حرب على البذور .... وحرب بالبذور
خاص بآفاق البيئة والتنمية
إن أحد أهم أدوات السيطرة على الغذاء تأتي من خلال السيطرة على البذور، من خلال انتاج بذور هجينة أو معدلة وراثياً، لا يستطيع المزارع بنفسه إعادة إنتاجها، ليصبح مضطراً لشراءها في كل موسم، وبالتالي يتم التحكم بإنتاج الغذاء، وبخاصة المحاصيل الاستراتيجية كالحبوب والأعلاف وكذلك الخضار الأساسية. ولكون هذه البذور المهجنة والمعدلة وراثياً حساسة للعديد من العوامل، وزراعتها لا تنجح إلا باستعمال الأسمدة الكيميائية والمبيدات، التي غالباً ما تنتجها نفس الجهات المتحكمة بإنتاج البذور، فتكتمل هنا دائرة التحكم بإنتاج الغذاء، لنجد شعوباً ضحية سياسة تحكم أو لنقل ضحية حرب غير عسكرية، السلاح الرئيسي المستعمل فيها هو البذور – حرب بالبذور، يمكن من خلالها إثارة القلاقل والنزاعات وتجريد فقراء الفلاحين من أرضهم، لصالح الشركات الاحتكارية الاستعمارية، وتجويع الشعوب. وفي سبيل مواجهة الاستراتيجية الاستعمارية الخبيثة والخفية، لا بد من تبني استراتيجية تحررية في المسألة الغذائية، وهي استراتيجية يمكن أن تتبناها الحركات الاجتماعية والمنظمات التحررية. هذا يتطلب تبني سياسات زراعية بديلة لما هو قائم حالياً، يجري إحلالها تدريجياً مكان السياسات الحالية وبخطىً مدروسة، سياسات تقوم على الاعتماد على الموارد المحلية والمعارف المتوارثة، وأساسها البذور البلدية الأصيلة والعمل على تطويرها وإكثارها، مع تطوير ونشر أساليب زراعية بديلة للأساليب التي تخدم في جوهرها قوى الاستعمار.
|
|
أغذية شعبية |
يومها لم تكن الشوارع في قريتي معبدة، ولم تكن السيارات تعبرها حتى آخرها ولا حتى لوسطها، كانت آخر نقطة تصلها السيارات هي "البريد"، الذي يقع في شرق البلد وكان عبارة عن مبنى من غرفة واحدة، عمل فيه كأول ساعي بريد رفعت محمد النوباني، عندما كان "المكتوب المسوغر" (أي البريد المسجل) يكلف المرسل إليه "شِلِنْ" هذا البريد الذي يعود تاريخ بناءه إلى العام ١٩٦٣ وكان فيه أول جهاز هاتف يدخل القرية ....
أشهر الصيف كانت تتميز بالوفرة ... فواكه محلية، من الأشجار المنتشرة في بساتين القرية وعلى ينابيعها الكثيرة: مشمش وبرقوق وتفاح، توت وعناب، عنب وتين وصبر.... حيث تسير على قدميك هناك فواكه، وحيث تتوجه هناك خضار الصيف، من فقوس وخيار بلدي، بندورة وفاصوليا، لوبيا وبامية وحمص، وصغاراً يومها كنا، وكنا لا نتردد في دخول أية حاكورة أو بستان حتى لو كانت محمية بسياج، لنلتقط حبات برقوق أو مشمش أو بعضاً من الفقوس لنأكلها في عين المكان، ونخرج من الحقل حين نكتفي كأننا لم نفعل شيئاً ولا دليل في أيدينا أو جيوبنا يشير إلى أننا نفذنا "الجريمة" ... استراتيجية هروب من العقاب من صاحب البستان أو الأهل إن عرفوا بذلك.
أما الحمص الأخضر الناضج، فكنا نفتح الغلاف الخارجي للثمرة وننزع البذرة من داخله ليبدو غير متضررة، نأكل الحب الأخضر ونترك الغلاف الخارجي على النبات، ونستمر على هذا الحال حتى نهاية موسم الحمص الأخضر، لتتفاجأ المرحومة أم حسين عبد الله وقت الحصاد، أن معظم "أجراس" الحمص، المزروع في أرض "المِقوَسْ" فارغة من البذور، وتقول لابنتها حسنية "أم كمال": يبدو أن الشنانير/الحجل تأكل الحمص وهو على أمه، أي وهو على النبات.
