"الاستيطان الإيكولوجي".. بدعة إجرامية جديدة لنهب أراضي الفلسطينيين واقتلاعهم منها
خاص بآفاق البيئة والتنمية
صنّف المستعمرون الإسرائيليون في الضفة الغربية، في السنوات الأخيرة، العديد من الأراضي والمناطق الزراعية والطبيعية باعتبارها منتجعات ومواقع للرحلات الترفيهية. وبحسب التصنيف الاستعماري دُمج العديد من الأراضي الفلسطينية المنهوبة في بيئتها الطبيعية؛ فسُوِّقت عملية نهب الأراضي بأنها شكل من أشكال "الاستيطان الإيكولوجي"، بما يتضمنه ذلك من مبانٍ خضراء وزراعات عضوية، ومناظر طبيعية جميلة وجذابة. في السنوات الأخيرة، وثقّت "آفاق البيئة والتنمية" عمليات طرد الفلسطينيين توثيقًا منهجيًا من مواقع الينابيع والمناطق الزراعية؛ فاقتلع الفلسطينيون وأُبعدوا عن ينابيعهم التي خدمتهم منذ مئات السنين. وكثيرًا ما يحوّل المستعمرون تلك الينابيع والمناطق الزراعية إلى مواقع دينية يهودية مزعومة، أو مواقع تذكارية لقتلى عمليات المقاومة الفلسطينية. المفارقة المأساوية المثيرة، أن الواقع الاقتصادي والزراعي الكولونيالي الحالي في الضفة الغربية يعد تكراراً مشابهًا إلى حد كبير للواقع الكولونيالي الذي ساد في فلسطين قبل عام 1948. ورغم ذلك، لم يقرأ الكثيرون تاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، بل إن بعضًا قرأه، لكنه لم يفهم المقروء، ولم يتعظ من عِبر تاريخ وجغرافية ذلك الاستعمار، ولم يتعلم أساليب وفنون مقاومة الحالة الكولونيالية البشعة في فلسطين؛ فارتضى أن يكون وكيلاً لسلطات الاحتلال ومتعاقدًا من "الباطن" معها.
|
 |
الإنتاج الزراعي الاستيطاني في الضفة الغربية يشكل حصة الأسد في الصادرات الزراعية الإسرائيلية إلى دول الاتحاد الأوروبي |
عمل المستعمرون الإسرائيليون في الضفة الغربية، في السنوات الأخيرة، بشكلٍ منظم ومنهجي، على تصنيف العديد من الأراضي والمناطق الزراعية والطبيعية الفلسطينية باعتبارها منتجعات ومواقع للرحلات الترفيهية.
وبحسب التصنيف الاستعماري دُمج العديد من الأراضي الفلسطينية المنهوبة في بيئتها الطبيعية؛ فسُوِّقت عملية نهب الأراضي بأنها شكل من أشكال "الاستيطان الإيكولوجي" – البيئي-، بما يتضمنه ذلك من مبانٍ خضراء وزراعات عضوية، ومناظر طبيعية جميلة وجذابة؛ علمًا أن الفلاحين الفلسطينيين، بممارساتهم الزراعية التقليدية المنسجمة مع البيئة الطبيعية المحيطة، هم الذين حافظوا، منذ قرون طويلة، على النظام البيئي والإيكولوجي المتوازن في تلك المناطق التي تميزت بكونها أراض زراعية خصبة زرعها الفلسطينيون بالمحاصيل المنوعة والغنية.
ومن ناحيتهم، يعمد قطعان المستوطنين إلى تسويق المشاهد الطبيعية الخلابة، وكأنها جزء من الحياة الطبيعية الخالية من أي صراع تحرري وطني يخوضه الشعب الفلسطيني.
