خاص بآفاق البيئة والتنمية

غيّب الموت في 6 تشرين الأول الماضي نادرة شافع جرّار رائدة العمل التطوعي والخيري والتنموي في برقين، غرب جنين، بعد مسيرة حافلة.
كانت جرّار، التي وُلدت عام 1924، معلمتي الأولى، وعلامة بلدتنا الفارقة، وصانعة قصة مُلهمة لمن أحبَّ أن يتطوع، ويسلك درب العمل الخيري الوعر، دون أن ينتظر أي مقابل، أو يلتفت إلى مدى الوفاء من عدمه.
لم تعرف المرّبية التسعينية اليأس، ووصلت الليل بالنهار للتطوّع، وأفنت حياتها لخدمة برقين، وأسست واحدة من أوائل رياض الأطفال في جنين كلها، ثم دشّنت جمعية خيرية في بيتها.
التحقت جرّار وابنة عمها بمدرستنا التي ـتأسست عام 1921، مشترطة على مدرستها تعليمها القرآن والدين والحساب؛ احترامًا للعادات والتقاليد، ووقتها كان ثمن التعليم بنظام المقايضة بأساسيات البيت من برغل وحنطة وبيض.
لم يبتسم لها الحظ لإنهاء سنتها التعليمية الأولى عقب هجرة معلمتها خارج فلسطين، لكنها حرصت على خدمة قريتها وتحوّلت إلى تعلّم الحياكة والتطريز والأشغال اليدوية، وبدأت تنقلها لنسوة برقين في بيتها، وتموّل ذلك من جيبها الخاص.

روضة جمعية برقين
بدلاً من الوحل "روضة"
بما تملكه من مال افتتحت عام 1964 روضة لأطفال قريتها، وجمعت بين عملها في الخياطة والتعليم بالروضة، ولاحقًا صارت تعلّم النساء اللائي فاتهن قطار التعليم.
أثّر بها مشهد أطفال قريتها، عندما كانوا يلهون بالوحل في زقاق قريب؛ لانعدام مكان للعب، فاتخذت قرار إنشاء روضة في اليوم التالي، داخل بيتها بغرفة وحيدة ومقاعد من الحجارة وضعت عليها بعض القماش، ولم تلتفت لمعارضة والدتها في تأسيس عملٍ خاص.
حوّلت الراحلة الروضة عام 1969 إلى مؤسسة خيرية، وبدأت بالحصول على بعض الدعم والتموين من وزارة الشؤون الاجتماعية، ودعمَتها زوجة ابن خالتها "إيرانية الأصل"، التي كانت مفتشة رياض الأطفال في لواء عكا.
عندما دخلتُ الروضة، كان أقراني والأكبر منا يقولون "أنا في روضة الحاجة نادرة"، ويتباهون بذلك.

حين التحقت بأول مؤسسة تعليمية خاصة في بلدتنا عام 1979، ظلت ذاكرتي تختزن – حتى الآن- معظم أبناء البستان وزهراته.
كنا نتشارك معًا الغرفة الضيقة المجاورة للشارع الشرقي، ونتبادل لعبة الأرجوحة بلونيها الأبيض والأحمر، و"السحسالية"- الزحليقة- البيضاء والسوداء، وبعض الألعاب، ونتقاسم طِيبة الحاجة نادرة الكبيرة.
الغلبة كانت لزميلاتنا الصغيرات، فيما نحن الأطفال شكلّنا أقلية، وكانت المرّبية عايدة الشلبي تمنحنا القليل من الواجبات والكثير من اللعب، وتولّت السيدة زواهر جرّار تحضير طبق البرغل ووجبة من اللبن، وكنا نحظى ببعض الحليب، وفول الصويا، ولا أكاد أنسى حكاية الحاجة نادرة جرّار، ولا قصة روضتها ومبادرتها، وشغفها بالتطوع والعمل الخيري.

المربية نادرة جرار
تنمية شاملة
المختلف في روضتنا، التي تعطلّت دواليبها قبل سنوات، أنها كانت في بيت الحاجة نادرة، وجمعت بين تعليمنا، ومحو الأمية (خرج الكثير من النساء اللواتي حرمن من حقهم في التعليم)، وتدريب الفتيات على فنون ومهارات مختلفة (الخياطة، والحرف اليدوية، والقشيات، والمطرزات، والتصنيع الغذائي)، ورعاية الأمومة والطفولة بنشر التوعية في قضايا صحة الأم والطفل بين مئات النساء، والدروس الخصوصية، إذ طوّرت من قدرات الطلبة في اللغة الإنجليزية والرياضيات خصوصاً، إضافة إلى عيادة طبية لمداواة المرضى وجرحى انتفاضة الحجارة، قدَّمت العلاج لعشرات المرضى والجرحى وبأسعار رمزية.
وأول متجر كبير في البلدة حمل اسم "سوبر ماركت الشعب" (كان يستند إلى فكرة المساهمة المحدودة، وسجّل أول متجر من نوعه في البلدة، ورفع شعار البيع الكثير والربح القليل)، عدا عن بازارات، وفحص طبي مجاني، وأيام صحية، وأنشطة تعليم شعبي عندما كانت تُغلق المدارس إبان انتفاضة الحجارة، ثم مخيَطة، فمتجر ملابس، وهي تجربة لا تتكرر.

نادرة جرار رائدة التطوع والعمل الخيري
الرثاء والتكريم للحاجة نادرة يكون برأييّ بإحياء الجمعية الخيرية، التي كانت من أوائل مؤسسات جنين الأهلية، لكنها هرمت وتوقفت بمرض الراحلة، التي رهنت نفسها لبرقين، بعد أن كان قدرها البقاء دون رفيق درب أو أبناء، والعيش وحيدة، في نهاية تقطر حزننا.