أما المرحوم جدي أبو فتحي عبد السلام، فقد كان يطلب مني أن "أدير بالي"/ على بستانه المكتظ بالتفاح السكري واللوز وأرعاه، وأن أخبره إن "غزا" بعض "الأولاد" على بستانه، فأقول له بلسان الحريص: "ولا يهمك سيدي". كنت أستغل لحظات غيابه عن الحقل لأغزو على تفاحه ولوزه، وأجد طريق الدخول مجتازاً ذاك السياج المحكم، المدعم بالأشواك من شجيرات القنديل/القندول والسويد الفلسطيني، لأستلذ بالتفاح واللوز، وأقطف قرون البامية واللوبيا الخضراء وآكلها مباشرة، فقد كانت خضاراً محببة لي وهي طازجة وما زالت محببة، كما الفقوس والبندورة البلدية والحمص الأخضر.
بذور البندورة البرية
الخابية واختفاء البذور
كنا في ذلك الزمن نجد بعض الثمار من الفقوس والخيار ناضجة مُصْفَرَّة، مغطاة بالعشب أو "النتش"/البلان أو أغصان الطيون، ونعرف أنها متروكة للبذور، كنا نرى كيف تستخرج أمهاتنا وجداتنا البذور، يعالجنها بالرماد ويتركنها لتجف، ويحتفظن بها للموسم القادم، بما في ذلك بذور نبات التبغ، الذي كان يزرع في "حواكير القرية"، كان يتم جمع بذوره ويُحتفظ بها للموسم القادم، ذلك التبغ الذي كان يُصنع منه الدخان العربي-"الهيشة" ونذهب على البغال حوالي عشرين كيلومتراً، لفرمه عند "أبو العوف" في المزرعة الشرقية/رام الله. كل ذلك إلى جانب بذور القمح والشعير والفول والحمص والعدس والبيكا، التي كانت تُنتج وتُحفظ في خوابي البذور، جزءٌ منها لاستهلاك الأسرة خلال العام، وجزء يبقى للبذار في الموسم الذي يلي، هذه كانت وظيفة "الخابية"، التي اختفت فيزيائياً من البيوت ولم تعد موجودة، واختفت معنوياً من تقاليد الفلاحين وأهل فلسطين وما عادت الأجيال الجديدة تعرف هذا المفهوم ولا وظيفته. الخابية كانت تجسيداً على الأرض، لِما بِتنا اليوم نناضل بشراسة من أجله، ونسعى لرفع الوعي به، ونعمل على تحقيقه كمفهوم وتكريسه على الأرض كنهج حياة، وإن على مستويات فردية متواضعة– مفهوم "السيادة الغذائية". يومها، حين كانت الخابية، كانت السيادة الغذائية واقعاً يعيشه الفلاح في ممارساته اليومية، يوم كان الفلاح حراً في خياراته وليس أسيراً في احتياجاته.
كنا على دراية بالكثير من النباتات البرية التي تؤكل طازجة، كما هي ومباشرة من الأرض، كالشومر البري، والسيسعة والصيبعة والبُريدة والحلبة البرية والخس البري والذِبَّح والنعينعة، تلك الأعشاب البرية وغيرها الكثير، التي كانت تظهر في أواخر الشتاء وفي الربيع. الكثير من هذه النباتات اختفت من مناطق كثيرة نتيجة السموم المتمثلة بمبيدات الأعشاب. ويختفي مع اختفائها أو تراجع وجودها، تقاليد جمعها وتختفي المعرفة بالنباتات البرية التي تؤكل، قلما تجد في أوساط الجيل الجديد من الشباب، من يعرفها ويعرف أنها تؤكل. اختفت واختفى الاهتمام بها، تماما كاختفاء "خابية البذور" ... لتختفي البذور البلدية الأصيلة وتختفي معها الأكلات الشعبية، ونفقد المعارف المتوارثة، الممتدة عبر قرون طويلة من الزمن، المرتبطة بزراعة تلك البذور وإنتاج المحاصيل وصنع الغذاء منها.
