها. عمليات في معظم الحالات غير ضرورية ولم تكن مبررة، وتستخدم فقط لجني أرباح أكثر للمشافي وللأطباء الذين يعملون في التوليد القيصري، بدل الانتظار والمساعدة على الولادة الطبيعية، دون إلحاق الأذى بالأم الحامل نتيجة العمليات القيصرية.
توقفت "القبالة" الطبيعية، بالطرق الشعبية، المبنية على المعرفة المتوارثة، بقوانين منعت النساء القابلات من ممارسة أعمالهن، في غالبية بلدان العالم، وأصبحت الولادة تتم في المشافي التي تقع عادةً في المدن والمراكز الرئيسية، ولم تكن فلسطين بعيدة عن هذا المنع. لقد مررنا كفلسطينيين بحالات كثيرة وقعت النساء والأجنة فيها ضحايا، لعدم التمكن من الوصول للمشافي في الوقت المناسب، نتيجة للحواجز العسكرية الإحتلالية.
ولعل ما يشهده قطاع غزة من جريمة بشعة تمارسها دولة الاحتلال، بغطاء متعدد الأوجه والجنسيات والمسميات، خلق إلى جانب فظاعة ما يجري، مشكلة حقيقية للأمهات الحوامل، مع غياب دور المشافي والمراكز الصحية التي دمرها الاحتلال وأخرجها عن الخدمة. ليست هذه المشكلة الوحيدة التي قد يُنظر إليها بكونها ليست الأهم، أمام هول الجريمة وفقدان الحياة، بل أمام تساوي الحياة بالموت، وحيث الناس بلا مأوى وغذاء ولا ماء أو تعليم.
وهل الضفة الغربية، ببعيدة عن إمكانية مواجهة ما يشبه الجاري في غزة من جريمة دموية شاملة للبشر والحجر والشجر والإرث التاريخي؟ ربما ليس بنفس الشكل، لكن ذلك قد يكون قريباً، وقد نواجه حرباً متعددة الجوانب، بعض مؤشراتها بدأت في مدن شمال الضفة الغربية وفي الأغوار ومناطق المستوطنات الإسرائيلية الإحلالية. وها نحن نواجه عودة الحواجز الاحتلالية وطوابير السيارات الطويلة، والأزمات الممتدة لساعات يومياً على هذه الحواجز. فلا الموظف ولا العامل بات يصل إلى عمله في الوقت، ولا الطالب عاد قادراً على الوصول لجامعته، ولا المعلم قادر على الوصول إلى مدرسته وطلابه. بل حتى سيارات نقل النفايات ما عادت تصل للمكبات، ولا المزارع يصل السوق لبيع محصوله، فالأمر يتفاقم ويشتد قسوة وتعقيدا، فما العمل وكيف هو الاستعداد الشعبي والرسمي لمواجهة القادم الأخطر؟ كيف السبيل للخروج من هذه الأزمات، أو على الأقل تقليل أثرها؟
ولنعد إلى "القبالة" الشعبية، قد يقول قائل إن هناك علماً تطور في مجال التوليد، و"القبالة" الشعبية ليست سوى تخلف ... ربما! لكن لماذا بدأت بعض المناطق والمجموعات الغربية تعود إلى هذا التقليد في التوليد؟
في قلب الغرب، الذي صدَّر لنا الطب الغربي وأزاح التقاليد الصحية، الضاربة جذورها في عمق التاريخ وتجارب الشعوب الأصيلة، تخرج هناك دعوات بمنطلقات مختلفة وجماعات تتبنى هذه التقاليد القديمة التي أتقنتها جداتنا، وأحدها أن هذه التقاليد والقبالة الشعبية أكثر مراعاةً لاحتياجات الأم الحامل وأكثر حناناً عليها.
لكن بعيداً عن كل ذلك، يصبح عمل القابلات القانونيات على درجة عالية من الأهمية، في ظل الظروف الطارئة التي تنشأ، كالحروب والكوارث الطبيعية، كذلك في الظروف الاستثنائية وبُعد المشافي عن أماكن سكن الحوامل. فنحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار لهذه التقاليد، ليكون هناك عدد من القابلات القانونيات في كل تجمع سكاني فلسطيني، تنقذ الأمهات الحوامل من شق البطون القيصري! وليعود الاحتفاء والاحتفال بأولى أنفاس الجنين-المولود شعبياً بأهازيجه. وفي ظل العدوان على غزة، تصبح القبالة الشعبية مُنقذاً لآلاف النساء الحوامل، بعيداً عن المشافي المركزية والمراكز الصحية الاتي خرجت عن الخدمة.