المستوطنون يسوّقون أنفسهم بأنهم "حماة" البيئة والطبيعة، ويزعمون بأن الفلسطينيين يشكلون تهديدًا مستمرًا على البيئة وينشرون مواقع عشوائية لحرق النفايات، ويتركون مياه الصرف الصحي تتدفق نحو "إسرائيل"؛ علمًا أن السبب الأساسي لهذه الظواهر هو ما يسمى الإدارة المدنية التابعة للاحتلال، التي تعيق أو تمنع الفلسطينيين من تطوير بنية تحتية حديثة لمعالجة الأذى البيئي وحل مشكلة النفايات والمياه العادمة.
التخريب والتدمير المستمران اللذان يلحقهما المستوطنون بالطبيعة والأراضي الفلسطينية المفتوحة في أثناء نشاطهم الاستيطاني، لا يعني من قريب أو بعيد الأطر والجمعيات الاستيطانية؛ وما يثير السخرية أن العديد من هذه المؤسسات والجمعيات الصهيونية، مثل "جمعية حماية الطبيعة" و"الصندوق القومي اليهودي" تعرّف نفسها بأنها "خضراء" وتنخرط في ذات الوقت بعمق في الاحتلال.
السيطرة الاستعمارية على المشهد الزراعي أصبح سمة بارزة في السنوات الأخيرة في سياق توسع المستوطنات وانتشارها في جميع أنحاء الضفة الغربية.
وفي الأغوار الفلسطينية تحديدًا، بدأت هذه العملية قبلئذ، منذ السبعينيات والثمانينيات وحتى يومنا هذا، بسبب الطبيعة الزراعية لمستوطنات الأغوار.
إنشاء "المزارع الاستيطانية" أصبح أسلوبًا استعماريًا "مبتكرًا" لنهب الأراضي الفلسطينية وشرعنة عملية تهويدها.
فمنذ أكثر من عشر سنوات ابتكر الاحتلال (بواسطة ما يسمى "الإدارة المدنية") ما أسماه "الاستيطان الرعوي" وذلك لتكريس وتثبيت البؤر الاستيطانية التي أقامها المستوطنون في مختلف أنحاء الضفة الغربية، حيث سيطروا على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية وأنشأوا عليها مزارع لتربية ورعي المواشي، وبالتالي أُغلِقَت تلك الأراضي إغلاقًا محكمًا، ومُنِع الفلاحون الفلسطينيون من التوجه إليها لفلاحتها ورعي مواشيهم فيها، كما كانوا يفعلون منذ مئات السنين (هآرتس 6/9/2022).
وفي المرحلة الأولى، تهدف "الإدارة المدنية" إلى شرعنة نحو 40 بؤرة استيطانية "رعوية"، علمًا أنه يوجد حاليًا نحو 50 بؤرة مماثلة في الضفة الغربية تسيطر على 240 ألف دونم، أي نحو 7% من مساحة ما يسمى مناطق ج (المصدر السابق). والفلسفة الاستعمارية المستحدثة تتلخص في تعميق الاستيطان وسيطرته على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي بأقل عدد من المستعمرين.

الزراعات الاستيطانية آخذة في التوسع في مستعمرات الخليل
منتجعات وترفيه في ظل العدوان والنهب
في السنوات الأخيرة، وثقّت "آفاق البيئة والتنمية" عمليات طرد الفلسطينيين توثيقًا منهجيًا من مواقع الينابيع والمناطق الزراعية؛ فاُقتلع الفلسطينيون وأُبعدوا عن ينابيعهم التي خدمتهم منذ مئات السنين.
وكثيرًا ما يحوّل المستعمرون تلك الينابيع والمناطق الزراعية إلى مواقع دينية يهودية مزعومة، أو مواقع تذكارية لقتلى عمليات المقاومة الفلسطينية.
العديد من الأراضي المزروعة بالزيتون أصبحت مواقع اشتباكات عنيفة، حيث يواجه الفلسطينيون عصابات المستوطنين وبلطجتهم، علمًا أن الأخيرين يتمتعون بحماية جيش الاحتلال وشرطته.
اعتداءات المستوطنين بأشكالها المختلفة ضد الفلاحين والمزارعين الفلسطينيين تتواصل على مدار الساعة، وبخاصة الاقتلاع المنهجي للرعاة الفلسطينيين في الأغوار، والاجتثاث المنظم للأشجار وحرقها، وتخريب المحاصيل الفلسطينية ورشها بالكيماويات السامة أو حرقها.