اختفت التقاليد الفلاحية الأصيلة، المنسجمة مع حياة الفلاحين، معارف وتقاليد ومهن يدوية تطورت وتجذرت على مدى قرون، عبر مراقبة الطبيعة والكواكب والنجوم والطقس والبيئة الطبيعية المحيطة، لتنسجم مع الاحتياجات الحياتية الحقيقية للشعوب. وللأسف، تحققت سياسة بني صهيون، الذين كتبوا في بروتوكولاتهم: "سنعمل بكل جهد، لكي نطرد الذكاء الأممي من الأرض"، والذكاء الأممي هنا قصدوا به المعارف التقليدية المتوارثة، المرتبطة بقدرة الناس وفي مقدمتهم الفلاحين، على الاعتماد على الذات في تلبية احتياجاتهم اليومية، ما سيجعل الناس، وبخاصة أبناء الفلاحين وأهل الأرياف في العالم، عبيد احتياجات تخلقها العولمة، التي تسعى قوى الاستعمار من خلالها إلى إبقاء سيطرتها على الشعوب واستغلاها لهم، وتحويل الناس إلى وقود في "آلات" الرأسمالية والإمبريالية العالمية.
بذور بلدية وزراعة تقليدية. بطرس داغر- تنورين لبنان
لغز البندورة البرية
وبالعودة إلى ذلك الزمن، عندما لم تكن معبدة شوارع قريتنا "مزارع النوباني"، الواقعة إلى الشمال الأقصى لمحافظة رام الله والبيرة، في ذلك الزمن وفي صيف تموز وآب وحتى اقتراب الشتاء، كنا نلتقط من حواف الطرقات الترابية ومن جوانب الحدائق/الحواكير، حبات "البندورة البرية"، التي هكذا كانت تسمى، لنأكلها بمذاقها الحامضي. نلتقطها ونأكلها كما النباتات البرية الأخرى. كانت تسمى "بندورة برية"، لأنه لم يكن أحد يزرعها أو يعتني بها، بل تنمو لوحدها في نهاية الشتاء وتنضج ثمارها في الصيف، وتستمر حتى الخريف.
لم يكن أحدٌ غيرنا نحن الصغار يعيرها انتباهاً، ولم يجمع بذورها ويحتفظ بها أحد، ليعيد زراعتها من جديد، حيث لم تكن ضمن اهتمام الفلاحين. اختفت البندورة البرية، المميزة بثمارها الصغيرة وبعد عشرات السنين من تلك الحقبة بدأنا نعرف شيئاً اسمه "البندورة الكرزية"، التي ظهرت في الأسواق، فقلت يومها بعد أن رأيتها: هذه مثل البندورة البرية، التي اختفت منذ زمن. اختفاء البندورة البرية من حواف الشوارع، أصبح يشكل لغزاً وما زال محيراً ... كيف اختفت البندورة البرية، ذات الثمار الصغيرة من بيئتنا؟ هل اختفت من تلقاء نفسها، أم هل تم القضاء عليها وإخفائها قسراً؟ الشيء الأكثر ترجيحاً أنه تم انتزاعها من بيئتنا والقضاء عليها، على الأقل تلك هي قناعتي. إذ كيف يختفي نبات كان ينمو من تلقاء نفسه، لا أحد يزرع بذوره، ولا أحد يعتني به، بل في كل عام تسقط ثماره وبذوره على الأرض وتعود لتنمو من تلقاء نفسها في الموسم التالي، في دورة حياتية متواصلة منذ عشرات، بل مئات السنين؟ (لكن لحسن الحظ، إحدى الجدات في قرى نابلس احتفظت ببذور البندورة البرية، كاثرتها، ورثتها لابنتها، لتصلنا أخيراً). مثلها اختفت بذور بلدية أصيلة، مثل الخيار البلدي وبطيخ جنين (الذي جرى استعادة بذوره وإعادة زراعته) وأصناف القمح والشعير والذرة البلدية. البذور التي اختفت أو تكاد، هي بذور تلك النباتات التي كانت تزرع بعلاً، دون الاعتماد على الري، وتجود دون استعمال للكيماويات.
اليوم وفي نطاق ما نعيشه ونعرفه، بدأنا ندرك أن انتهاء الخابية كثقافة وتقليد، وانتهاء الحياة الفلاحية، كان شيئاً مبرمجاً، هدفه السيطرة على الغذاء، من أجل السيطرة على الشعوب، لأنه كما في الجيوش، من ينتج السلاح ويبيعه لجيش بلد ما، يسيطر على ذلك الجيش ويتحكم بقراراته، فإن من يسيطر على الغذاء يتحكم بالدولة والشعب (ولعل ما نشهده اليوم من حرب تطهير عرقي وإبادة ضد شعبنا في غزة، يعود أحد أسبابها إلى الرغبة في القضاء على القدرة الذاتية التي بنتها المقاومة الفلسطينية، وهو ما لا تريده دول الاستعمار أن نكون قادرين على إنتاج مقومات وجودنا بأنفسنا لنحمي بلدنا وأهلنا).