الطب التقليدي يقدم حلولا في زمن الأزمات وخارجها
المدرسة والتعليم ومنظومة المعرفة
مضت أربع سنوات منذ بدء اضطرابات التعليم (كما غيره من القطاعات)، مع الإغلاق العالمي "لمواجهة" وباء كورونا، ومذ ذاك الوقت لم ينتظم التعليم كما يجب. واليوم ازداد الوضع سوءاً مع بدء الحرب على غزة وتوقف الرواتب وعدم قدرة المعلمين على الوصول إلى المدارس، فهم لا يستطيعون دفع المواصلات ولا الحواجز الاحتلالية تتيح لهم الوصول، ليصبح الطلبة هم الضحية، فهل من وسيلة للمضي قدما في العملية التعليمية، أم علينا انتظار جيل الجهالة القادم؟
لعل السبيل هو في إعادة النظر في المنظومة التعليمية ككل، وفي آلية توزيع المعلمين على المدارس، مع الأخذ في الاعتبار أماكن سكنهم وقربها من المدارس التي يعلمون فيها، وهذا يتطلب إعادة توزيع المعلمين على المدارس ليكون مكان السكن هو في نفس مكان التعليم، وليصبح الوصول إلى المدرسة سهلاً وسريعاً من ناحية، ولا يكلف بدل المواصلات التي لم يعد المعلمون قادرون على دفعها، لأن المال غير متوفر في جيوبهم، بسبب الانقطاع الطويل والمتكرر للرواتب.
وهذا يستدعي أيضاً، وقف سياسة النقل التعسفي للمعلمين نتيجة مواقف نقابية مطلبية أو نتيجة معتقدات سياسية، فمصلحة الطلبة وتعليمهم فوق كل اعتبار (مع الإدراك، أن بعض التخصصات قد لا تكون في نفس المنطقة ويجب أن يأتيها معلمون من خارج المحيط القريب).
فلنترك العراك السياسي لصناديق الانتخابات، ولا نجعل التعليم والصحة وإدارة شؤون الناس في البلديات والمجالس المحلية رهينة العراك السياسي. وقد يكون التعليم الشعبي حلاً لظروف صعبة نعيشها، وأخرى أصعب وأشد قسوة ربما هي قادمة. إن الحاجة كبيرة لاستنهاض طاقات المعلمين في قراهم، دون وضعهم تحت ضغط أزمات الوصول إلى مدارسهم البعيدة حيث يعلمون الطلبة، ولا تحت ضغط توفير المال للوصول إلى تلك المدارس البعيدة. لعل الأوان قد جاء للتغيير ووضع المصالح الوطنية في المقدمة، ومصلحة العلم والتعليم والطلبة فوق كل اعتبار.
مرة أخرى، اللامركزية هي المخرج من أزمة التعليم في المدارس، وهي أقل كلفة على الحكومات، بتوفير ما يتم دفعه من مواصلات، ولتكن المسافة بين مكان سكن المعلم وبين المدرسة التي يُدِّرِس فيها هي المُحَدِّد والمعيار الأول، وليس أي اعتبار آخر، ولنعط للتعليم الشعبي دوره، لتخريج أجيال واعية متعلمة وتمتلك المعرفة اللازمة للنهضة والتنمية، تنمية محورها الأساس الاعتماد على الذات وعلى الطاقات المحلية المطموسة حالياً.
للأسف، فَقَدَ التعليم بريقه وعمقه، وأصبح يخرج من المدرسة (والجامعة) طلبة يحملون من العلم ضحالته، وبعيدون عن العلم بعمقه وشموليته، ولسانهم لا عربي ولا أعجمي، فاللغة ركيكة لا يتقنها أبناؤها، لا كتابةً ولا نطقاً بقواعدها. نلمس ذلك في خطيب المسجد وقارئ النشرة الإخبارية ومراسل القناة التلفزيونية، فما السبيل للخروج من هذه الحفرة؟
لعل التعليم كما القبالة يحتاج لقرار يعيد توجيه البوصلة، ليكون المعلم قريباً من مدرسته في مكان سكنه. فلنجعل للتعليم الشعبي مكانة، ونقلل من سطوة المركزية العقيمة التي قتلت ابداع المعلم، فكان الطلبة والعلم هم الضحايا. فكيف لمعلم يعيش حالة اللا-استقرار النفسي واللا-رضى الوظيفي أن يُبدع في عمله، وجُل همه كيفية الوصول إلى المدرسة؟ ومن أين يوفر تكاليف المواصلات؟ ليس التعليم عبر الإنترنت ببديل "إبداعي"، بل هو وصفة لتجهيل الطلاب وتسربهم من مدارسهم وفقدانهم الرغبة في العلم والمعرفة.