ومع هذا العدوان الاستيطاني، تأتي حشود الإسرائيليين أسبوعيًا للإقامة في المنتجعات ومواقع الترفيه الاستيطانية، وزيارة مصانع النبيذ، والتنزه في المسارات السياحية.
جزء كبير من أراضي الأغوار تعرفه سلطات الاحتلال بأنه "محميات طبيعية" و"مناطق تدريبات عسكرية"، وبالتالي يُمنع الفلسطينيون، والرعاة والمزارعون الفلسطينيون خصوصاً، من دخول هذه المناطق.
جيش الاحتلال الإسرائيلي يعمل باستمرار على هدم المباني التي أقامها الفلسطينيون، فيما تنمو وتزدهر المستوطنات في المنطقة ويتمتع المستوطنون بحرية الوصول إلى الأراضي الزراعية المنهوبة وفلاحتها.
الأطر الاستيطانية الإسرائيلية تعمل بكثافة على توسعة سيطرة المستوطنين على مساحات إضافية كبيرة من الأراضي الفلسطينية، وبالتالي زيادة متواصلة في حجم البناء وتوسعة "حدود" البؤر والتجمعات الاستيطانية، وتعميق وتثبيت الوجود الاستعماري الإسرائيلي في مختلف أنحاء الضفة الغربية.
الهدف الأساسي من كل هذا التحرك الاستيطاني الواسع هو منع الانتشار المعماري الفلسطيني في ما يسمى مناطق "ج" (الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية المطلقة حسب التقسيم الاستعماري)، هذا الانتشار الذي تعدّه "إسرائيل" "غير قانوني".
المستوطنون يقيمون سنوياً المزيد من المنشآت والحيازات والمشاريع الزراعية الجديدة لحماية الأرض المستولى عليها من "الغزوات" الفلسطينية حسب زعمهم.
وفي العام الماضي أسسّت القيادات الاستيطانية ما أسمته "لجنة الأراضي" في كل مستوطنة، وذلك لتعزيز مشاريع الاستيطان وتحفيز نشاط ما يسمى "رواد الاستيطان الشاب".
"الصندوق القومي اليهودي" (بالعبرية: "كِيرِن كَييمِت لِيسرائِل") الذي يُعرّف نفسه بأنه مؤسسة "خضراء"، لا يكتفي بالدعم الفعال للنشاط الاستيطاني، بل كثّف جهوده، في السنوات الأخيرة، للاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية والسيطرة على أكبر مساحات ممكنة من الأرض الفلسطينية.
هذه المؤسسة الاستعمارية تُعد من أهم أدوات المؤسسة الصهيونية للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتهويدها في الأرض المحتلة عام 1948.
واستمرارًا لسياسته الاستعمارية طويلة الأمد، غيرَّ "الصندوق القومي" أخيراً لوائحه الداخلية حتى يتمكن من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية واستخدامها لتوسعة المستوطنات.

زراعات النخيل الإسرائيلية في الأغوار الفلسطينية
"المحميات" ذريعة للنهب والاقتلاع
عند إجراء مقارنة سريعة بين العدوان الإسرائيلي على المزارعين الفلسطينيين وأراضيهم بذريعة "حماية المحميات"، والنشاط الاستعماري اليهودي في ذات "المحميات" المزعومة، نجد أن الاحتلال يستخدم ذريعة "المحميات الطبيعية" والأحراج أداةً لنهب الأراضي واقتلاع أصحابها الفلسطينيين منها، وضمها إلى ما يسمى "سلطة الطبيعة" أو "أحراج إسرائيل"، أو تأجيرها لما يُسمى "مجلس الاستيطان الأعلى" الذي يبادر إلى اقتلاع الأشجار وبناء الوحدات الاستيطانية.