إن أحد أهم أدوات السيطرة على الغذاء تأتي من خلال السيطرة على البذور، من خلال انتاج بذور هجينة أو معدلة وراثياً، لا يستطيع المزارع بنفسه إعادة إنتاجها، ليصبح مضطراً لشراءها في كل موسم، وبالتالي يتم التحكم بإنتاج الغذاء، وبخاصة المحاصيل الاستراتيجية كالحبوب والأعلاف (الصويا والشعير مثلاً) وكذلك الخضار الأساسية. ولكون هذه البذور المهجنة والمعدلة وراثياً حساسة للعديد من العوامل، وزراعتها لا تنجح إلا باستعمال الأسمدة الكيميائية والمبيدات، التي غالباً ما تنتجها نفس الجهات المتحكمة بإنتاج البذور، فتكتمل هنا دائرة التحكم بإنتاج الغذاء، لنجد شعوباً ضحية سياسة تحكم أو لنقل ضحية حرب غير عسكرية، السلاح الرئيسي المستعمل فيها هو البذور – حرب بالبذور، يمكن من خلالها إثارة القلاقل والنزاعات وتجريد فقراء الفلاحين من أرضهم، لصالح الشركات الاحتكارية الاستعمارية، وتجويع الشعوب، كما هو حاصل في القارة الأفريقية وفي بعض بلدان جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
وللوصول إلى هذا التحكم والسيطرة كان لا بد من إخفاء أو تدمير البذور البلدية الأصيلة، التي استأنسها الناس منذ آلاف السنين، وأقلموها وطوروها وفقاً لاحتياجاتهم وظروفهم المناخية. بذور تميزت بالقدرة على الاستمرار في ظل مناخ محدد وربما قاسي، كما هو الحال في منطقتنا بلاد الشام، التي تتميز بأشهر صيف حارة بلا أمطار، فجرى تطوير الزراعة البعلية ببذورها التي تجود في هذه الظروف. ومع إخفاء وتدمير البذور الأصيلة اختفت التقاليد المرافقة لها والمعارف المتوارثة وعادات الغذاء، لتحل محلها عادات غربية، غريبة عن التراث والتقاليد، ليصبح معظم ما هو على مائدتنا من خارج ثقافتنا الغذائية التاريخية. فأصبح الهامبورغر والكوكا كولا المرافقة له، والكنتاكي والهوت دوغ وأسماء أغذية غريبة تسيطر على لافتات المحلات وأخرى أغرب، تملأ لوائح الطعام في المطاعم، لا يعرف كاتب هذا المقال تسعين بالمئة من أسماءها إن لم يكن أكثر، وتصبح هي المسيطرة على ثقافتنا الغذائية بمكوناتها، التي تأتي من الخارج، وتتراجع وتختفي أغذية ووجبات تقليدية محلية كانت قائمة على مكونات من انتاج محلي، ببذور محلية.
إن تحقيق هذه السيطرة والتحكم في الغذاء كان يتطلب الهيمنة على البذور، وذلك من خلال إحلال بذور الشركات؛ فكان لا بد من إخفاء البذور البلدية الأصيلة، بطرق خبيثة، كالبدء بتقديم الدعم الكبير لزراعة بذور الشركات وتوفير ما يلزم لزراعتها من مواد وآلات، قادت إلى ترك الفلاحين بذورهم الأصلية، والاعتماد على البذور "المدعومة"، وحين اختفت البذور البلدية (وبخاصة بذور الحبوب الرئيسية والاستراتيجية)، توقف الدعم ليجد الفلاح نفسه مجبراً على شراء بذور الشركات، المهجنة والمعدلة وراثياً والتي لا يستطيع إعادة إنتاجها، ليبقى مضطراً لشراءها وشراء ما يلزم لزراعتها من كيماويات من الشركات الاحتكارية.