النفايات يمكن تحويلها من مشكلة إلى فرصة
اللامركزية حل
كثيرة هي جوانب الحياة التي تكون فيها اللامركزية الحل الأمثل لمواجهة المشاكل. وإذ نواجه اليوم ظروفاً قاسية في كل مناحي الحياة، تبرز الحاجة لتفجير القدرات الذاتية في الاعتماد على الذات، لحل مشاكلنا، كما في الصحة والتعليم، وصولاً إلى مشكلة النفايات، وإنتاج الغذاء وتوفير الماء والطاقة.
وعلى سبيل المثال، نرى في مختلف الأنحاء الفلسطينية كيف أصبحت النفايات هماً يومياً للناس والبلديات والمجالس القروية. وهنا ينحصر التفكير في البحث عن وسيلة لإيصال النفايات إلى المكبات القليلة المتوفرة التي تعاني مشاكل عصية على الحل. ومرة أخرى نصطدم بالمركزية ... مكبات النفايات المركزية أصبحت أساس المشكلة، وليس وسيلة للحل، إذ أصبح الوصول إليها صعباً بفعل الحواجز الاحتلالية وهجمات المستعمرين على سيارات النفايات واحتجازها أحيانا كثيرة وإغلاق المكبات من قِبَل الإحتلال، وقبل ذلك إرسال ونقل النفايات إلى المكبات المركزية أصبح يشكل عبئا ماديا كبيرا على الهيئات المحلية. فالمكبات تحولت إلى مكاره صحية ومصدر لأمراض الناس القريبين منها. ولنا العبرة في مكب "زهرة الفنجان" في جنين، الذي تحول إلى مصيبة للقرى المجاورة له.
وفي نفس الإطار، وبسبب التراجع الكبير في مداخيل الناس، تراجع تسديد الأهالي لرسوم النفايات، فباتت بعض الهيئات المحلية غير قادرة على جمع النفايات ونقلها للمكبات. مرة أخرى المركزية لا تأتي بالحلول، فهل للحلول اللامركزية أن تسهم في حل هذه المشكلة أيضاً؟ الجواب: قطعاً نعم. و ينبع اليقين بقطعية "النَعَمْ"، من كون ما يزيد عن %60 من هذه النفايات عبارة عن نفايات عضوية، لها ثلاثة استعمالات في مناطق الريف. الجزء العضوي من النفايات يمكن تحويله بسهولة إلى سماد طبيعي مُخَصِّب للتربة، لإنتاج الغذاء الطبيعي في الحقول والحواكير، ويمكن أن ننتج منها الغاز الحيوي المستخدم للطبخ، لتوفير جزء من فاتورة الطاقة، في ظل ظروف ارتفاع أسعار المحروقات، وقبل كل ذلك يمكن إطعام أجزاء كبيرة منه للدجاج البلدي وللمواشي البيتية.
إن ما يميز هذه الحلول بساطتها وسهولة تطبيقها، وليس مطلوباً سوى بعض التدريب والقليل من النماذج ليشاهدها الناس ويتعرفوا على فوائدها، فيبدأوا بتكرار التجربة، والإسهام في تحويل المشكلة إلى فرصة إنتاج وربما فرصة دخل عند البعض الآخر، حين يتم بيع المنتج (غاز، سباخ/كمبوست).

وطننا العربي يزخر بالطاقات الإبداعية لتقديم حلول لامركزية
كوبا عانت وقدمت النموذج في الحلول اللامركزية
لعل من أبرز التجارب في إيجاد الحلول وبالتالي تحويل المشاكل إلى فرص، كانت التجربة الكوبية في "الفترة الخاصة"، وهي تلك الفترة التي امتدت لعشر سنوات بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، حين وجدت كوبا نفسها بلا وقود، لتسيير السيارات والآلات الزراعية، مع نقص في الغذاء والدواء، حتى وصل الأمر إلى عدم قدرة المعلم أو الطبيب على الوصول إلى مكان عمله، وعدم قدرة الفلاح على الوصول إلى السوق، فوصل الشعب إلى حافة المجاعة. كيف تصرفت الدولة الكوبية آنذاك؟
استبدلت الدولة نظام التعليم "المركزي" أو ما يمكن وصفه "بالمتمركز" (أي التعليم في مراكز المدن)، كذلك نظام الصحة، وتخلت عن الاعتماد على الكيماويات في الزراعة، وانتقلت من نظام المحصول الواحد إلى نظام تعددية المحاصيل، وغير ذلك الكثير من الإجراءات.