حاليًا يوجد 48 "محمية طبيعية" مزعومة في الضفة الغربية، صنّفَها الاحتلال الإسرائيلي أو منذ عهد الاحتلال البريطاني، مساحتها الإجمالية نحو 400 ألف دونم، أي حوالي 12٪ من الأراضي المسماة "ج" (حسب تقسيمات الأراضي التي شرعنتها الاتفاقيات الاستعمارية بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية).
وتشكل هذه "المحميات" أكثر من 7٪ من مساحة الضفة الغربية الإجمالية؛ علمًا أن مساحة ما يسمى المنطقة "ج" التي تقع تحت السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية المطلقة تساوي 61% من إجمالي مساحة الضفة الغربية.
وفي نيسان الماضي أعلن الاحتلال (بواسطة "إدارته المدنية") عن نحو 22 ألف دونم جنوب أريحا "محمية طبيعية"، وهي أضخم "محمية"، أُعلن عنها منذ 25 عامًا، وأسماها الاحتلال "محمية ناحال أوغ الطبيعية"، منها حوالي 6000 دونم أراض فلسطينية خاصة، والجزء الآخر أُعلِن عنها في أواخر الثمانينيات "أراضي دولة" جزءٍ من إعلان مشابه لعشرات الآف الدونمات في ذات المنطقة (جريدة "هآرتس، 24/ 5/ 2022)؛ وبالتالي نُهِبَت هذه الأراضي من أصحابها الأصليين الذين حُرموا من فلاحتها وزراعتها والرعي فيها.
المستعمرون اليهود يزرعون مساحات كبيرة في قلب العديد من تلك "المحميات" في الضفة الغربية، بما في ذلك مناطق الأغوار.
بمعنى أن الزراعات وتربية الدواجن الاستعمارية اليهودية والبناء الاستيطاني في "المحميات" ينسجم مع صيانة "المحميات الطبيعية"، بينما تشكل الزراعات الفلسطينية "تهديدًا مدمرًا" لتلك "المحميات".
المفارقة أن الاحتلال يتجاهل كونه المخرب الأساسي لما يسميه "المحميات الطبيعية" التي تحوي أراضٍ خصبة وتنوعًا حيويًا غنيًا؛ وذلك بتوسعه المعماري الاستيطاني عميقًا في قلب العديد من "المحميات".
كما أن مستعمراته وجدرانه الكولونيالية وتدريباته العسكرية دمرت وجرفت ونهبت مئات آلاف الدونمات من الأراضي المزروعة والخصبة؛ علاوة على تدميره مساحات واسعة من الغطاء الأخضر واقتلاعه، وسرقته مئات آلاف الأشجار المثمرة واجتثاثه مجموعة هائلة من النباتات البرية النادرة، وتهديده التنوع الحيوي في مختلف أنحاء الضفة الغربية.
وادي قانا تحديدًا، الذي تعاني بنيته الطبيعية الساحرة العدوان الاستعماري المدمر، يُعد من أهم وأبرز المواقع الطبيعية في الضفة الغربية المحتلة؛ إذ أنه يحوي تركيزًا هامًا من الينابيع، ومساحات كبيرة من الأحراج والغطاء النباتي الطبيعي النادر الذي انكمش وجوده كثيرًا في مناطق أخرى بالضفة.
وبخصوص الزراعة الفلسطينية في "المحميات الطبيعية"، من المعروف أن التقاليد المتوارثة في فلسطين تسمح بمواصلة فلاحة الأراضي ذات الملكية الخاصة المتواجدة في "المحميات الطبيعية"، والتي كانت تُعد أصلاً أراض زراعية، إلا أن الاحتلال زعم في السنوات الأخيرة تنفيذ الفلسطينيين أعمالًا تضر "المحميات".
وتحت غطاء "الحفاظ" على المساحات المفتوحة والمناطق الطبيعية والزراعية، عمد الاحتلال إلى إقامة ما أسماه "متنزهات وطنية"، كما الحال في منطقة قرية الولجة جنوبي القدس المحتلة.