كانت هذه واحدة من الاستراتيجيات الخبيثة للقضاء على البذور البلدية الأصيلة، وكانت هناك القوانين، التي تم إجبار الدول على تضمينها لقوانينها، والتي تمنع الفلاح من إنتاج بذوره وبيعها أو زراعتها في حقول بجانب حقول مزروعة ببذور الشركات، من خلال قوانين ما يعرف بحماية الملكية الفكرية، إلى جانب استراتيجيات أخرى، كانت كلها تهدف إلى القضاء على بذور الفلاحين الأصيلة، واستبدالها ببذور الشركات الاحتكارية ذات الجذور والامتدادات الاستعمارية، ولنا فيما حصل في العراق عام ٢٠٠٣ مثالاً، بعد احتلاله من العدو الأميركي، الذي عمل على تدمير مركز البذور العراقي، بعد أن أخذ ما يريد من تلك البذور، وأصدر الحاكم الأميركي بول بريمر يومها قانوناً كان يهدف في جوهره إلى منع الفلاح العراقي من الاحتفاظ ببذوره وإعادة زراعتها. ولتحقيق أهدافها في السيطرة والتحكم كان لا بد من شن "حرب على البذور" البلدية الأصيلة، ليصبح هناك جناحان للسيطرة على الغذاء من أجل السيطرة على الشعوب: حرب بالبذور المستوردة المهجنة وحرب على البذور البلدية.
محاصيل بلدية عالية الإنتاج
وفي سبيل مواجهة الاستراتيجية الاستعمارية الخبيثة والخفية، التي لا يدركها عامة الناس والكثير من المثقفين ورواد التنمية، لا بد من تبني استراتيجية تحررية في المسألة الغذائية، وهي استراتيجية يمكن أن تتبناها الحركات الاجتماعية والمنظمات التحررية وليس الحكومات (لأن غالبية حكومات بلادنا خانعة وتابعة للاستعمار، تتحالف معه لتحقيق مصالحها الضيقة، المعادية لرغبات شعوبها، وتشكل أدوات في يده وتتآمر على شعوبها لتحقيق أهداف الاستعمار). هذا يتطلب تبني سياسات زراعية بديلة لما هو قائم حالياً، يجري إحلالها تدريجياً مكان السياسات الحالية وبخطىً مدروسة، سياسات تقوم على الاعتماد على الموارد المحلية والمعارف المتوارثة، وأساسها البذور البلدية الأصيلة والعمل على تطويرها وإكثارها، مع تطوير ونشر أساليب زراعية بديلة للأساليب التي تخدم في جوهرها قوى الاستعمار.
إن تجاربنا الفلسطينية في التاريخ الحديث ومنذ الغزو الأنجلو-صهيوني لبلدنا وحتى حرب الإبادة الحالية على شعبنا في قطاع غزة، التي تشنها قوى الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، ومن خلال أداتهم "إسرائيل"، وبمشاركة حكومات عربية تابعة، حرب ستنتقل إلى الضفة الغربية قريباً وربما بشكل مختلف، تتطلب منا إعادة رسم التوجهات والسياسات، نحو تبني ما يُمَكِّنُنا من نفض غبار الاعتماد على قوى الاستعمار في توفير حاجاتنا الغذائية الأساسية، لأن التحرر يتطلب فيما يتطلب، القدرة على الاعتماد على الذات في انتاج جزء رئيسي من الغذاء الأساسي، الذي نحتاجه لصمودنا واستمرارنا، وفي سبيل ذلك نحتاج أن يكون أكلنا بلدياً كما بذارنا كذلك.
ومثل هذه الأهداف يمكن أن يحققها الشباب الوطني الواعي وبالعمل الجماعي المنظم، ضمن مجموعات شبابية تتشكل في الريف الفلسطيني، حيث تتوفر الموارد والإمكانيات لانطلاق هذا العمل. وفي سبيل ذلك، لا بد لمؤسسات العمل التنموي من إعادة هيكلة مشاريعها التنموية لخدمة هذا الهدف، والتوقف عن المشاريع "الاستعراضية"، التي لا تنتج غذاء حقيقيا وتكرس الاعتماد على مدخلات وبذور خارجية، والتي في غالبها تنتهي بانتهاء المشروع، بعد أن تستنفذ ملايين الدولارات.
إن العمل التنموي إن لم يكن مقروناً بفكر تنموي تحرري جذري عميق، فسرعان ما يتحول إلى عمل تخريبي، كما السلاح إن لم يكن مقروناً بوعي سياسي وطني فكري عميق، فسرعان ما ينحرف بسهولة ويتحول لخدمة الاستعمار.