أنشأت كوبا في كل حي وكل قرية عيادة صحية، فانتقل الأطباء إلى القرى وأقاموا فيها. الطبيب المقيم في القرية عاد إليها وبدأ يعمل في عيادتها (الدولة تدفع أجرته). وبدل أن تنتقل القرى إلى مشافي المدينة، انتقلت العيادات إلى القرى والتجمعات السكانية. كذلك التعليم؛ إذ توزعت الكليات الجامعية على عموم البلد، وما عادت المدينة مركز الجامعات والتعليم، فأصبح المعلم يعمل في قريته أو مكان سكنه، وانتفت الحاجة لتنقل المرضى والأطباء والمعلمين والطلاب من الريف إلى المدينة. وكان من بين الإجراءات شراء الدراجات الهوائية من الصين. الصفقة الأولى كانت نصف مليون دراجة، وحين تعاقدت كوبا على نصف المليون الثاني، حاولت الولايات المتحدة الأميركية عبثا عرقلة الصفقة، حيث تصدت الصين للضغوط الأميركية.
وبحسب القانون الكوبي يجب على كل من يربي عدداً معيناً من الماشية (أبقار، أغنام، خنازير)، أن يعمل وحدة لإنتاج الغاز الحيوي المجاني، حتى وصل الأمر إلى قيام المزارعين بتوزيع الغاز الفائض عن حاجتهم على جيرانهم مجاناً. وبهذا نجحت الدولة بالخروج من الأزمة، وأصبحت مقصداً للتعلم والإلهام، يقصدها الناس من كل بقاع الأرض ليتعرفوا على التجربة.
نحن أيضا بما واجهنا ونواجه وسنواجه من أزمات، قادرون على إيجاد الحلول واجتراح النماذج الإبداعية، إذا توفرت البيئة والإرادة السياسية الداعمة لذلك والمفجرة للطاقات الأهلية. فمن جوف المحن والمصائب تخرج الإبداعات وتأتي الحلول وتتفجر المواهب والطاقات.
لعل اللامركزية تثبت في كل أزمة، أنها الحل لما تواجهه الشعوب والدول من قضايا تستعصي على الحل. فالكثير من القضايا والمشاكل نشأت نتيجة "مركزة" الحلول. الاعتقاد بأن سياسة "المركزة" التي خلقت المشاكل، سوف تعمل على حلها خاطئ، إذ لن نجد أمامنا سوى حائط يصدنا عن رؤية الحلول، ويبقينا ندور في دوامة الأزمات التي تخلق أنواعاً وأشكالاً جديدة من الاحتياجات. وبعد كل احتياج تنشأ أزمة جديدة تزيد من تعقيدات الحياة.
إن "مركزة" الأمور دليل هشاشة ومؤشر ضعف وتجلي حالة من الخوف ... خوف من فقدان السطوة والسلطان. وتطبيقاً وتجسيداً لجوهر المثل الشعبي القائل "أهل مكة أدرى بشعابها"، كل قرية أو تجمع سكاني يمكنه إيجاد الحلول البسيطة لمشاكل قد تبدو معقدة وكبيرة. غير أن ذلك يتطلب تقديم النماذج ونشر الوعي وإطلاق الطاقات المُبدعة والسماح لها بأن تنطلق وتزيل كل ما يعرقلها، وقبل هذا وذاك، توفير البيئة الداعمة، وهذا لا يتوفر إلا بتقديم نموذجا في الحكم الصالح في كل دار ومؤسسة ومدرسة وصولاً إلى الدولة، ودعم كل ما هو صالح، ليصبح بلدنا صالحا للعيش، وليصبح الصلاح هو القيمة التي يتغنى بها الناس، والصالح هو المثل الأعلى، ومن يصل للأعلى في مرتبته ومكانته يصل بصلاحه، وليس بأي وسيلة أخرى، ولينبذ الناس من يأتي بغير ذلك، ويرفعوا للأعلى قيمة الصالح.