لكن الواقع يقول إن الهدف الحقيقي من هذه "المتنزهات" هو الإمعان في سرقة الأراضي الفلسطينية وتهويدها واجتثاث المزارعين الفلسطينيين منها وحرمانهم من فلاحتها.

مستعمرة روتم في الأغوار- سيطرة الاحتلال على المشهد الزراعي الفلاحي الفلسطيني تحت غطاء الاستيطان الإيكولوجي
الزراعة الكولونيالية
في عشرات السنين الأخيرة، اتسعت في الضفة الغربية النشاطات والمشاريع الزراعية الكولونيالية الإسرائيلية اتساعاً كبيراً ومتسارعاً، وبخاصة في الأغوار وفي المناطق الجبلية بمحاذاة المستعمرات وحولها؛ حيث نجد، خصوصاً، أشجار الفاكهة والزيتون وكروم العنب.
وبطبيعة الحال، مُنِعَ الفلسطينيون من دخول تلك الأراضي الشاسعة التي نهبها الاحتلال من أصحابها الفلسطينيين وضمّها للمستعمرات.
مساحات كبيرة في الأغوار مزروعة إسرائيليًا بالنخيل ومحاصيل الدفيئات والمحاصيل الحقلية، فيما ينهب المحتلون موارد مائية ضخمة لزراعاتهم في الأغوار وفي المناطق الشمالية للبحر الميت.
وتبلغ حاليًا المساحة المزروعة في المستعمرات أكثر من مائة ألف دونم، إنتاجيتها أعلى بكثير من إنتاجية المساحات الفلسطينية، بسبب وفرة المياه والموارد الفلسطينية المنهوبة لصالح الزراعة الصهيونية في المستعمرات التي تنتج نسبًا كبيرة من المحاصيل التي تصدّرها "إسرائيل" إلى أوروبا، فعلى سبيل المثال، أغلب الرمّان المصدّر إلى أوروبا مصدره المستعمرات، إضافة إلى اللوز والزيتون والتمور.
واللافت أن الزراعات العضوية اتسعت كثيرًا في المستعمرات، فشملت الخضار والتفاح والتمور والبيض وألبان الماعز وغيرها من المنتجات العضوية التي تُسوّق إلى الخارج، وبخاصة إلى أوروبا، باعتبارها أُنتجت في "إسرائيل" وليس في مستعمرات الضفة (الأونكتاد، مصدر سابق).
وتُقدر قيمة السلع والمنتجات الزراعية التي تصدّرها شركات ومصانع المستعمرات إلى الاتحاد الأوروبي فقط بـ4.5 مليار دولار (الصباغ، زهير2018. الطبقة العاملة الفلسطينية).
وبحسب التقسيمات الكولونيالية للضفة الغربية (المثبّتة في اتفاقيات استعمارية وقعّت عليها أطراف فلسطينية رسمية)، فإن 61% من مساحة الأخيرة تقع تحت السيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية المطلقة (ما يسمى المنطقة "ج")، وتتمتع هذه المنطقة تحديدًا بـ 63% من موارد الضفة الزراعية، وأخصب أراضيها وأفضلها جودة للرعي؛ ومن المؤسف أن الفلسطينيين "ممنوعون" إسرائيليًا من استخدام معظم الأراضي الرعوية في مختلف أنحاء الضفة، بسبب التوسع الاستيطاني والمناطق العسكرية والجدار الكولونيالي.
حقائق محرجة
تشير المعطيات والحقائق الصارخة على الأرض إلى أنه في ظل السلطة الفلسطينية التي أفرزتها الاتفاقيات الاستعمارية مع الاحتلال، "ازدهر" الاستيطان الاستعماري وتعاظم عددُ المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية.
ففي أواسط الثمانينيات بلغ عدد المستعمرات في الضفة نحو 120، وارتفع عددها حالياً إلى نحو 150، فضلاً عن ما يسمى بالبؤر الاستيطانية التي تجاوز عددها المائة. مساحة المستعمرات ارتفعت من نحو 120 ألف دونم في أواسط التسعينيات، إلى أكثر من 350 ألف دونم حاليًا (زيادة بنحو 190%).
وفي مثل هكذا واقع كولونيالي، بلغ عدد المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية (ومعظمهم من المتدينين والمتعصبين أيديولوجيًا والمتطرفين) نحو 850 ألف (بما في ذلك القدس الشرقية)، أي ازداد عددهم نحو أربعة أضعاف عما كان لدى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 (حين لم يتجاوز 220 ألف بمن فيهم مستوطنو القدس الشرقية)، فتجاوز عددهم ما كان عشية احتلال معظم مناطق فلسطين عام 1948، حين بلغ عددهم آنذاك نحو 650 ألفاً (Statistical Abstract of Israel, No 64, 2013)، فاحتلوا 78% من مساحة فلسطين (التاريخية)؛ علمًا أن مساحة الضفة التي يستوطنها هذا العدد المتضخم من المستعمرين نحو 21% من إجمالي مساحة فلسطين (التاريخية).
مفارقة مأساوية وجهل المقروء
المفارقة المأساوية المثيرة، أن الواقع الاقتصادي والزراعي الكولونيالي الحالي في الضفة والقطاع يعد تكراراً مشابهاً إلى حد كبير للواقع الكولونيالي الذي ساد في فلسطين قبل عام 1948.
فالتحالف الكولونيالي الأنجلو- الصهيوني آنذاك، دمرَّ تدميراً منهجياً، الاقتصاد الزراعي الفلسطيني التقليدي، وذلك بتسريب الأراضي الزراعية الفلسطينية للمستوطنين الصهاينة، وبخاصة من بعض الملاّكين العرب الكبار.
كما سيطر المشروع الصهيوني (قبل عام 1948)، على نحو منظم وبالتدريج، على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة التي اقتُلِع الفلاحون الفلسطينيون منها، لإنشاء المستعمرات عليها، وهذه الأخيرة اتسمت، في المجال الزراعي، بتنوع الأنماط الاقتصادية- الإنتاجية- الاجتماعية؛ من قبيل "الكيبوتس" و"الموشاف" وغيرها من التعاونيات الزراعية الهادفة إلى مواجهة مقاومة السكان الفلسطينيين الأصليين.
لهذا الغرض، وعبر استفادته من المناخ الدولي لصالحه، اعتمد المشروع الصهيوني على تدفق رؤوس الأموال الصهيونية لتعزيز الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين والاستيطان الصهيوني وشراء الأراضي الزراعية الخصبة.
كما خطط للاستيلاء على أهم الفروع الاقتصادية الفلسطينية آنذاك، وفي طليعتها فرع الحمضيات (الصباغ، زهير، مصدر سابق).
وكما يحدث حالياً، عمد الصهاينة منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، إلى الترويج للمنتجات الصهيونية وإغراق السوق الفلسطيني بها، وفي ذات الوقت، قاطعوا المنتجات الفلسطينية التي مُنِعَت من دخول السوق الاستيطاني الصهيوني.
وبالتوازي، وبهدف تدمير الاقتصاد الزراعي الفلسطيني ومنع تطوره وبالتالي منافسته للسلع الصهيونية، فرضت سلطات الاستعمار البريطاني ضرائب ورسوم باهظة على الأراضي الفلسطينية والإنتاج الزراعي الفلسطيني.
وأغرقت السوق بالمحاصيل المستوردة، ومنعت إصدار تصاريح للصناعات الزراعية وللصادرات الفلسطينية.
إذن، الواقع الاستعماري النهبوي اليوم الذي هَشَّمَ ويهشم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، ليس سوى إعادة إنتاج، أشد إحكامًا، للواقع الاستعماري الذي ساد قبل عام 1948.
ومع ذلك، لم يقرأ الكثيرون تاريخ الاستعمار الصهيوني في فلسطين، بل إن بعضًا قرأه، لكنه لم يفهم المقروء، ولم يتعظ من عِبر تاريخ وجغرافية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ولم يتعلم أساليب وفنون مقاومة الحالة الكولونيالية البشعة في فلسطين؛ فارتضى أن يكون وكيلاً لسلطات الاحتلال ومتعاقدًا من "الباطن" معها.
وما أشبه الحاضر بالأمس الاستعماري، فالعامل الأساسي الذي أدى إلى إفقار معظم الفلاحين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967 أو تحولهم إلى عمال يخدمون الاقتصاد الإسرائيلي، بعيدًا عن أماكن سكنهم، أو إلى أُجراء في خدمة الاقتصاد الاستهلاكي بالمدن الفلسطينية، أو إلى عاطلين عن العمل- العامل الأساسي لذلك هو نهب الاحتلال لأراضيهم ومواردهم الزراعية وبالتالي تحطيم الزراعة الفلسطينية، بمعنى أن بروز فائض في اليد العاملة الفلسطينية الزراعية المستغنى عنها في الريف، ليس نتيجة بطالة عانت بسببها اليد العاملة الزراعية، ما يؤدي غالباً إلى انسلاخها عن الزراعة وانتقالها للعمل يداً عاملة رخيصة في المدينة، كما هو الحال في العديد من بلدان "العالم الثالث"، بل إن هذا الفائض أفرزته إفرازاً مباشرًا عملية تحطيم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، وإضعاف البرجوازية الزراعية بسبب المصادرات الواسعة للأراضي ونهب الموارد المائية.
وبالتالي، لعبت هذه العملية الأخيرة دورًا أساسيًا في الولادة غير الطبيعية والمشوّهة للعمال الفلسطينيين، وحددت طبيعة اليد العاملة الفلسطينية ودورها في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، مع غياب البديل الاقتصادي المحلي الذي كان يمكن أن يستوعب فائض اليد العاملة في الريف الفلسطيني.
وفي المقابل، أتاح الاحتلال للشريحة الفلسطينية الوسيطة (الكومبرادور) بأن تتوسع وتهيمن، ومنحها التسهيلات اللازمة للعب دور المروج لسلعه ومنتجاته الزراعية في الأسواق الفلسطينية.
أما الأمس الاستعماري الأنجلو- صهيوني (قبل عام 1948)، فيُعد النسخة الأصلية غير المنقّحة لما ورد سابقًا حول الواقع الاستعماري الحالي؛ إذ أن هجرة الفلاحين الفلسطينيين من الريف إلى المدينة، وبالتالي توسع الطبقة العاملة الفلسطينية آنذاك، نتج بسبب تسريب الأراضي الزراعية إلى المستعمرين الصهاينة الذين اقتلعوا الفلاحين من أراضيهم وأرغموهم على التحول إلى عمال غير مهنيين.
الخلاصة
أثبتت الوقائع التاريخية الفلسطينية البعيدة والقريبة، والمؤشرات السياسية الأمنية والاقتصادية الحالية، أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، لن يتخلى عن هيمنته اللصوصية على الأرض والموارد الفلسطينية، وسيواصل تثبيت وجوده واستيطانه، ما دام مشروعًا مريحًا، بل ومربحًا اقتصاديًا، وما دام يفرض وجوده بالقوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة (بالوكالة)، ولا يواجه بمقاومة مدروسة، منظمة ومنهجية، تؤلمه وتخلخل معادلة أرباحه وخسائره الكولونيالية لصالح الخسائر بأشكالها كافة.
لذا، لا يستخفنّ أحد بعقولنا، بالقول إن الشعب الفلسطيني سيتمتع يومًا ما بالسيادة على أرضه وموارده الطبيعية، عن طريق عملية سياسية يتحكم الاحتلال بكل تفاصيلها ومكوناتها.
الوضع الطبيعي لشعبٍ تحت الاحتلال، يَفترض وجود مقاومة منظمة للأخير بمختلف أشكالها، بما في ذلك المقاومة الاقتصادية التي تتجلى في بعض جوانبها بالتربية التنموية المقاومة في المدارس والجامعات وأماكن العمل، والحماية الشعبية لصغار الفلاحين والمزارعين واستهلاك منتجاتهم، ومقاطعة منتجات الاحتلال.